يريدون أن يبدلوا كلام الله
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1435/10/10 - 2014/08/06 18:41PM
من صفات المنافقين (9)
[يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ الله]
12/10/1435
الْحَمْدُ للهِ الْقَوِيِّ المَتِينِ؛ ذِي المَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْعَظَمَةِ، وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ وَالْقُوَّةُ وَالْعِزَّةُ، لَا يُبَدَّلُ كَلَامُهُ، وَلَا يُرَدُّ أَمْرُهُ، وَلَا يُهْزَمُ جُنْدُهُ، سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ قَضَى بِالْعِزَّةِ وَالْعَاقِبَةِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ {فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]، {وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ نُصِرَ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَبِالرُّعْبِ نُصِرَتْ أُمَّتُهُ مَا أَقَامَتْ عَلَى سُنَّتِهِ، فَلَا يَزَالُ أَعْدَاؤُهَا يَهَابُونَهَا، وَلَا حِيلَةَ لَهُمْ فِي إِخْضَاعِهَا وَتَبْدِيلِ دِينِهَا لَا سِلْمًا وَلَا حَرْبًا، وَلَا يَزَالُ دِينُهُ ظَاهِرًا عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمَ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَمْسِكُوا بِدِينِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ عَنْهُ، وَيُسْأَلُ عَنْكُمُ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 6-7] فَيَا لَسَعَادَةِ مَنْ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُؤْمِنًا مُتَّبِعًا، وَيَا لَشَقَاءِ مَنْ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُسْتَكْبِرًا أَوْ مُبَدِّلًا {وَالوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 8-9].
أَيُّهَا النَّاسُ: لَا شَيْءَ أَضَرُّ عَلَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَاجْتِمَاعِهَا مِنَ النِّفَاقِ وَالمُنَافِقِينَ؛ فَهُمْ مَنْ يُصَدِّعُونَ الصَّفَّ، وَيُفَرِّقُونَ الْجَمْعَ، وَيُغِيرُونَ عَلَى الدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ لِتَبْدِيلِهِمَا بِشَتَّى الطُّرُقِ وَالْوَسَائِلِ، وَلَا يَتَوَرَّعُونَ عَنْ أَيِّ وَسِيلَةٍ مَهْمَا كَانَتْ قَذِرَةً لِتَحْقِيقِ مَآرِبِهِمْ؛ فَهُمْ أَهْلُ غَدْرٍ وَخِيَانَةٍ وَكَذِبٍ وَافْتِرَاءٍ وَبَغْيٍ وَفُجُورٍ، وَمَا يَتَخَلَّقُونَ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْقَذِرَةِ يَعُدُّونَهُ فِطْنَةً وَكِيَاسَةً وَذَكَاءً وَخِدَاعًا لِلْخَصْمِ.
وَالْقُرْآنُ قَدْ أَبْدَأَ فِي صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَأَعَادَ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ وَأَكَّدَ عَلَيْهِ، وَحَذَّرَ مِنْهُمْ أَشَدَّ تَحْذِيرٍ؛ حَتَّى خُصَّتْ سُورَةٌ بِهِمْ، وَتَنَاوَلَتْ صِفَاتِهِمْ عَدَدٌ مِنَ السُّوَرِ الطِّوَالِ كَآلِ عِمْرَانَ وَالتَّوْبَةِ وَالْأَحْزَابِ.
وَمِنْ أَفْعَالِ الْمُنَافِقِينَ الَّتِي يَسْتَمِيتُونَ فِي تَحْقِيقِهَا وَالْوُصُولِ إِلَيْهَا مَا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ} [الفتح: 15] وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي سِيَاقِ الْإِخْبَارِ عَنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمَا وَعَدَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْغَنَائِمِ الَّتِي تَحَقَّقَتْ بَعْدَ الصُّلْحِ بِشَهْرَيْنِ فِي خَيْبَرَ؛ فَالْمُنَافِقُونَ حُرِمُوا الْمُشَارَكَةَ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَتَخَلَّفُوا عَنْهَا بِأَعْذَارٍ وَاهِيَةٍ، رَاجِينَ أَنْ يُسْتَأْصَلَ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِأَيْدِي الْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ، وَتَمَّتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ الَّتِي شَرُفَ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَرَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بِهَا فِي قُرْآنٍ يُتْلَى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، فَلَمَّا عَلِمَ الْمُنَافِقُونَ بِمَا سَيَغْنَمُهُ الْمُؤْمِنُونَ فِي غَزْوَةٍ قَادِمَةٍ أَرَادُوا أَنْ يُشَارِكُوا فِي الْغَزْوِ لِأَجْلِ الْغَنِيمَةِ وَلَيْسَ نُصْرَةً لِلْإِسْلَامِ؛ إِذْ كَيْفَ يَنْصُرُونَهُ وَهُمْ يُحَارِبُونَهُ؟! فَكَانَتْ كَلِمَةُ اللهِ تَعَالَى الْقَدَرِيَّةُ أَنَّهُمْ لَنْ يَأْخُذُوا شَيْئًا مِنَ الْمَغَانِمِ، وَكَانَتْ كَلِمَتُهُ سُبْحَانَهُ الشَّرْعِيَّةُ مَنْعَ مَنْ لَمْ يُشَارِكْ فِي الْحُدَيْبِيَةِ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى خَيْبَرَ لِتَكُونَ غَنَائِمُ خَيْبَرَ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الفتح: 15].
