يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ
مبارك العشوان
1437/02/14 - 2015/11/26 16:10PM
إن الحمد لله... أما بعد: فاتقوا الله... مسلمون.
عباد الله: روى الإمام أحمدُ وأبو داودَ وغيرُهما من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ، قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ ) قال الألباني صحيح.
غيبةُ الناسِ، والوقيعةُ في أعراضهم؛ مرضٌ كَثُرَ شُيُوعُهُ والتساهلُ به، تهاون به أهلُه وأمرُهُ ليسَ بالهين، بل إنهُ من أخطرِ ما يكون؛ والمغتابُ مرتكبٌ لكبيرةٍ من كبائر الذنوب وهو يعرض نفسَه للوعيدِ الشديد، ولو تأمل أدنى تأمُّلٍ لَعَظَّمَ أمرَها، ولأمسكَ عليه لسانَه، لو علمَ المغتابُ أنه يُعَذَّبُ في قبره على الغيبة لكفَّ عنها، فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أُمَاشِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي وَرَجُلٌ عَلَى يَسَارِهِ، فَإِذَا نَحْنُ بِقَبْرَيْنِ أَمَامَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ وَبَلى فَأَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِجَرِيدَةٍ، فَاسْتَبَقْنَا فَسَبَقْته فَأَتَيْته بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا نِصْفَيْنِ فَأَلْقَى عَلَى ذَا الْقَبْرِ قِطْعَةً وَعَلَى ذَا الْقَبْرِ قِطْعَةً، قَالَ إنَّهُ يُهَوَّنُ عَلَيْهِمَا مَا كَانَتَا رَطْبَتَيْنِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ إلَّا فِــي الْغِيبَــةِ وَالْبَوْلِ ). رواه الإمام أحمد وغيره وقال الألباني حسن صحيح.
لو علم المغتابُ أنه بغيبته يسعى في خسارٍ وإفلاسٍ، لَمَا استطالَ في أعراض الناس، يجمعُ الحسناتِ ثم يُبَدِّدُهَا، وتؤخذُ منه في يومِ هو أحوجُ ما يكون إلى حسنةٍ واحدة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هَلْ تَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ قَالَ إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا فَيُقْعَدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ) رواه الإمام أحمد وصححه الألباني.
ليتخيلِ المغتابُ نفسَهُ وهو بتلك الصورة التي حذر الله تعالى منها بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ }الحجرات 12 وعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ: ( أَنَّهُ مَرَّ عَلَى بَغْلٍ مَيِّتٍ فَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: لَأَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ مِنْ هَذَا حَتَّى يَمْلَأَ بَطْنَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ ) قال الألباني صحيح. وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا تعني قصيرة فَقَالَ لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ قَالَتْ وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا فَقَالَ مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا ) أخرجه أبو داود ومعنى : ( مَزَجَتْهُ ) خَالَطَتْهُ مُخَالَطَةً يَتَغَيَّرُ بِهَا طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ لِشِدَّةِ نَتْنِها وَقُبْحِهَا.
سُبحان الله: تموتُ ملايينُ الأسماكِ في البحر، وتُلقى فيه مخلفاتُ البشر، والطائراتِ والسفنِ؛ ولا تغيرُهُ؛ ولو مُزِجَتْ به كلمةُ من الغيبة لغيرته؟!.
عباد الله جاء في الحديث: ( إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ ) أخرجه أبو داود قال الألباني: صحيح وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محذرا: ( يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضـَحْهُ فِي بَيْتِهِ ) أخرجه أبو داود وقال الألباني: حسن صحيح. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: ( إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ).
عباد الله: أبَعْدَ كُلِّ هذا يُستهانُ بالغيبة؟! أيطيبُ لمسلمٍ أن يقع في أعراض المسلمين؟ وَتَعُجُّ كثيرٌ من المجالسِ والأسواقِ والدوائرِ بِنَتَنِ الغيبة، يقعُ الرعية في عرض الراعي، والمسئولُ في أعراضِ من تحت مسئوليته، ويقعون هم في عرضه.
