يقلبُ اللهُ الليلَ والنهارَ-26-12-1444ه-مستفادة من خطبة الشيخ خالد القرعاوي
محمد بن سامر
يقلبُ اللهُ الليلَ والنهارَ-26-12-1444ه-مستفادة من خطبة الشيخ خالد القرعاوي
الحمدُ للَّهِ حمدًا كثيرًا طيِّبًا مبارَكًا فيهِ مبارَكًا عليْهِ كما يحبُّ ربُّنا ويرضى.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ-صلى اللهُ وَسَلَّمَ وبَارَكَ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ-.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَـمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أَمَّا بَعْدُ: فيا إخواني الكرامُ:
حياتُنا مَرَاحِلٌ، ونحنُ في الدُّنيا بين مُستعدٍّ لِلرَّحيلِ ورَاحِلٍ، والَّليلُ والنَّهارُ يَتعاقَبَانِ لا يفتُرانِ!
عامٌ من أَعمارِنَا تَصرَّمتْ أَيَّامُهُ! لِنُدرِكَ يَقِينًا أنَّ هذهِ الدُّنيا لَيسَتْ بِدَارِ قَرَارٍ! فَهَنِيئًا لِمَنْ أَحْسَنَ واستقامَ، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ).
في تَوديعِ عَامٍ، فُرَصٌ لِلمُتَأَمِّلينَ، وَذِكْرَى لِلمُعْتَبِرِينَ، كَمَا قالَ الرَبُّ الكَريمُ: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ*إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ)، والكيِّسُ العَاقِلُ حِينَ يُودِّعُ مَرحَلَةً مِنْ عمُرهِ ويَستَقبِلُ أُخرى فهو بِحَاجَةٍ لِمُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ، وَتَقْييمِ مَسَارِها في مَاضِيها وَحَاضِرِها ومُسْتَقْبلِها، يقولُ ابنُ القيِّمِ-رحمَهُ اللهُ-: "وهلاكُ القَلْبِ إنَّما هُوَ مِن إهمَالِ مُحاسبَةِ النَّفْسِ ومِن مُوَافَقَتِهَا واتِّباعِ هَوَاهَا"، عن ابنِ عُمَرَ-رضي الله عنهما-قالَ: "أَخَذَ النَّبِيُّ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-بِمَنْكِبي فَقَالَ: كُنْ في الدُّنيا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَو عَابِرُ سَبِيلٍ"، فَعَابِرُ السَّبيلِ يَسْتَكْثِرُ مِن زَادِ الإيمَانِ، ويَتَقلَّلُ مِنْ الدَّنيا، عَابِرُ السَّبيلِ لا يُدَنِّسُ نَقَاءَ النَّهارِ بذنوبِهِ وآثامِهِ، ولا يُقَصِّرُ صفاءَ الَّليلِ بِغَفْلَتِهِ وَمَنَامِهِ، إنْ دُعيَ إلى طَاعةٍ أَجَابَ وَلَبَّى، وإنْ عَلم مَوطِنَ مَعصِيَةٍ خافَ وَخَشِيَ رَبَّهُ، عَن الْحَسَنُ البَصريُّ-رحمهُ اللهُ-قال: "لا تَلْقَى الْمُؤمِنَ إلَّا يُحَاسبُ نَفْسه، والفَاجِرُ يَمْضِي قُدُمًا لا يُحاسبُ نَفْسَهُ".
إخواني: وَاقِعُ الكثيرينَ منَّا! يحكِي أنَّ الدُّنيا قد عَشَّشَتْ في القُلُوبِ، إنْ كانَ شيءٌ لِلدُّنيا بَادَرنا إليهِ مُبكِّرينَ، وإنْ كَانَ لِلآخِرَةِ فإلى اللهِ الـمُشتكى ممَا تَرَوْنَ! والشَّاهِدُ على ما أقُولُ: تَأَمَّل إذَا رُفِعَ الأَذَانُ: هَلْ أَنْتَ مِنَ الْمُبكِّرينَ الْمُسارِعِينَ للصَّلَوَاتِ؟ فَهَنِيئًا لَكَ تِلْكَ الْمُبَادَرَةُ! مَرَّ عَليكَ فِي عَامِكَ أكثرُ من ألفٍ وسبعِ مئةِ صلاةٍ، كَمْ حَفِظتَ مِنْهَا؟! بَلْ كَمْ ضيَّعتَ مِنْهَا بِعُذْرٍ وَبَغَيرِ عُذْرٍ؟ كَمْ صَلاةً أَدَّيتَها على عُجَالَةٍ وَأَنْتَ مَشغوُلُ البالِ؟
يا عبد الله: يَمَرُّ عليكَ في عَامِكَ ما يقاربُ خَمْسِينَ جُمُعَةٍ! فكمْ أُثِبْتَ منها بأجرِ آلافِ السنينِ، على اغتسالِك ومشيِك وقُربِك من الخطيبِ، واستماعِك وتبكيرِك مع المبكرينَ؟! أمْ عُدتَ منها خاليًا صِفْرَ اليدينِ؟!
