يومئذ يــفرح المؤمنون

﴿وَیَوۡمَىِٕذࣲ یَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ﴾ 8/8/1443هــــ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لَا رَبَّ لَنَا سِوَاهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ؛ فَالْخَلْقُ خَلْقُهُ، وَالْأَمْرُ أَمْرُهُ، سبحانه وبحمده وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ: فاتقوا الله عباد الله: ﴿إنَّ ٱلۡمُتَّقِینَ فِی جَنَّـٰتࣲ وَنَهَرࣲ ۝٥٤ فِی مَقۡعَدِ صِدۡقٍ عِندَ مَلِیكࣲ مُّقۡتَدِرِۭ ﴾ أيها المسلمون: حرب عظيمة بين أمتين عظيمتين فريق وثنيون مشركون وآخرون أهل كتاب يقتتلون فيشغلون الشعوب بأخبارهم فتضع الحرب بينهم أوزارها وتكون الغلبة للوثنين المشركين على أهل الكتاب. كانت هذه الحرب قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام وفي أوائل عصر النبوة، والرسول ﷺ بمكة قبل الهجرة، حين اقتتلت فارس والروم _وكانتا أعظم دولتين_ فغلب الوثنيون على أهل الكتاب من الروم وهزموهم شر هزيمة وكانت قُرَيشٌ تُحِبُّ ظُهورَ فارِسَ؛ لأنَّهم وإيَّاهم ليسوا بأهلِ كتابٍ، ولا إيمانٍ ببعثٍ، متفائلين بذلك على المسلمين ويقولون:  إِذا كان الرّوم أهلَ كتابٍ وغلبَتْهم الفرْسُ وهُمْ أهْلُ أوْثَانٍ فهَذا مِفتَاح نصْرٍ لَنا أَنْ نغْلِبَ المسْلِمِينَ الَّذِين هُمْ أهْلُ كِتَابٍ ونَحْنُ أهْلُ أوْثَانٍ. فنزل مطلع سورة الروم يومَ كانت فارسُ قاهرينَ للرُّومِ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿الۤمۤ ۝١ غُلِبَتِ ٱلرُّومُ ۝٢ فِیۤ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَیَغۡلِبُونَ ۝٣ فِی بِضۡعِ سِنِینَۗ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُۚ وَیَوۡمَىِٕذࣲ یَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ۝٤ بِنَصۡرِ ٱللَّهِۚ یَنصُرُ مَن یَشَاۤءُۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ ۝٥﴾ فخرَج أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ يَتلوها في نواحي مكة موقنا بوعد الله أن سيفرح المؤمنون وأن الروم ستغلب فارس في بضع سنين فقال له المشركون: اجعَلْ بيْنَنا وبيْنَك أجَلًا؛ فإنْ ظهَرْنا كان لنا كذا وكذا، وإنْ ظهَرْتُم كان لكم كذا وكذا، فجعَل أجَلًا خمسَ سِنينَ، فلمْ يَظهَروا، فذكَر ذلك للنبيِّ ﷺ، فقال: ألَا جعَلْتَه إلى دُون العَشر- قال الرَّاوي: والبِضعُ ما دونَ العَشرِ- " وفي عَام الْحُدَيْبِيَة وبعد أقل من عشر سنين التقى الجيشان فارس والروم مرة أخرى وكانت الغلبة للروم ففرَح المؤمِنونَ بنَصرِ الله وتغليبِه مَن له كتابٌ على مَن لا كتابَ له، وغَيظِ مَن شَمِت بهم مِن كُفَّارِ مكَّةَ. وإظهار صِدقِ المؤمنينَ فيما أخبَروا به المُشرِكينَ مِن غَلَبةِ الرُّومِ. عباد الله: قبل قرون طويلة وانتصارا لملتهم وعقيدتهم، نسي كفار قريش وطنيتهم وعروبتهم لم تقيدهم حدود ولم يمنعهم غرورهم وتكبرهم أن يوالوا من شاكلهم على عقيدتهم وإن بعدت ديارهم واختلفت ألسنتهم. بل عادَوا لأجلها أصهارهم وأرحامهم وأقربَ الناس إليهم ممن يجمعهم بهم وطن أو لسان أو