يغتابُ الطلابُ معلميهم، والمعلمونَ طلابَهم، غيبةٌ في مجالسِ الرجال، وغيبةٌ في مجالسِ النساء، غيبةٌ في مجالس الشيبِ والشباب، بل حتى في مجالس الصالحين؛ ولذا قال ابن القيم رحمه الله: ومن العجبِ أن الإنسانَ يَهُونُ عليهِ التحفظُ والاحترازُ من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشربِ الخمر ومن النظرِ المحرمِ، وغيرِ ذلك؛ ويصعبُ عليه التحفظُ من حركةِ لسانهِ حتى يُري الرجل يُشار إليه بالدينِ والزهدِ والعبادةِ وهو يتكلم بالكلمةِ من سخط الله لا يلقى لها بالاً، يزل بالكلمة الواحدةِ بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجلٍ متورعٍ عن الفواحشِ والظلمِ؛ ولسَانُهُ يَفْرِي في أعراضِ الأحياءِ والأموات ولا يُبالى ما يقول.... إلى آخر كلام ابن القيم رحمه الله.
ومن أقبحِ الغيبة عبادَ الله وأكثَرِهَا شُيُوعاً في الناس اليوم: الولوغ في أعراض ولاة الأمور، وأهلِ العلم والصلاح ورجالِ الحسبة والإصلاح الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر. فاتقوا الله عباد الله واحذر هذا الداء، واشتغلوا بعيوبكم عن عيوب غيركم، فهو أجدر بكم، وأنفعُ لكم.
يقول أحد الصالحين: ( إذا رأيتمُ الرجلَ مُولَعاً بعيوبِ النــــــاس، ناسياً لعيوبهِ فاعلموا أنه قد مُكِر به ). وقال عون بن عبد الله: ( ما أحسِبُ أحداً تفرَّغَ لعيوبِ الناس إلا من غفلةٍ غَفِلَهَا عن نفسه ) وقيل لرجلٍ: ( لقد وقع فيك فلان حتى أشفقنا عليك ورحمناك، قال: عليهِ فأشفقوا، وإيَّاهُ فارحموا ).
متى وجدتَ ـ رحمك الله ـ في أخيك عيبًا فالواجب نُصْحُهُ وتوجيهُهُ، لا غيبتُهُ والوقوعُ في عرضه.
بارك الله .... وأقول ما تسمعون...
الحمد لله... أما بعد: فاعلموا رحمكم الله أن الغيبةَ هي ذكركَ أخاك بما يكره، سواءً ذكرتَهُ بنقصٍ في دينه أو بَدَنِهِ أو نَسَبِهِ أو خُلُقِه أو خِلقتهِ، أو قولِهِ أو فِعلِهِ، أو مِهنَتِهِ، أو بِأيِّ شيءٍ يكرهُهُ. وكما تكونُ الغيبةُ باللسان فإنها تكون بكلِّ ما يُفْهِمُ المقصودَ سواءً كان كلاماً، أو إشارةً، أو تقليداً للحركات، أو غيرَ ذلك مما لا يخفى.
عباد الله: كثيرٌ من أهلِ الغِيبة إذا نُصِح قال أنا لم أكذب ولم أتَّهِمْهُ بما ليس فيه، ويأتي الجوابُ عن هذا جليَّاً واضحاً من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ قِيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ قَالَ إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتــَّهُ ) رواه البخاري ومسلم.
فاحذروا هذا الذنبَ العظيم ـ وفقكم الله ـ وحذِّروا منه، وكُفُّوا عن أعراضِ إخوانكم فإن: ( مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ القِيَامَةِ ) أخرجه الترمذي وقال الألباني: صحيح.