فَالْمُنَافِقُونَ يُرِيدُونَ تَبْدِيلَ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى الْقَدَرِيِّ بِمُحَاوَلَةِ الْخُرُوجِ إِلَى خَيْبَرَ، وَلَنْ يَكُونَ إِلَّا مَا يُرِيدُ اللهُ تَعَالَى فَلَمْ يَخْرُجُوا، وَأَرَادُوا تَبْدِيلَ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى الشَّرْعِيِّ بِالْمُحَاوَلَةِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْمَحَ لَهُمْ بِالْخُرُوجِ، وَمَا كَانَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِيَعْصِيَ اللهَ تَعَالَى طَرْفَةَ عَيْنٍ لِأَجْلِ الْمُنَافِقِينَ؛ فَمُنِعُوا مِنَ الْخُرُوجِ وَمِنَ الْغَنِيمَةِ، وَكَانَتْ غَنَائِمُ خَيْبَرَ خَالِصَةً لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَهَذِهِ الْحَادِثَةُ تَكْشِفُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، وَهِيَ إِرَادَتُهُمْ تَبْدِيلَ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى، وَلَمْ تَتَخَلَّفْ هَذِهِ الصِّفَةُ عَنِ المُنَافِقِينَ لَا فِي الْقَدِيمِ وَلَا فِي الْحَدِيثِ.. بَلْ إِنَّ أَصْلَ وُجُودِ النِّفَاقِ وَالْمُنَافِقِينَ هُوَ لِأَجْلِ هَذِهِ الْمُهِمَّةِ، وَهِيَ الْمُهِمَّةُ الْأَسَاسُ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَيُكَرِّسُونَ لَهَا كُلَّ حَيَاتِهِمْ، وَهِيَ إِرَادَتُهُمْ تَبْدِيلَ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى الْقَدَرِيِّ وَالشَّرْعِيِّ. وَكُلُّ حَدِيثٍ عَنْ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ وَأَفْعَالِهِمْ فَإِنَّهُ يَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا الْأَصْلِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ}. وَكَلَامُ اللهِ تَعَالَى الَّذِي يُرِيدُ الْمُنَافِقُونَ تَبْدِيلَهُ هُوَ الْإِسْلَامُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِكُلِّ شَرَائِعِهِ وَتَفْصِيلَاتِهِ.
وَمِنْ فِقْهِ الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ بَوَّبَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ لِيُدَلِّلَ عَلَى أَنَّ تَبْدِيلَ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى مِمَّا يُعَارِضُ التَّوْحِيدَ.
وَالْمُنَافِقُونَ سَعَوْا فِي الْمَاضِي وَيَسْعَوْنَ فِي الْحَاضِرِ لِتَبْدِيلِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى بِطَرِيقَيْنِ:
الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ: سَحْقُ الْإِسْلَامِ الْحَقِّ، وَإِخْرَاجُهُ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَتَنْفِيرُ النَّاسِ مِنْهُ، وَالْقَضَاءُ عَلَى الْمُتَمَسِّكِينَ بِهِ بِكُلِّ الْوَسَائِلِ وَالطُّرُقِ، وَبِنَاءُ التَّحَالُفَاتِ مَعَ الْآخَرِينَ لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ، وَقَدْ حَالَفَ رَأْسُ النِّفَاقِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ جَمِيعَ الْمِلَلِ لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْغَايَةِ؛ فَحَالَفَ يَهُودَ الْمَدِينَةِ بِجَمِيعِ قَبَائِلِهِمْ، وَحَالَفَ مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَحَالَفَ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ، وَلَمْ يُفْلِحْ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى الْقَدَرِيَّ أَنَّ الْإِسْلَامَ سَيَبْقَى إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ مَهْمَا كَادَ بِهِ الْكَائِدُونَ، وَمَكَرَ بِهِ الْمَاكِرُونَ، وَتَرَبَّصَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا يُرِيدُ اللهُ تَعَالَى.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: تَبْدِيلُ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى الشَّرْعِيِّ، بِاخْتِرَاعِ إِسْلَامٍ بَدِيلٍ لِلْإِسْلَامِ الْحَقِّ وَإِحْلَالِهِ مَحَلَّهُ، كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا، وَهِيَ الْمُهِمَّةُ الَّتِي اضْطَلَعَ بِهَا رَأْسُ النِّفَاقِ السَّبَئِيِّ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَبَأٍ الْيَهُودِيُّ؛ فَإِنَّهُ أَحْدَثَ فِي الْأُمَّةِ الْفِرَقَ الْبَاطِنِيَّةَ الَّتِي تُبْطِنُ الْعَدَاءَ لِلْإِسْلَامِ الْحَقِّ، وَتُظْهِرُ الْوَلَاءَ لِآلِ الْبَيْتِ، وَدِينُ أَهْلِ هَذَا النِّفَاقِ أَمْشَاجٌ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ عُجِنَتْ مَعَ الْإِسْلَامِ لِتُشَكِّلَ دِينًا جَدِيدًا يُرِيدُونَ تَبْدِيلَهُ بِالْإِسْلَامِ الْحَقِّ.