كَمْ حَصَّلتَ فِي عَامِكَ مِنْ الأَمْوَالِ؟ وَكَمْ أَنْفَقْتَ مِنْها فِي سَبِيلِ الهَوَى وَالشَّهَوَاتِ؟ ثُمَّ اسْأَلْ نَفْسَكَ كَمْ أَنْفَقْتَ مِنْها لِلهِ، وَلِدِينِهِ، ولإخوانِك الْمُحتاجين؟ عَن مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ-رضِيَ اللهُ عَنْهُما-قَالَ: "أَتَيتُ النَّبِيَّ -صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-وَهُوَ يَقرَأُ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)، يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي، مَالِي، وَهَلْ لَكَ يَا ابنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إلَّا مَا أَكلْتَ فَأَفْنَيتَ، أَو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أو تَصَدَّقتَ فَأَمْضَيتَ".
مَرَّ عَليكَ عَامٌ كَامِلٌ! فَمَا نَصِيبُ القُرآنِ الكَرِيمِ فِي حَيَاتِكَ؟ كَمْ خَتْمَةً قَرَأتَهَا؟ كَمْ آيَةً تَدَبَّرْتَهَا؟ لِنَحذَرَ أنْ نَكُونَ مِمَّن شَكَاهُمُ الرسولُ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-للهِ حِينَ قَالَ: (يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)، فَاللهُمَّ اجْعَلْنا والمسلمينَ مِنْ أَهْلِ القُرآنِ.
مَرَّت عَلى أَقَارِبِكَ أَفْرَاحٌ، وَأَحزانٌ! فَهَلْ شَارَكْتَهُم وَوَصَلْتَهُمْ؟ -وَصَلَنا اللهُ وإياكم والمسلمينَ بِرحمتِهِ، وَأَعَاذَنَا وإياكم والمسلمينَ مِن القَطِيعَةِ-، وَالِدَاكَ بَهْجَةُ دُنْياكُ، وذُخرُ أُخَرَاكَ! هلْ لَزِمْتَ رِجْلَيْهِمَا فَثمَّ الجَنَّةُ! (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا*اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا).
أَرَأَيْتُمْ إخْوانِي كَمْ نَحنُ مُقَصِّرونَ فِي جَنْبِّ اللهِ؟ وَغَافِلُونَ عَنْ أوَامِرِهِ وَنَوَاهِيه؟ فاللهم إنِّا نسألكُ لنا وللمسلمينَ حُسْنَ القَولِ وَالعَمَلِ والختامِ.
أستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمينَ...
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:
فيا أخي: على أيِّ شيءٍ سَتُطوَى صَحَائِفُ العامِ؟! فَلَعَلَّهُ لم يبقَ من أعْمَارِنَا إلاَّ أَيَّامٌ، فَلْنَسْتَدْرِكْ عُمُرًا أَضَعْنَا أوَّلَهُ، فَقد قَالَ نَبيُّنا-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-: "اغتنم خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرمِكَ، وَصِحتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وغِنَاكَ قَبْلَ فَقرِكَ، وفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وحياتَكَ قَبْلَ مَوتِكَ".