ومن لم يستطع أن يدفعَ الغيبة عن أخيهِ؛ فإنهُ يُفارقُ مجالسَهَا ويعرضُ عنها، فقد مدحَ اللهُ عباده المؤمنين بذلك فقال: { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } وقال { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ }. وإياك أخي المسلم ومجالسةَ المغتابِ فإن شرَّهُ على نفسه وعلى جلسائه؛ فإنهم إن لم ينكروا عليه شاركوه في الإثم ولو لم يغتابوا؛ فالمستمعُ شريكٌ للمغتاب، قال ابن المبارك رحمه الله: فِــرَّ من المغتابِ فِرارَكَ من الأسد.
ثم اعلموا رحمكم الله أن هناك أبواباً ستةً، ذكرها الإمام النووي رحمه الله، تُبَاحُ فيها الغيبة: قال رحمه الله: اعلم أن الغيبة تباح لغرضٍ شرعيٍ لا يمكنُ الوصولُ إليه إلا بها وهو ستة أسباب:
الأول: المتظلم، فيجوز للمظلوم أن يتظلمَ إلى السلطان والقاضي وغيرِهما مما له ولاية، أو قدرة على إنصافِهِ من ظالِمِهِ، فيقول: ظلمني فلان بكذا.
الثاني: الاستعانةُ على تغيير المنكر، وردِّ العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يستطع إزالةَ المنكر: فلانٌ يعملُ كذا فازْجُرْهُ عنه ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوصل إلى تغيير المنكر، فإن لم يقصد ذلك كان حرامًا.
الثالث: الاستفتاء، فيقول للمفتي ظلمني أبي، أو أخي، أو زوجــي، أو فلان بكذا، فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاصِ منه، وتحصيلِ حقِّي، ودفعِ الظلم؟ ونحو ذلك، فهذا جائز للحاجة؛ ولكنَّ الأحوطَ والأفضلَ أن يقول: ما تقولُ في رجلٍ أو شخصٍ، أو زوجٍ، كان من أمرِهِ كذا؟ فإنهُ يحصُلُ به الغرضُ من غير تعيين، ومع ذلك فالتعيين جائز.
الرابع: تحذيرُ المسلمين من الشر ونصيحتهم، وذلك من وجوه:
منها: جرحُ المجروحين من الرواةِ والشهودِ، والمشاورةُ في مصاهرةِ إنسان، أو معاملته، أو غير ذلك.
الخامس: أن يكون مجاهرًا بفسقِهِ أو بِدْعَتِهِ كالمُجاهِرِ بشربِ الخمر، وأخذِ المَكْسِ، وجبايةِ الأموال ظلمًا، وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكرُهُ بما يجاهرُ بِهِ، ويحرمُ ذكرُهُ بغيرِهِ من العيوب، إلا أن يكونَ لجوازهِ سببٌ آخر مما ذكرناه.
السادس: التعريف، فإذا كان الإنسان معروفًا بلقبٍ؛ كالأعمشِ والأعرجٍ والأصمِّ والأعمى والأحول، وغيرها جاز تعريفُهم بذلك؛ ويحرمُ إطلاقُهُ على جهةِ النقصِ، ولو أمكن تعريفهُ بغير ذلك كان أولى.
وقد جمعها بعضُ العلماءِ في قوله:
الذَّمُّ لَيْسَ بِغِيْبةٍ فِيْ سِتْةٍ ... مُتَظَلِّـــمٍ وّمُعَــــــرِّفٍ وَمُحَــذِّرِ
وَمُجَـــاهِرٍ فِسْـقَاً وَمُسْتَفْتٍ ... وَمَنْ طَلَبَ الإِعَانَةَ فِيْ إِزَالَةِ مُنْكَرِ
عباد الله: هذه أبوابٌ محصورة وليس لأحد أن يتخذها ذريعةً لغيبة الناس؛ فيدخل منها إلى غيرها، وينطلق منها إلى الوقيعة في أعراض الناس، هي كالعلاج يُؤخذُ منه قدرَ الحاجة فقط.
فاتقوا الله عباد الله، واحفظوا ألسنتكم، إلا فيما يقربكم إلى ربكم
واجعلوا نصب أعينكم قول الله عز وجل: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق 18
ثم صلوا وسلموا... عباد الله: اذكروا الله يذكركم ...