وَفِي الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ تَآلَفَ النِّفَاقُ السَّلُولِيُّ مَعَ النِّفَاقِ السَّبَئِيِّ لِتَبْدِيلِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى الْقَدَرِيِّ وَالشَّرْعِيِّ، وَشَارَكَهُمْ فِي هَذِهِ الْمُهِمَّةِ الْقَذِرَةِ مَرْضَى الْقُلُوبِ، وَمَنْ فِي قُلُوبِهِمْ غِلٌّ وَضَغِينَةٌ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، كَمَا شَارَكَهُمْ فِيهَا أَهْلُ الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالْمَصَالِحِ الْآنِيَّةِ؛ فَإِنَّ مَبْنَى النِّفَاقِ عَلَى الْمَصَالِحِ الشَّخْصِيَّةِ، وَرَأْسُ النِّفَاقِ ابْنُ سَلُولٍ إِنَّمَا عَادَى الْإِسْلَامَ لِتَحْقِيقِ مَصْلَحَتِهِ فِي انْتِظَامِ الْمُلْكِ لَهُ فِي الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ.
إِنَّ مِنْ إِرَادَةِ تَبْدِيلِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى ظَنَّ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ بِتَحَالُفِهِمْ مَعَ الْكَافِرِينَ يَقْضُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ الْحَقِّ، وَيَسْتَبْدِلُونَ بِهِ إِسْلَامًا مُزَوَّرًا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ، مَعَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ دِينَهُ بَاقٍ مَهْمَا فَعَلَ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ لِإِزَالَتِهِ {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} [التوبة:32-33].
وَمِنْ إِرَادَةِ تَبْدِيلِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى ظَنُّ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ بِرُكُونِهِمْ لِلظَّالِمِينَ يَضْمَنُونَ النَّجَاةَ مِنْ تَبَدُّلِ الْأَحْوَالِ، وَتَغَيُّرِ النِّعَمِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمُكْتَسَبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَاللهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الرُّكُونَ لِلظَّالِمِينَ لَا يَأْتِي عَلَى أَصْحَابِهِ إِلَّا بِالْخِذْلَانِ وَالخُسْرَانِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113].
وَمِنْ تَبْدِيلِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى اسْتِحْلَالُ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَإِيقَاعُ الظُّلْمِ الْعَظِيمِ عَلَيْهِمْ بِلَا حَقٍّ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ حَفِظَ حُقُوقَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَعْظَمِ مَنْسَكٍ فِي الْحَجِّ، وَأَطْهَرِ بُقْعَةٍ فِي الْأَرْضِ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» فَلَا يَقْتُلُ مُؤْمِنًا وَلَا يُعِينُ عَلَى قَتْلِهِ إِلَّا مُنْتَهِكٌ لِحُرُمَاتِ اللهِ تَعَالَى، وَلَا يُؤْذِي مُؤْمِنًا وَلَا يُعِينُ عَلَى إِيذَائِهِ إِلَّا مُجْرِمٌ ظَالِمٌ {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].
وَمِنْ تَبْدِيلِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى مُخَالَفَةُ مُرَادِهِ تَعَالَى الشَّرْعِيِّ بِصَرْفِ الْعَدَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْوَلَاءِ لِلْكَافِرِينَ، وَمُظَاهَرَةِ أَهْلِ الْبَاطِلِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ، بِأَعْذَارٍ وَاهِيَةٍ، وَتَعْلِيلَاتٍ سَامِجَةٍ، لَنْ تُغْنِيَ عَنْ أَصْحَابِهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى شَيْئًا، حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ قَبْلَهُمْ حِينَ قَالُوا: {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52].
وَمِنْ تَبْدِيلِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى الشَّرْعِيِّ تَبْدِيلُ الْوَلَاءِ وَالْبَرَاءِ، وَالْمَحَبَّةِ وَالْبُغْضِ بِنَقْلِهَا مِنْ مُرَادِ اللهِ تَعَالَى الشَّرْعِيِّ إِلَى مَجَالَاتٍ أُخْرَى مَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ؛ لِإِرْضَاءِ الْبَشَرِ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، وَتَحْقِيقِ مَنَافِعَ شَخْصِيَّةٍ، وَكُلُّ عَامِلٍ سَيَجِدُ مَا عَمِلَ {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدَّثر: 38].
وَمِنْ تَبْدِيلِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى الشَّرْعِيِّ إِبَاحَةُ شَيْءٍ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، أَوْ إِسْقَاطُ شَيْءٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَالِاحْتِيَالُ عَلَى الشَّرْعِ بِإِفْرَاغِ النُّصُوصِ مِنْ مُحْتَوَاهَا، أَوْ صَرْفِهَا عَنْ ظَوَاهِرِهَا، أَوْ ضَرْبِ مُحْكَمِهَا بِمُتَشَابِهِهَا؛ لِإِرْضَاءِ النُّفُوسِ الشَّهَوَانِيَّةِ، وَتَلْبِيَةِ مَطَالِبِ ذَوِي الرَّغَبَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} [النساء:50]، {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116-117].