نسب. مستغلين ما يجري من أحداث لإغاظة المؤمنين ولو بالأقوال وتثبيط عزائمهم. وكفار اليوم مثلهم تشابهت قلوبهم واتحدت صفاتهم ولم يختلف إلا زمانهم. وهم وإن اختلفوا وتفرقوا تبعا لمذاهبهم ومصالحهم فعلى عداوة المسلمين تجتمع كلمتهم ويتوحد صفهم. وفي كتاب الله وبعد تحذير المؤمنين من موالاتهم وصفهم الله بأن:  " بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ" مع أنهم فريقان مختلفان يهود ونصارى قال سبحانه: ﴿ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ﴾ أي: إنَّ بعضَ اليهودِ أولياءُ بعضٍ، وبعضَ النصارى أولياءُ بعضٍ؛ فأهلُ كلِّ ملَّةٍ يتناصرون ويتعاضَدونَ فيما بينهم، وكِلتا المِلَّتين؛ يكونون يدًا واحدةً على مَنْ سِواهم قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾  عباد الله: لَمَّا عَزْمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ عَمَدَ حاطب بْن أَبِي بَلْتَعَةَ رضي الله عنه، فَكَتَبَ كِتَابًا، وَبَعَثَهُ مَعَ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، يُعْلِمُهُمْ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ غَزْوِهِمْ، لِيَتَّخِذَ بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَته ولم يفعله كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دينه ولا رضى بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فأنزل الله قوله تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ عَدُوِّی وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِیَاۤءَ تُلۡقُونَ إِلَیۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُوا۟ بِمَا جَاۤءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ...﴾ وأبان سبحانه بعدها أنهم إن ظفروا بمن أسر لهم بالمودة لا يحفظون معروفهم  بل يظهرون عداوتهم و ويمدوا إليهم أيديهم بالقتل والسبي، وألسنتهم بالسب والشتم، وهم قد تمنَّوْا -على كل حال- لو يكفرون مثلهم. قال سبحانه: ﴿إِن یَثۡقَفُوكُمۡ یَكُونُوا۟ لَكُمۡ أَعۡدَاۤءࣰ وَیَبۡسُطُوۤا۟ إِلَیۡكُمۡ أَیۡدِیَهُمۡ وَأَلۡسِنَتَهُم بِٱلسُّوۤءِ وَوَدُّوا۟ لَوۡ تَكۡفُرُونَ﴾ وفي سورة آل عمران أبان سبحانه أن الكفار لا يُقَصِّرون في طلب مضرة المسلمين وفساد حالهم ولذلك نهى جل وعلا عن اطلاعهم على أسرار المسلمين وأبان للمؤمنين بغضهم لهم وغلهم عليهم وفرحهم بما يصيبهم قال سبحانه: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ بِطَانَةࣰ مِّن دُونِكُمۡ لَا یَأۡلُونَكُمۡ خَبَالࣰا وَدُّوا۟ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَاۤءُ مِنۡ أَفۡوَ ا⁠هِهِمۡ وَمَا تُخۡفِی صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ قَدۡ بَیَّنَّا لَكُمُ ٱلۡـَٔایَـٰتِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾ لا يحبون مسلما ولو أحبهم ولحقدهم يعَضُّون أطراف أصابعهم من شدة الغضب؛ لما يرون من ألفة المسلمين واجتماع كلمتهم، وإعزاز الإسلام والمسلمين. ﴿هَـٰۤأَنتُمۡ أُو۟لَاۤءِ تُحِبُّونَهُمۡ وَلَا یُحِبُّونَكُمۡ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱلۡكِتَـٰبِ كُلِّهِۦ وَإِذَا لَقُوكُمۡ قَالُوۤا۟ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡا۟ عَضُّوا۟ عَلَیۡكُمُ ٱلۡأَنَامِلَ مِنَ ٱلۡغَیۡظِۚ ﴾ وفوق ذلك وزيادة عليه: ﴿إِن تَمۡسَسۡكُمۡ حَسَنَةࣱ تَسُؤۡهُمۡ وَإِن تُصِبۡكُمۡ سَیِّئَةࣱ یَفۡرَحُوا۟ بِهَاۖ ﴾ ذِكرُ المسِّ مع الحسنة، والإصابة مع السيِّئة للإيذانِ بأنَّ مدارَ مَساءتِهم أدْنى مراتبِ الحسنةِ، ومناطَ فرحِهم تمكن وتمام إصابةِ السَّيئةِ، فدلَّ هذا النَّوع البليغ على شِدَّة العداوة، إذ هو حِقْد لا يذهب عند نُزول الشَّدائد، بل يَفْرحون بنُزولِ الشَّدائد بالمؤمنين.   أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿لَّا یَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ أَوۡلِیَاۤءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۖ وَمَن یَفۡعَلۡ ذَلِكَ فَلَیۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِی شَیۡءٍ إِلَّاۤ أَن تَتَّقُوا۟ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةࣰۗ وَیُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِیرُ﴾     الـــخطــبـة الـــــثانــية الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ أما بعد: عباد الله: عند قول الله تعالى: ﴿وَیَوۡمَىِٕذࣲ یَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ۝٤ بِنَصۡرِ ٱللَّهِۚ ..﴾ قال بعض أهل العلم عندها: يفرَحُ المؤمِنونَ بنَصرِ الله وتغليبِه مَن له كتابٌ على مَن لا كتابَ له وأنْ يغلبَ العدوُّ الأصغرُ؛ لأنَّه أيسرُ مؤنةً، ومتى غلَب الأكبرُ كثُر الخوفُ منه، ويفرح أنَّه ولَّى بعضَ الظَّالِمينَ بَعضًا، وفرَّقَ بيْنَ كَلِمتهم حتَّى تفانَوا وتناقَصوا، ويفرح أن فَلَّ هؤلاءِ شوكةَ هؤلاء، وفي ذلك قوَّةٌ للإسلامِ. " الزمخشري وابن عطية بتصرف" وقال الشيخ بن عثيمين رحمه الله: في هذه الآية جوازُ فَرَحِ المؤمِنينَ بانتِصارِ بَعضِ الكُفَّارِ على بَعضٍ، إذا كان في ذلك مَصلحةٌ للإسلامِ. ا.هــ وحصول هذا السرور لما يصيب العدو المحارب وحصول البلاء بهم جاء شفاءً لما في قلوب المؤمنين من الغم والهم والغَيظِ الحاصِلِ في صدورِ المُؤمِنينَ مِن ألَمِ النَّكثِ والطَّعنِ الذي فعلوه بالمسلمين؛ وذَهاب الغيظ من صدور المؤمنين أمرٌ مَقصودٌ للشَّارِعِ، مطلوبُ الحُصولِ، ﴿وَیَشۡفِ صُدُورَ قَوۡمࣲ مُّؤۡمِنِینَ ۝١٤ وَیُذۡهِبۡ غَیۡظَ قُلُوبِهِمۡۗ﴾ وبعد أيها المسلمون: ومع تقلب الأحوال واظطراب الأمور فربنا تبارك وتعالى يقول: ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ نعم ياعباد الله خذوها بيقين "لله الأمر من قبل ومن بعد" وإن حلل السياسيون، أو مكر الماكرون، وسعى بسعيهم المصلحون، فلا تعلِّلوا الوقائع بغيرِ أسبابها وأنزلوا حوادث الأيام منازلها وارفقوا بأنفسكم ولا توجعوها بالآلام واعمروا قلوبكم بذكر الله وما والاه لتحيوا كراما تموتوا كراما.  
المرفقات

1646942361_﴿وَیَوۡمَىِٕذࣲ یَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ﴾.docx

المشاهدات 1017 | التعليقات 0