عباد الله: روى الإمام أحمدُ وأبو داودَ وغيرُهما من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ، قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ ) قال الألباني صحيح.
غيبةُ الناسِ، والوقيعةُ في أعراضهم؛ مرضٌ كَثُرَ شُيُوعُهُ والتساهلُ به، تهاون به أهلُه وأمرُهُ ليسَ بالهين، بل إنهُ من أخطرِ ما يكون؛ والمغتابُ مرتكبٌ لكبيرةٍ من كبائر الذنوب وهو يعرض نفسَه للوعيدِ الشديد، ولو تأمل أدنى تأمُّلٍ لَعَظَّمَ أمرَها، ولأمسكَ عليه لسانَه، لو علمَ المغتابُ أنه يُعَذَّبُ في قبره على الغيبة لكفَّ عنها، فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أُمَاشِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي وَرَجُلٌ عَلَى يَسَارِهِ، فَإِذَا نَحْنُ بِقَبْرَيْنِ أَمَامَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ وَبَلى فَأَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِجَرِيدَةٍ، فَاسْتَبَقْنَا فَسَبَقْته فَأَتَيْته بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا نِصْفَيْنِ فَأَلْقَى عَلَى ذَا الْقَبْرِ قِطْعَةً وَعَلَى ذَا الْقَبْرِ قِطْعَةً، قَالَ إنَّهُ يُهَوَّنُ عَلَيْهِمَا مَا كَانَتَا رَطْبَتَيْنِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ إلَّا فِــي الْغِيبَــةِ وَالْبَوْلِ ). رواه الإمام أحمد وغيره وقال الألباني حسن صحيح.
لو علم المغتابُ أنه بغيبته يسعى في خسارٍ وإفلاسٍ، لَمَا استطالَ في أعراض الناس، يجمعُ الحسناتِ ثم يُبَدِّدُهَا، وتؤخذُ منه في يومِ هو أحوجُ ما يكون إلى حسنةٍ واحدة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هَلْ تَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ قَالَ إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا فَيُقْعَدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ) رواه الإمام أحمد وصححه الألباني.
ليتخيلِ المغتابُ نفسَهُ وهو بتلك الصورة التي حذر الله تعالى منها بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ }الحجرات 12 وعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ: ( أَنَّهُ مَرَّ عَلَى بَغْلٍ مَيِّتٍ فَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: لَأَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ مِنْ هَذَا حَتَّى يَمْلَأَ بَطْنَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ ) قال الألباني صحيح. وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا تعني قصيرة فَقَالَ لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ قَالَتْ وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا فَقَالَ مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا ) أخرجه أبو داود ومعنى : ( مَزَجَتْهُ ) خَالَطَتْهُ مُخَالَطَةً يَتَغَيَّرُ بِهَا طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ لِشِدَّةِ نَتْنِها وَقُبْحِهَا.
سُبحان الله: تموتُ ملايينُ الأسماكِ في البحر، وتُلقى فيه مخلفاتُ البشر، والطائراتِ والسفنِ؛ ولا تغيرُهُ؛ ولو مُزِجَتْ به كلمةُ من الغيبة لغيرته؟!.
عباد الله جاء في الحديث: ( إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ ) أخرجه أبو داود قال الألباني: صحيح وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محذرا: ( يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضـَحْهُ فِي بَيْتِهِ ) أخرجه أبو داود وقال الألباني: حسن صحيح. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: ( إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ).
عباد الله: أبَعْدَ كُلِّ هذا يُستهانُ بالغيبة؟! أيطيبُ لمسلمٍ أن يقع في أعراض المسلمين؟ وَتَعُجُّ كثيرٌ من المجالسِ والأسواقِ والدوائرِ بِنَتَنِ الغيبة، يقعُ الرعية في عرض الراعي، والمسئولُ في أعراضِ من تحت مسئوليته، ويقعون هم في عرضه.