وَمُحَاوَلَةُ تَبْدِيلِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى لَا تَتَوَقَّفُ عِنْدَ حَدٍّ، وَلَيْسَتْ خَاصَّةً بِزَمَنٍ دُونَ زَمَنٍ؛ فَفِي كُلِّ زَمَنٍ يَنْبَرِي مَنْ يُرِيدُونَ تَبْدِيلَ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى الْقَدَرِيِّ وَالشَّرْعِيِّ، وَلَكِنَّهُمْ مَعَ إِيبَاقِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، وَإِضْلَالِهِمْ مَنِ اتَّبَعَهُمْ لَنْ يُحَقِّقُوا مُرَادَهُمْ {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [الأنعام: 115].
فَلْنَكُنْ -عِبَادَ اللهِ- مَعَ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى الشَّرْعِيِّ وَإِنْ نَكَصَ عَنْهُ مَنْ نَكَصَ، نُطَبِّقُهُ فِي أَنْفُسِنَا وَأَهْلِنَا، وَنَدْعُو لَهُ غَيْرَنَا، وَنَصْبِرُ عَلَى مَا يَنَالُنَا مِنْ أَذًى فِيهِ، حَتَّى نَلْقَى اللهَ تَعَالَى وَنَحْنُ عَلَى كَلِمَتِهِ لَمْ نُبَدِّلْهَا وَلَمْ نُغَيِّرْهَا. وَلْنُوقِنْ بِكَلَامِ اللهِ تَعَالَى الْقَدَرِيِّ، وَوَعْدِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ الْمُبِينِ؛ فَإِنَّ كَلِمَةَ اللهِ تَعَالَى الْقَدَرِيَّةَ لَا مُبَدِّلَ لَهَا وَلَا مُغَيِّرَ لَهَا؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مَالِكُ الْمُلْكِ، وَمُدَبِّرُ الْأَمْرِ {أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَمَسَّكُوا بِدِينِهِ، وَوَالُوا أَوْلِيَاءَهُ وَأَحِبُّوهُمْ، وَعَادُوا أَعْدَاءَهُ وَأَبْغِضُوهُمْ، وَخَافُوا النِّفَاقَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَخَافُونَهُ، وَاحْذَرُوا تَوَلِّي الْمُنَافِقِينَ وَالدِّفَاعَ عَنْهُمْ، فَإِنَّ مَنْ تَوَلَّاهُمْ كَانَ مِنْهُمْ؛ وَعَذَابُ اللهِ تَعَالَى لِلْمُنَافِقِينَ أَلِيمٌ {وَعَدَ اللهُ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 68].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنْ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يُرِيدُونَ تَبْدِيلَ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى الْقَدَرِيِّ بِمَحْوِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْوُجُودِ، وَيَتَحَالَفُونَ مَعَ كُلِّ أَهْلِ نِحْلَةٍ وَمِلَّةٍ لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ فَلَنْ يُحَقِّقُوهُ. وَإِنْ كَانُوا يُبَدِّلُونَ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى الشَّرْعِيَّ فَيُحَرِّفُونَ دِينَهُ الْحَقَّ، وَيَسْتَبْدِلُونَ بِهِ دِينًا بَاطِلًا فَلَنْ يَقْدِرُوا عَلَى إِضْلَالِ جَمِيعِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ تَعَالَى الْقَدَرِيَّةَ أَنْ تَبْقَى طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ تَعَالَى وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
وَلَنْ يَجْنِيَ الْمُنَافِقُونَ مِنْ مُحَاوَلَاتِ تَبْدِيلِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى إِلَّا كَمَا جَنَى السَّابِقُونَ مِنْهُمْ خْزِيًا وَذُلًّا وَعَارًا وَعَذَابًا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [الحشر: 11-12].
وَمَهْمَا أَجْلَبَ الْمُنَافِقُونَ بِخَيْلِهِمْ وَرَجِلِهِمْ، وَسَخَّرُوا وَسَائِلَ إِعْلَامِهِمْ، لِتَسْوِيقِ الْبَاطِلِ، وَتَحْسِينِ الْإِثْمِ، وَتَسْوِيغِ الْمُنْكَرَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فَإِنَّ كَلِمَةَ اللهِ تَعَالَى غَالِبَةٌ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ الْعُلْيَا، وَكَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا هِيَ السُّفْلَى.
