يا صاحبي السجن ( وورد - pdf )
محمد بن سليمان المهوس
« يا صاحبي السجن »
محمد بن سليمان المهوس / جامع الحمادي بالدمام
1446/10/13
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: عَمَلُ الْمُسْلِمِ الأَوَّلُ، وَهَمُّهُ الأَوْحَدُ، وَقَضِيَّتُهُ الْكُبْرَى: الْمُحَافَظَةُ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَمُعْتَقَدِهِ، وَالدَّعْوَةُ بِمَا يَسْتَطِيعُ إِلَى الْعِنَايَةِ بِهَذِهِ الْحَسَنَةِ الْمُبَارَكَةِ، الَّتِي فِيهَا سَعَادَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الأَنْبِيَاءِ فِي حَيَاتِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِي قِصَّةِ نَبِيِّ اللهِ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- مَعَ صَاحِبَيِ السِّجْنِ الشَّابَّيْنِ اللَّذَيْنِ أُدْخِلاَ مَعَهُ السِّجْنَ دُرُوسٌ وَعِبَرٌ فِي الْحِرْصِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ .
قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36 ].
فَبَعْدَمَا اشْتَهَرَ يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فِي السِّجْنِ بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ ،وَالْجُودِ وَالأَمَانَةِ، وَحُسْنِ السَّمْتِ، وَصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَمَعْرِفَةِ التَّعْبِيرِ، وَالإِحْسَانِ إِلَى أَهْلِ السِّجْنِ ،عَرَضَا عَلَيْهِ رُؤيَاهُمْ !
وَقَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي تَعْبِيرِهَا شَرَعَ فِي دَعْوَتِهِمَا إِلَى الإِيمَانِ الَّذِي بِهِ السَّعَادَةُ وَالنَّجَاةُ وَالْفَوْزُ وَالْفَلاَحُ، كَمَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : ﴿ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 37]، فَنَبَّهَ عَلَى أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ: الإِيمَانِ بِاللهِ، وَالإِيمَانِ بِدَارِ الْجَزَاءِ؛ إِذْ هُمَا أَعْظَمُ أَرْكَانِ الإِيمَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمَا : أَنَّهُ اتَّبَعَ دِينَ الأَنْبِيَاءِ، لاَ دِينَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالضَّلاَلِ، وَهَذَا فَضْلٌ مِنَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ، فَقَالَ: ﴿ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ [يوسف: 38].
وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَهُمَا مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْحَنِيفِ، تَلَطَّفَ فِي خِطَابٍ رَقِيقٍ فِي حُسْنِ الاِسْتِدْلاَلِ عَلَى فَسَادِ مَا عَلَيْهِ قَوْمُ الْفَتَيَيْنِ مِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ، فَقَالَ: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
[يوسف: 39-40].
وَبَعْدَمَا عَرَضَ عَلَيْهِمَا التَّوْحِيدَ ، عَادَ فَعَبَرَ لَهُمَا الرُّؤْيَا، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا يَخْرُجُ مِنَ السِّجْنِ وَيَكُونُ سَاقِيَ الْخَمْرِ لِلْمَلِكِ، وَالآخَرَ يُصْلَبُ وَيُتْرَكُ، وَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ.
ثُمَّ قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ﴿لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا﴾، وَهُوَ الَّذِي رَأَى أَنَّهُ يَعْصِرُ خَمْرًا: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾؛ أَيِ: اذْكُرْنِي عِنْدَ سَيِّدِكَ ؛ اذْكُرْ لَهُ شَأْنِي وَقِصَّتِي؛ لَعَلَّهُ يَرِقُّ لِي، فَيُخْرِجُنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، ﴿فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾؛ أَيْ: فَأَنْسَى الشَّيْطَانُ ذَلِكَ النَّاجِيَ ذِكْرَ اللهِ تَعَالَى، وَذِكْرَ مَا يُقَرِّبُ إِلَيْهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ : نِسْيَانُهُ ذِكْرَ يُوسُفَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُجَازَى بِأَتَمِّ الإِحْسَانِ؛ وَذَلِكَ لِيُتِمَّ اللهُ أَمْرَهُ وَقَضَاءَهُ، ﴿ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ﴾ أَيْ أَنَّهُ لَبِثَ سَبْعَ سِنِينَ، وَلَمَّا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُتِمَّ أَمْرَهُ، وَيَأْذَنَ بِإِخْرَاجِ يُوسُفَ مِنَ السِّجْنِ، قَدَّرَ لِذَلِكَ سَبَبًا لإِخْرَاجِ يُوسُفَ، وَارْتِفَاعِ شَأْنِهِ، وَإِعْلاَءِ قَدْرِهِ، وَهُوَ رُؤْيَا الْمَلِكِ ، بَلْ أَصْبَحَ خَازِنًا عِنْدَ الْمَلِكِ أَمِينًا؛ ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [ الجمعة : 4 ]
أَقُولُ قَوْلِيِ هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمِ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ، وَأَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ: الدَّعْوَةَ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَتَصْحِيحَ عَقَائِدِ النَّاسِ، وَإِزَالَةَ مَا عَلِقَ بِهَا مِنَ الشِّرْكِيَّاتِ وَالشُّبُهَاتِ، وَالْبِدَعِ وَالْخُرَافَاتِ، لإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَإِبْرَاءً لِلذِّمَّةِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، كَمَا فَعَلَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَعَ السَّجِينَيْنِ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: 125].
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم].
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَ الدِّينَ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَانْصُرْ جُنُودَنَا، وَأَيِّدْ بِالْحَقِّ إِمَامَنَا وَوَلِيَّ أَمْرِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَجَمِيعَ وُلاَةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ يَا رَبَّ الْعِالَمِينَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ؛ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
المرفقات
1744088700_يا صاحبي السجن.doc
1744088715_يا صاحبي السجن.pdf
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق