"يخافون من القطط المشردة، ويسمحون للكلاب المسعورة" عن الأسرة والإجازة جاهزة

عبدالكريم الخنيفر
1446/01/18 - 2024/07/24 21:20PM

الحمدُ لله نحمدهُ ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِهِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد، أيها المسلمون، اتقوا اللهَ فيما تستقبلونَ من الأيامِ، وحاسبوا أنفسَكم على ما فات، واعلموا أنَّكمْ في دارٍ هي دارُ العملِ والتحصيل، وغدًا تنتقلونَ إلى دارِ الجزاءِ والوفاء، فانتقلوا رحمَكُم اللهُ بخيرِ ما عندَكم من الأعمالِ الصالحة، وتذكروا دائمًا أنَّ رصيدَكم من الحياةِ قد ينتهي وأنتم على غيرِ استعدادِ للقاءِ الملك العلَّام جل وعلا.

قال تعالى: ﴾وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴿.

عباد الله،

مما أوصى به الحكماءُ قديمًا أن يُراعيَ الآباءُ والأمهاتُ في تربيةِ أبنائِهم تغيُّرَ الزمنِ واختلافَ الأجيال.

وهذه الوصيةُ قيلتْ عندما كان تغيُّرُ الأزمنةِ محدودًا والاختلافُ بين الأجيالِ يسيرًا، فكيفَ بنا مع هذه الوصيةِ في زمنٍ استثنائي، تغيَّرتْ فيه المعالم، وتداخلتْ الأممُ بعضُها ببعض، وتسارعتْ المؤثراتُ في المجتمع، وتعاظمتْ المغيِّراتُ على الناس،  فغابَ سؤالُ الحلالِ والحرام، وتلاشى معنى الحياءِ والعيب، وصارَ بعضُ أبناءِ هذهِ البقعةِ المباركةِ وبناتُها أقربَ إلى ابنِ القارةِ البعيدةِ وأغربَ عن ابنِ بلدِهِ.. بل عن ابنِ أبيهِ وأمِّه، حتى إذا ظَهَرَ منهم ما يدعو للعجب ويُنبئُ عن الخطرِ .. في الكلامِ والمظهر، قلنا: وا أسفاه! يا حسرتاه! ما الذي غيَّرك؟!

كيف تسللَ رفيقُ السوءِ إليكمْ وأنتمْ داخلَ بيوتِنا وبيَن جدرانِنا؟ كيفَ استطاعَ أن يَخَرِقَ بناءَ أُسْرَتِنَا ويَنْخَرَ فيه الفساد؟ كيفَ هَدَمَ ما بَنَيْنَا من صالحِ الأفكارِ  والأخلاق؟

الجوابُ الذي لم ندركْه، ولم نستوعبْ خطرَه وأثرَه، أنَّ الذي فعلَ ذلك كلَّه هو الانفصالُ بين أفرادِ الأسرة ِ في الحياةِ اليومية، والاتصالُ على مصراعيه بما هو خارج المنزلِ.

يعودُ الأب إلى بيته فيحكمُ غلقَ البابِ خشيةَ قطٍّ مشرَّدٍ، وفي بيتِه جهازٌ صغيرٌ لكنه بوابةٌ كُبرى تَلِجُ منها الضباعُ الضالة والكلابُ المسعورة، من خلال الأجهزةِ الإلكترونيةِ في برامج التواصل الافتراضي وتطبيقاتِ المسلسلاتِ والأفلامِ وألعابِ الفيديو.

حين تنهمكَُ الأمُّ في لهوِها وينشغلُ الأبُ بعملِهِ أو استراحتِه، ويعكفُ الابنُ والبنتُ في أثناءِ ذلكَ على هذا الجهازِ المتصلِ بالعوالمِ الخارجيةِ فلا حدودَ لما يُوصَلُ له ولا قاعَ لما يُنزَلُ إليه، وهناك.. يكون تشرُّبُ الأفكارِ الهدَّامةِ والأخلاقِ الخادشةِ، عندما تُعرضُ بأجمل أسلوبٍ ويُمكثُ عليها أطولَ مدة.

فيتطبَّعونَ بها فَيَضِيعُونَ عنَّا وهم بين أيدينا.

عندما تتصلُ الأجهزة بالإنترنت، فَظُنَّ شرًّا..

ليس في أبنائِكِ، وإنما فيما سيستقبلونَ في ذلك الفضاءِ الخطير.

ويا له من إثمٍ عظيمٍ يقع فيه الآباءُ والأمَّهات، وخَطَرٍ جسيمٍ على الأُسرة.. أنْ يَضَيعَ الأبناءُ، وقد قال النبي ﷺ: "كفى بالمرءِ إثمًا أنْ يضيِّعَ مَنْ يَعول".