وَمَهْمَا حَاوَلَ الْمُنَافِقُونَ تَشْوِيهَ صُورَةِ أَهْلِ الْحَقِّ، وَتَحْسِينَ صُورَةِ أَهْلِ الْبَاطِلِ فَلَنْ يَنْزِعُوا مِنْ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مَحَبَّتَهُمْ لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ، وَمُوَالَاتَهُمْ فِي اللهِ تَعَالَى، وَمَعُونَتَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، كَمَا وَلَنْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَنْزِعُوا بُغْضَ الْبَاطِلِ وَأَهْلِهِ مِنْ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَمِنْ أَفْعَالِهِمْ، وَالدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
[يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ الله]
12/10/1435
الْحَمْدُ للهِ الْقَوِيِّ المَتِينِ؛ ذِي المَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْعَظَمَةِ، وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ وَالْقُوَّةُ وَالْعِزَّةُ، لَا يُبَدَّلُ كَلَامُهُ، وَلَا يُرَدُّ أَمْرُهُ، وَلَا يُهْزَمُ جُنْدُهُ، سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ قَضَى بِالْعِزَّةِ وَالْعَاقِبَةِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ {فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]، {وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ نُصِرَ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَبِالرُّعْبِ نُصِرَتْ أُمَّتُهُ مَا أَقَامَتْ عَلَى سُنَّتِهِ، فَلَا يَزَالُ أَعْدَاؤُهَا يَهَابُونَهَا، وَلَا حِيلَةَ لَهُمْ فِي إِخْضَاعِهَا وَتَبْدِيلِ دِينِهَا لَا سِلْمًا وَلَا حَرْبًا، وَلَا يَزَالُ دِينُهُ ظَاهِرًا عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمَ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَمْسِكُوا بِدِينِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ عَنْهُ، وَيُسْأَلُ عَنْكُمُ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 6-7] فَيَا لَسَعَادَةِ مَنْ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُؤْمِنًا مُتَّبِعًا، وَيَا لَشَقَاءِ مَنْ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُسْتَكْبِرًا أَوْ مُبَدِّلًا {وَالوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 8-9].
أَيُّهَا النَّاسُ: لَا شَيْءَ أَضَرُّ عَلَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَاجْتِمَاعِهَا مِنَ النِّفَاقِ وَالمُنَافِقِينَ؛ فَهُمْ مَنْ يُصَدِّعُونَ الصَّفَّ، وَيُفَرِّقُونَ الْجَمْعَ، وَيُغِيرُونَ عَلَى الدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ لِتَبْدِيلِهِمَا بِشَتَّى الطُّرُقِ وَالْوَسَائِلِ، وَلَا يَتَوَرَّعُونَ عَنْ أَيِّ وَسِيلَةٍ مَهْمَا كَانَتْ قَذِرَةً لِتَحْقِيقِ مَآرِبِهِمْ؛ فَهُمْ أَهْلُ غَدْرٍ وَخِيَانَةٍ وَكَذِبٍ وَافْتِرَاءٍ وَبَغْيٍ وَفُجُورٍ، وَمَا يَتَخَلَّقُونَ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْقَذِرَةِ يَعُدُّونَهُ فِطْنَةً وَكِيَاسَةً وَذَكَاءً وَخِدَاعًا لِلْخَصْمِ.
وَالْقُرْآنُ قَدْ أَبْدَأَ فِي صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَأَعَادَ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ وَأَكَّدَ عَلَيْهِ، وَحَذَّرَ مِنْهُمْ أَشَدَّ تَحْذِيرٍ؛ حَتَّى خُصَّتْ سُورَةٌ بِهِمْ، وَتَنَاوَلَتْ صِفَاتِهِمْ عَدَدٌ مِنَ السُّوَرِ الطِّوَالِ كَآلِ عِمْرَانَ وَالتَّوْبَةِ وَالْأَحْزَابِ.
وَمِنْ أَفْعَالِ الْمُنَافِقِينَ الَّتِي يَسْتَمِيتُونَ فِي تَحْقِيقِهَا وَالْوُصُولِ إِلَيْهَا مَا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ} [الفتح: 15] وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي سِيَاقِ الْإِخْبَارِ عَنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمَا وَعَدَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْغَنَائِمِ الَّتِي تَحَقَّقَتْ بَعْدَ الصُّلْحِ بِشَهْرَيْنِ فِي خَيْبَرَ؛ فَالْمُنَافِقُونَ حُرِمُوا الْمُشَارَكَةَ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَتَخَلَّفُوا عَنْهَا بِأَعْذَارٍ وَاهِيَةٍ، رَاجِينَ أَنْ يُسْتَأْصَلَ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِأَيْدِي الْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ، وَتَمَّتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ الَّتِي شَرُفَ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَرَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بِهَا فِي قُرْآنٍ يُتْلَى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، فَلَمَّا عَلِمَ الْمُنَافِقُونَ بِمَا سَيَغْنَمُهُ الْمُؤْمِنُونَ فِي غَزْوَةٍ قَادِمَةٍ أَرَادُوا أَنْ يُشَارِكُوا فِي الْغَزْوِ لِأَجْلِ الْغَنِيمَةِ وَلَيْسَ نُصْرَةً لِلْإِسْلَامِ؛ إِذْ كَيْفَ يَنْصُرُونَهُ وَهُمْ يُحَارِبُونَهُ؟! فَكَانَتْ كَلِمَةُ اللهِ تَعَالَى الْقَدَرِيَّةُ أَنَّهُمْ لَنْ يَأْخُذُوا شَيْئًا مِنَ الْمَغَانِمِ، وَكَانَتْ كَلِمَتُهُ سُبْحَانَهُ الشَّرْعِيَّةُ مَنْعَ مَنْ لَمْ يُشَارِكْ فِي الْحُدَيْبِيَةِ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى خَيْبَرَ لِتَكُونَ غَنَائِمُ خَيْبَرَ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الفتح: 15].