مَنْ غَفَلَ عن نَفْسِه ضَاعت أوقَاتُهُ، ثم اشتدَّت عليه حَسَرَاتُهُ، عجيبٌ حالُنا: نُوقنُ بالْمَوتِ ثُمَّ نَنْسَاهُ! ونَعرفُ الضَّرَرَ وَنَغْشَاهُ! ونَخْشَى النَّاسَ واللهُ أَحَقُّ أَنْ نَخْشَاهُ! نَغْتَرُّ بِالصِّحَةِ وَنَنْسَى السَّقَمِ! ونَزْهُو بِالشَّبَابِ ونَنْسى الْهَرَمِ! يَطُولُ العُمُرُ ويَزْدَادُ الذَّنْبُ! ويَبْيَضُّ الشَعْرُ وَيَسْوَدُّ القَلْبُ! إلاَّ مَن رَحِمَ الرَّبُّ! أَلَمْ يَأْنِ لنا أنْ نُدرِكَ حقيقةَ هذه الدَّارِ؟! (يا قومِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)، ذَهَبَ عامُنا شاهدًا لنا أو علينا، فَاستكثرْ من الحَسَنَاتِ، وَتَدَاركْ ما مَضى من السَيِئَاتِ، قبل أنْ يُفَاجِئَكَ هادِمُ اللذَّاتِ، فقد قالَ رسولُ الله-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-: "كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفسَهُ فَمُعتِقُها أو مُوبِقُها".
كُنْ حذِرًا من تضييعِ الأعمارِ والأوقاتِ فيما يُغضبُ اللهَ، يَا مَنْ أَقْعَدَهُ الحِرمَانُ عن الطَّاعَةِ، وأثقلَهُ العِصيانُ عن الجُمُعَةِ والجَمَاعَةِ، إلى متى وأنتَ من المعرضينَ؟! أَنَسِيتَ سَاعةَ الاحْتِضَارِ؟! حِينَ يَثقُلُ مِنْكَ الِّلسَانُ، وَتَرْتَخِي اليَدَانُ، ويَبكي عليكَ الأَهلُ والولدانُ، فـ "لا إلهَ إلاَّ اللهُ، إنَّ للموتِ لسكراتٍ"، أين مَن عَاشرنَاهم وأَلفنَاهم؟! أين مَن مِلنَا إليهم وأحببنَاهم؟! كم من والِدٍ عَزيزٍ دَفنَّاهُ؟! وقريبٍ أَضجعنَاهُ؟! وشَابٍّ في قبرِهِ واريناهُ؟! فهل رَحِم الْمَوتُ مَريضًا لِضعفِ حالِه؟! أو صاحبَ عِيالٍ لأجْلِ عيالِه؟! أو شَابًّا فِي زَهْرَةِ شَبَابِهِ؟ لا واللهِ، أتاهم الْمَوتُ، فأخلى منهم المجالسَ والمساجِدَ، لا يَمْلِكُونَ لأنفُسِهِم ضَّرًّا ولا نَفْعَا!
فيا عبدَ الله: دَعِ اللهوَ جَانِبًا، وقُمْ إلى ربِّكَ نادمًا، وقِفْ على بَابِهِ تائبًا، "فَإنَّ الله عزَّ وجلَّ يَبسُطُ يَدَهُ بالليلِ لِيتُوبَ مُسيءُ النَّهارِ، ويَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهارِ لِيَتُوبَ مُسيءُ الليلِ، حتى تطلعَ الشَّمسُ من مَغربِها"، فأحسنْ فيما بَقِيَ، يُغفرْ لك ما قد مَضَى، (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
يا حيُّ يا قيومُ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ، أسألكَ بأسمائِك الحُسْنَى، وصفاتِك العُلَى، يا ولي الإسلامِ وأهلِه ثبتْنا والمسلمينَ به حتى نلقاكَ.
اللهم إنَّي أسألك لي ولوالدي وأهلي وللمسلمينَ من كلِّ خيرٍ، وأعوذُ وأعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، وأَسْأَلُكَ لي ولهم العفوَ والْعَافِيَةَ في كلِّ شيءٍ.
اللهم أصلحْ وُلاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ وبطانتَهم، ووفقهمْ لما تحبُ وترضى، وانصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالمينَ غانمينَ.
اللهم صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ، والحمدُ للهِ ربِ العالمينَ.
المرفقات
1689328778_يقلبُ اللهُ الليلَ والنهارَ-26-12-1444ه-مستفادة من خطبة الشيخ خالد القرعاوي.docx
1689328778_يقلبُ اللهُ الليلَ والنهارَ-26-12-1444ه-مستفادة من خطبة الشيخ خالد القرعاوي.pdf