يغتابُ الطلابُ معلميهم، والمعلمونَ طلابَهم، غيبةٌ في مجالسِ الرجال، وغيبةٌ في مجالسِ النساء، غيبةٌ في مجالس الشيبِ والشباب، بل حتى في مجالس الصالحين؛ ولذا قال ابن القيم رحمه الله: ومن العجبِ أن الإنسانَ يَهُونُ عليهِ التحفظُ والاحترازُ من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشربِ الخمر ومن النظرِ المحرمِ، وغيرِ ذلك؛ ويصعبُ عليه التحفظُ من حركةِ لسانهِ حتى يُري الرجل يُشار إليه بالدينِ والزهدِ والعبادةِ وهو يتكلم بالكلمةِ من سخط الله لا يلقى لها بالاً، يزل بالكلمة الواحدةِ بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجلٍ متورعٍ عن الفواحشِ والظلمِ؛ ولسَانُهُ يَفْرِي في أعراضِ الأحياءِ والأموات ولا يُبالى ما يقول.... إلى آخر كلام ابن القيم رحمه الله.
ومن أقبحِ الغيبة عبادَ الله وأكثَرِهَا شُيُوعاً في الناس اليوم: الولوغ في أعراض ولاة الأمور، وأهلِ العلم والصلاح ورجالِ الحسبة والإصلاح الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر. فاتقوا الله عباد الله واحذر هذا الداء، واشتغلوا بعيوبكم عن عيوب غيركم، فهو أجدر بكم، وأنفعُ لكم.
يقول أحد الصالحين: ( إذا رأيتمُ الرجلَ مُولَعاً بعيوبِ النــــــاس، ناسياً لعيوبهِ فاعلموا أنه قد مُكِر به ). وقال عون بن عبد الله: ( ما أحسِبُ أحداً تفرَّغَ لعيوبِ الناس إلا من غفلةٍ غَفِلَهَا عن نفسه ) وقيل لرجلٍ: ( لقد وقع فيك فلان حتى أشفقنا عليك ورحمناك، قال: عليهِ فأشفقوا، وإيَّاهُ فارحموا ).
متى وجدتَ ـ رحمك الله ـ في أخيك عيبًا فالواجب نُصْحُهُ وتوجيهُهُ، لا غيبتُهُ والوقوعُ في عرضه.
بارك الله .... وأقول ما تسمعون...
الحمد لله... أما بعد: فاعلموا رحمكم الله أن الغيبةَ هي ذكركَ أخاك بما يكره، سواءً ذكرتَهُ بنقصٍ في دينه أو بَدَنِهِ أو نَسَبِهِ أو خُلُقِه أو خِلقتهِ، أو قولِهِ أو فِعلِهِ، أو مِهنَتِهِ، أو بِأيِّ شيءٍ يكرهُهُ. وكما تكونُ الغيبةُ باللسان فإنها تكون بكلِّ ما يُفْهِمُ المقصودَ سواءً كان كلاماً، أو إشارةً، أو تقليداً للحركات، أو غيرَ ذلك مما لا يخفى.
عباد الله: كثيرٌ من أهلِ الغِيبة إذا نُصِح قال أنا لم أكذب ولم أتَّهِمْهُ بما ليس فيه، ويأتي الجوابُ عن هذا جليَّاً واضحاً من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ قِيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ قَالَ إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتــَّهُ ) رواه البخاري ومسلم.
فاحذروا هذا الذنبَ العظيم ـ وفقكم الله ـ وحذِّروا منه، وكُفُّوا عن أعراضِ إخوانكم فإن: ( مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ القِيَامَةِ ) أخرجه الترمذي وقال الألباني: صحيح.
ومن لم يستطع أن يدفعَ الغيبة عن أخيهِ؛ فإنهُ يُفارقُ مجالسَهَا ويعرضُ عنها، فقد مدحَ اللهُ عباده المؤمنين بذلك فقال: { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } وقال { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ }. وإياك أخي المسلم ومجالسةَ المغتابِ فإن شرَّهُ على نفسه وعلى جلسائه؛ فإنهم إن لم ينكروا عليه شاركوه في الإثم ولو لم يغتابوا؛ فالمستمعُ شريكٌ للمغتاب، قال ابن المبارك رحمه الله: فِــرَّ من المغتابِ فِرارَكَ من الأسد.