أيها المسلمون، مجتمعنا يقوم على أسرةِ كُلِّ واحدٍ مِنَّا، فإذا صَلُحتْ أسرتي وصلُحَتْ أسرتُك صَلُحَ المجتمع، وإذا فسدتِ الأُسُرُ فَسَدَ المجتمع. ﴾يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴿.

اللهم أصلح الراعي والرعية، واحفظ لنا مجتمعنا وأبناءنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 


الخطبة الثانية:

الحمدلله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، أما بعد… عباد الله،

فإن من أعظمِ الأعمالِ الصالحةِ في هذا الزمنِ تربيةَ الأبناء، ولو لم يكنْ للإنسانِ في حياته سوى هذا الإنجازِ لكفى به مشروعًا عظيمًا في الحياة الدنيا واستثمارًا رابحًا للآخرة.

تصوَّر يا عبدَ اللهِ أن تُرزقَ أولادًا وبناتًا فتجتهدَ في تربيتِهم وتعملَ على إصلاحِهم فيحققَ اللهُ مسعاك، فيكونَ كلُّ برٍّ يعملونه أو يقولونه طيلةَ حياتِهم في ميزانِ حسناتِك، ليس ذلك وحسب، بل ما يُغرسُ في أبنائِهم وأبناءِ أبنائهم إلى ما شاء الله يصلُ ثوابه إليك، أجورٌ مستمرةٌ مضاعفةٌ كان جذرَها تربيتُك الصالحةُ لهذا الابنِ وهذه البنت، ﴾أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴿.

عبادَ الله، إنَّ ما بقي من هذه الإجازةِ فرصةٌ سانحةٌ لترتيب مؤسسةِ الأسرةِ والتأكدِ من سيرِها في الطريقِ الصحيح، ولكي تكون التربيةُ صالحةً فهناك ركائزُ أساسيةٌ يجب على الآباءِ والأمهاتِ بذرُها وسقيُها ورعايتُها، ومنها:

توخِّي تزكيةَ النفوس، فإن من أعظمِ صفاتِ الراعي أن يزكِّيَ نفوسَ من استرعاه الله إياهم، قال تعالى:  ﴾لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴿، وهذه التزكية لئنْ كانت غرسًا في داخلِ الإنسانِ فإنَّ سقيَّها من الخارج، بمتابعةِ أعمالِ اليومِ والليلةِ لدى الأبناءِ والبنات من صلاةٍ وأذكارٍ وأعمالِ بِرًّ بتعهُّدٍ يوميٍّ تُكَلِّلُه الحِكمة والموعظةُ الحسنة.

ومن بذورِ التربيةِ الصالحة نشرُ الوعي، بتعليمهم ما لا يسعهم جهلُهُ من أمورِ الدِّين وتبصيرُهم بالواقع وحقائقِ الأمورِ انطلاقًا من القرآنِ الكريمِ الذي يهدي للتي هي أقومُ في سائر الأمور.

ومن ثَمَّ التربيةُ على مكارمِ الأخلاقِ ومن أهمِّهَا المروءةُ والحياءُ، هذه الأخلاقُ التي تُبقي الإنسانَ أصيلا كالذَّهبِ في زمنِ انتشارِ المعادن الزائفة.

يا عباد الله، إن هذه الأمورَ العظيمةَ من التربيةِ يمكن تحقيقُها بتكثيفِ التواصلِ بين أفرادِ الأسرة، وكثرةِ جلوسِ بعضِهم مع بعض جلوسًا حقيقيًّا فيه الحوارُ والاستخبار.

ثم اعلموا أن التربيةَ الصالحةَ يصعبُ تحقُّقها إذا كان المربي غيرَ صالحٍ، فكيف بالابنِ والبنتِ أن يسلُكا الطريقَ الصحيحَ وأبوه أو أمه يمهِّدان له الطريقَ الخطأَ بأفعالهم الخاطئة؟!

كيف للابنِ مثلا أن يكونَ صادقًا وهو يرى أباه يكذبُ أمام عينه؟ وكيف للبنت أن تكون حَيِيةً متسترةً وهي ترى أمَّها سافرةً متبرجة؟

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴾حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴿.

ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والدينا وأن نعمل صالحًا ترضاه،

اللهم أصلح لنا في ذرياتنا، واجعلهم قرة أعينٍ لنا.

اللهم أصلحْ لنا ديننَا الذي هو عصمة أمرِنا،

وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتَنا التي فيها مَعادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كلِّ خير، واجعلِ الموتَ راحةً لنا من كل شر.

اللهم أحسنْ عاقبتنا في الأمورِ كُلِّها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

اللهم وفِّقْ وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفِّقه ونائبَه لما فيه خير البلاد والعباد.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

المرفقات

1721853074_خطبة الأسرة.pdf

المشاهدات 733 | التعليقات 0