فَالْمُنَافِقُونَ يُرِيدُونَ تَبْدِيلَ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى الْقَدَرِيِّ بِمُحَاوَلَةِ الْخُرُوجِ إِلَى خَيْبَرَ، وَلَنْ يَكُونَ إِلَّا مَا يُرِيدُ اللهُ تَعَالَى فَلَمْ يَخْرُجُوا، وَأَرَادُوا تَبْدِيلَ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى الشَّرْعِيِّ بِالْمُحَاوَلَةِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْمَحَ لَهُمْ بِالْخُرُوجِ، وَمَا كَانَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِيَعْصِيَ اللهَ تَعَالَى طَرْفَةَ عَيْنٍ لِأَجْلِ الْمُنَافِقِينَ؛ فَمُنِعُوا مِنَ الْخُرُوجِ وَمِنَ الْغَنِيمَةِ، وَكَانَتْ غَنَائِمُ خَيْبَرَ خَالِصَةً لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَهَذِهِ الْحَادِثَةُ تَكْشِفُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، وَهِيَ إِرَادَتُهُمْ تَبْدِيلَ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى، وَلَمْ تَتَخَلَّفْ هَذِهِ الصِّفَةُ عَنِ المُنَافِقِينَ لَا فِي الْقَدِيمِ وَلَا فِي الْحَدِيثِ.. بَلْ إِنَّ أَصْلَ وُجُودِ النِّفَاقِ وَالْمُنَافِقِينَ هُوَ لِأَجْلِ هَذِهِ الْمُهِمَّةِ، وَهِيَ الْمُهِمَّةُ الْأَسَاسُ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَيُكَرِّسُونَ لَهَا كُلَّ حَيَاتِهِمْ، وَهِيَ إِرَادَتُهُمْ تَبْدِيلَ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى الْقَدَرِيِّ وَالشَّرْعِيِّ. وَكُلُّ حَدِيثٍ عَنْ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ وَأَفْعَالِهِمْ فَإِنَّهُ يَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا الْأَصْلِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ}. وَكَلَامُ اللهِ تَعَالَى الَّذِي يُرِيدُ الْمُنَافِقُونَ تَبْدِيلَهُ هُوَ الْإِسْلَامُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِكُلِّ شَرَائِعِهِ وَتَفْصِيلَاتِهِ.
وَمِنْ فِقْهِ الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ بَوَّبَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ لِيُدَلِّلَ عَلَى أَنَّ تَبْدِيلَ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى مِمَّا يُعَارِضُ التَّوْحِيدَ.
وَالْمُنَافِقُونَ سَعَوْا فِي الْمَاضِي وَيَسْعَوْنَ فِي الْحَاضِرِ لِتَبْدِيلِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى بِطَرِيقَيْنِ:
الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ: سَحْقُ الْإِسْلَامِ الْحَقِّ، وَإِخْرَاجُهُ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَتَنْفِيرُ النَّاسِ مِنْهُ، وَالْقَضَاءُ عَلَى الْمُتَمَسِّكِينَ بِهِ بِكُلِّ الْوَسَائِلِ وَالطُّرُقِ، وَبِنَاءُ التَّحَالُفَاتِ مَعَ الْآخَرِينَ لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ، وَقَدْ حَالَفَ رَأْسُ النِّفَاقِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ جَمِيعَ الْمِلَلِ لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْغَايَةِ؛ فَحَالَفَ يَهُودَ الْمَدِينَةِ بِجَمِيعِ قَبَائِلِهِمْ، وَحَالَفَ مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَحَالَفَ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ، وَلَمْ يُفْلِحْ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى الْقَدَرِيَّ أَنَّ الْإِسْلَامَ سَيَبْقَى إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ مَهْمَا كَادَ بِهِ الْكَائِدُونَ، وَمَكَرَ بِهِ الْمَاكِرُونَ، وَتَرَبَّصَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا يُرِيدُ اللهُ تَعَالَى.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: تَبْدِيلُ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى الشَّرْعِيِّ، بِاخْتِرَاعِ إِسْلَامٍ بَدِيلٍ لِلْإِسْلَامِ الْحَقِّ وَإِحْلَالِهِ مَحَلَّهُ، كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا، وَهِيَ الْمُهِمَّةُ الَّتِي اضْطَلَعَ بِهَا رَأْسُ النِّفَاقِ السَّبَئِيِّ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَبَأٍ الْيَهُودِيُّ؛ فَإِنَّهُ أَحْدَثَ فِي الْأُمَّةِ الْفِرَقَ الْبَاطِنِيَّةَ الَّتِي تُبْطِنُ الْعَدَاءَ لِلْإِسْلَامِ الْحَقِّ، وَتُظْهِرُ الْوَلَاءَ لِآلِ الْبَيْتِ، وَدِينُ أَهْلِ هَذَا النِّفَاقِ أَمْشَاجٌ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ عُجِنَتْ مَعَ الْإِسْلَامِ لِتُشَكِّلَ دِينًا جَدِيدًا يُرِيدُونَ تَبْدِيلَهُ بِالْإِسْلَامِ الْحَقِّ.