ثم اعلموا رحمكم الله أن هناك أبواباً ستةً، ذكرها الإمام النووي رحمه الله، تُبَاحُ فيها الغيبة: قال رحمه الله: اعلم أن الغيبة تباح لغرضٍ شرعيٍ لا يمكنُ الوصولُ إليه إلا بها وهو ستة أسباب:
الأول: المتظلم، فيجوز للمظلوم أن يتظلمَ إلى السلطان والقاضي وغيرِهما مما له ولاية، أو قدرة على إنصافِهِ من ظالِمِهِ، فيقول: ظلمني فلان بكذا.
الثاني: الاستعانةُ على تغيير المنكر، وردِّ العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يستطع إزالةَ المنكر: فلانٌ يعملُ كذا فازْجُرْهُ عنه ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوصل إلى تغيير المنكر، فإن لم يقصد ذلك كان حرامًا.
الثالث: الاستفتاء، فيقول للمفتي ظلمني أبي، أو أخي، أو زوجــي، أو فلان بكذا، فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاصِ منه، وتحصيلِ حقِّي، ودفعِ الظلم؟ ونحو ذلك، فهذا جائز للحاجة؛ ولكنَّ الأحوطَ والأفضلَ أن يقول: ما تقولُ في رجلٍ أو شخصٍ، أو زوجٍ، كان من أمرِهِ كذا؟ فإنهُ يحصُلُ به الغرضُ من غير تعيين، ومع ذلك فالتعيين جائز.
الرابع: تحذيرُ المسلمين من الشر ونصيحتهم، وذلك من وجوه:
منها: جرحُ المجروحين من الرواةِ والشهودِ، والمشاورةُ في مصاهرةِ إنسان، أو معاملته، أو غير ذلك.
الخامس: أن يكون مجاهرًا بفسقِهِ أو بِدْعَتِهِ كالمُجاهِرِ بشربِ الخمر، وأخذِ المَكْسِ، وجبايةِ الأموال ظلمًا، وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكرُهُ بما يجاهرُ بِهِ، ويحرمُ ذكرُهُ بغيرِهِ من العيوب، إلا أن يكونَ لجوازهِ سببٌ آخر مما ذكرناه.
السادس: التعريف، فإذا كان الإنسان معروفًا بلقبٍ؛ كالأعمشِ والأعرجٍ والأصمِّ والأعمى والأحول، وغيرها جاز تعريفُهم بذلك؛ ويحرمُ إطلاقُهُ على جهةِ النقصِ، ولو أمكن تعريفهُ بغير ذلك كان أولى.
وقد جمعها بعضُ العلماءِ في قوله:
الذَّمُّ لَيْسَ بِغِيْبةٍ فِيْ سِتْةٍ ... مُتَظَلِّـــمٍ وّمُعَــــــرِّفٍ وَمُحَــذِّرِ
وَمُجَـــاهِرٍ فِسْـقَاً وَمُسْتَفْتٍ ... وَمَنْ طَلَبَ الإِعَانَةَ فِيْ إِزَالَةِ مُنْكَرِ
عباد الله: هذه أبوابٌ محصورة وليس لأحد أن يتخذها ذريعةً لغيبة الناس؛ فيدخل منها إلى غيرها، وينطلق منها إلى الوقيعة في أعراض الناس، هي كالعلاج يُؤخذُ منه قدرَ الحاجة فقط.
فاتقوا الله عباد الله، واحفظوا ألسنتكم، إلا فيما يقربكم إلى ربكم
واجعلوا نصب أعينكم قول الله عز وجل: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق 18
ثم صلوا وسلموا... عباد الله: اذكروا الله يذكركم ...
المرفقات
888.doc