وَفِي الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ تَآلَفَ النِّفَاقُ السَّلُولِيُّ مَعَ النِّفَاقِ السَّبَئِيِّ لِتَبْدِيلِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى الْقَدَرِيِّ وَالشَّرْعِيِّ، وَشَارَكَهُمْ فِي هَذِهِ الْمُهِمَّةِ الْقَذِرَةِ مَرْضَى الْقُلُوبِ، وَمَنْ فِي قُلُوبِهِمْ غِلٌّ وَضَغِينَةٌ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، كَمَا شَارَكَهُمْ فِيهَا أَهْلُ الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالْمَصَالِحِ الْآنِيَّةِ؛ فَإِنَّ مَبْنَى النِّفَاقِ عَلَى الْمَصَالِحِ الشَّخْصِيَّةِ، وَرَأْسُ النِّفَاقِ ابْنُ سَلُولٍ إِنَّمَا عَادَى الْإِسْلَامَ لِتَحْقِيقِ مَصْلَحَتِهِ فِي انْتِظَامِ الْمُلْكِ لَهُ فِي الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ.
إِنَّ مِنْ إِرَادَةِ تَبْدِيلِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى ظَنَّ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ بِتَحَالُفِهِمْ مَعَ الْكَافِرِينَ يَقْضُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ الْحَقِّ، وَيَسْتَبْدِلُونَ بِهِ إِسْلَامًا مُزَوَّرًا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ، مَعَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ دِينَهُ بَاقٍ مَهْمَا فَعَلَ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ لِإِزَالَتِهِ {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} [التوبة:32-33].
وَمِنْ إِرَادَةِ تَبْدِيلِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى ظَنُّ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ بِرُكُونِهِمْ لِلظَّالِمِينَ يَضْمَنُونَ النَّجَاةَ مِنْ تَبَدُّلِ الْأَحْوَالِ، وَتَغَيُّرِ النِّعَمِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمُكْتَسَبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَاللهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الرُّكُونَ لِلظَّالِمِينَ لَا يَأْتِي عَلَى أَصْحَابِهِ إِلَّا بِالْخِذْلَانِ وَالخُسْرَانِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113].
وَمِنْ تَبْدِيلِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى اسْتِحْلَالُ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَإِيقَاعُ الظُّلْمِ الْعَظِيمِ عَلَيْهِمْ بِلَا حَقٍّ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ حَفِظَ حُقُوقَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَعْظَمِ مَنْسَكٍ فِي الْحَجِّ، وَأَطْهَرِ بُقْعَةٍ فِي الْأَرْضِ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» فَلَا يَقْتُلُ مُؤْمِنًا وَلَا يُعِينُ عَلَى قَتْلِهِ إِلَّا مُنْتَهِكٌ لِحُرُمَاتِ اللهِ تَعَالَى، وَلَا يُؤْذِي مُؤْمِنًا وَلَا يُعِينُ عَلَى إِيذَائِهِ إِلَّا مُجْرِمٌ ظَالِمٌ {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].
وَمِنْ تَبْدِيلِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى مُخَالَفَةُ مُرَادِهِ تَعَالَى الشَّرْعِيِّ بِصَرْفِ الْعَدَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْوَلَاءِ لِلْكَافِرِينَ، وَمُظَاهَرَةِ أَهْلِ الْبَاطِلِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ، بِأَعْذَارٍ وَاهِيَةٍ، وَتَعْلِيلَاتٍ سَامِجَةٍ، لَنْ تُغْنِيَ عَنْ أَصْحَابِهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى شَيْئًا، حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ قَبْلَهُمْ حِينَ قَالُوا: {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52].
وَمِنْ تَبْدِيلِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى الشَّرْعِيِّ تَبْدِيلُ الْوَلَاءِ وَالْبَرَاءِ، وَالْمَحَبَّةِ وَالْبُغْضِ بِنَقْلِهَا مِنْ مُرَادِ اللهِ تَعَالَى الشَّرْعِيِّ إِلَى مَجَالَاتٍ أُخْرَى مَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ؛ لِإِرْضَاءِ الْبَشَرِ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، وَتَحْقِيقِ مَنَافِعَ شَخْصِيَّةٍ، وَكُلُّ عَامِلٍ سَيَجِدُ مَا عَمِلَ {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدَّثر: 38].
وَمِنْ تَبْدِيلِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى الشَّرْعِيِّ إِبَاحَةُ شَيْءٍ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، أَوْ إِسْقَاطُ شَيْءٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَالِاحْتِيَالُ عَلَى الشَّرْعِ بِإِفْرَاغِ النُّصُوصِ مِنْ مُحْتَوَاهَا، أَوْ صَرْفِهَا عَنْ ظَوَاهِرِهَا، أَوْ ضَرْبِ مُحْكَمِهَا بِمُتَشَابِهِهَا؛ لِإِرْضَاءِ النُّفُوسِ الشَّهَوَانِيَّةِ، وَتَلْبِيَةِ مَطَالِبِ ذَوِي الرَّغَبَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} [النساء:50]، {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116-117].
وَمُحَاوَلَةُ تَبْدِيلِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى لَا تَتَوَقَّفُ عِنْدَ حَدٍّ، وَلَيْسَتْ خَاصَّةً بِزَمَنٍ دُونَ زَمَنٍ؛ فَفِي كُلِّ زَمَنٍ يَنْبَرِي مَنْ يُرِيدُونَ تَبْدِيلَ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى الْقَدَرِيِّ وَالشَّرْعِيِّ، وَلَكِنَّهُمْ مَعَ إِيبَاقِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، وَإِضْلَالِهِمْ مَنِ اتَّبَعَهُمْ لَنْ يُحَقِّقُوا مُرَادَهُمْ {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [الأنعام: 115].
فَلْنَكُنْ -عِبَادَ اللهِ- مَعَ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى الشَّرْعِيِّ وَإِنْ نَكَصَ عَنْهُ مَنْ نَكَصَ، نُطَبِّقُهُ فِي أَنْفُسِنَا وَأَهْلِنَا، وَنَدْعُو لَهُ غَيْرَنَا، وَنَصْبِرُ عَلَى مَا يَنَالُنَا مِنْ أَذًى فِيهِ، حَتَّى نَلْقَى اللهَ تَعَالَى وَنَحْنُ عَلَى كَلِمَتِهِ لَمْ نُبَدِّلْهَا وَلَمْ نُغَيِّرْهَا. وَلْنُوقِنْ بِكَلَامِ اللهِ تَعَالَى الْقَدَرِيِّ، وَوَعْدِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ الْمُبِينِ؛ فَإِنَّ كَلِمَةَ اللهِ تَعَالَى الْقَدَرِيَّةَ لَا مُبَدِّلَ لَهَا وَلَا مُغَيِّرَ لَهَا؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مَالِكُ الْمُلْكِ، وَمُدَبِّرُ الْأَمْرِ {أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَمَسَّكُوا بِدِينِهِ، وَوَالُوا أَوْلِيَاءَهُ وَأَحِبُّوهُمْ، وَعَادُوا أَعْدَاءَهُ وَأَبْغِضُوهُمْ، وَخَافُوا النِّفَاقَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَخَافُونَهُ، وَاحْذَرُوا تَوَلِّي الْمُنَافِقِينَ وَالدِّفَاعَ عَنْهُمْ، فَإِنَّ مَنْ تَوَلَّاهُمْ كَانَ مِنْهُمْ؛ وَعَذَابُ اللهِ تَعَالَى لِلْمُنَافِقِينَ أَلِيمٌ {وَعَدَ اللهُ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 68].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنْ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يُرِيدُونَ تَبْدِيلَ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى الْقَدَرِيِّ بِمَحْوِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْوُجُودِ، وَيَتَحَالَفُونَ مَعَ كُلِّ أَهْلِ نِحْلَةٍ وَمِلَّةٍ لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ فَلَنْ يُحَقِّقُوهُ. وَإِنْ كَانُوا يُبَدِّلُونَ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى الشَّرْعِيَّ فَيُحَرِّفُونَ دِينَهُ الْحَقَّ، وَيَسْتَبْدِلُونَ بِهِ دِينًا بَاطِلًا فَلَنْ يَقْدِرُوا عَلَى إِضْلَالِ جَمِيعِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ تَعَالَى الْقَدَرِيَّةَ أَنْ تَبْقَى طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ تَعَالَى وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
وَلَنْ يَجْنِيَ الْمُنَافِقُونَ مِنْ مُحَاوَلَاتِ تَبْدِيلِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى إِلَّا كَمَا جَنَى السَّابِقُونَ مِنْهُمْ خْزِيًا وَذُلًّا وَعَارًا وَعَذَابًا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [الحشر: 11-12].
وَمَهْمَا أَجْلَبَ الْمُنَافِقُونَ بِخَيْلِهِمْ وَرَجِلِهِمْ، وَسَخَّرُوا وَسَائِلَ إِعْلَامِهِمْ، لِتَسْوِيقِ الْبَاطِلِ، وَتَحْسِينِ الْإِثْمِ، وَتَسْوِيغِ الْمُنْكَرَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فَإِنَّ كَلِمَةَ اللهِ تَعَالَى غَالِبَةٌ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ الْعُلْيَا، وَكَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا هِيَ السُّفْلَى.
وَمَهْمَا حَاوَلَ الْمُنَافِقُونَ تَشْوِيهَ صُورَةِ أَهْلِ الْحَقِّ، وَتَحْسِينَ صُورَةِ أَهْلِ الْبَاطِلِ فَلَنْ يَنْزِعُوا مِنْ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مَحَبَّتَهُمْ لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ، وَمُوَالَاتَهُمْ فِي اللهِ تَعَالَى، وَمَعُونَتَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، كَمَا وَلَنْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَنْزِعُوا بُغْضَ الْبَاطِلِ وَأَهْلِهِ مِنْ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَمِنْ أَفْعَالِهِمْ، وَالدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
من صفات المنافقين 9 مشكولة.doc
من صفات المنافقين 9 مشكولة.doc
من صفات المنافقين 9.doc
من صفات المنافقين 9.doc
المشاهدات 5213 | التعليقات 4
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
بيض الله وجهك يوم تسود وجوه المنافقين
إخوتي الكرام: جزاكم الله تعالى خيرا على مروركم وتعليقكم واستجاب دعواتكم المباركة ونفع بكم.
قلبي دليلي
جزاك ربي الفردوس الأعلى خطبة تحكي واقع اليوم من التأمر على المؤمنين وموالاة لأهل الباطل ..نسأل الله العافية
اللهم افضخ من تأمر على عبادك المؤمنين
تعديل التعليق