يا باغي الخير أقبل فقد أدركت شهر إغلال الشياطين
عبد الله بن علي الطريف
يا باغي الخير أقبل فقد أدركت شهر إغلال الشياطين
أما بعد أيها الإخوة: قال الله تعالى حاثاً على التقوى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281]..
هنيئاً لنا أيها الأحبة: أن أدركنا هذا الشهر العظيم.. فقد حبانا اللهُ جلَ في علاه بعطاءٍ جزيل حُرم منه خلق كثير بموتهم، أو بغيهم وكفرهم وجحودهم.. فاللهم لك الحمد على آلائك التي لا تعد ولا تحصى أن سلمتنا إلى رمضان، ونسألك أن تُسَلِمَهُ لنا وأن تَـــــتَسَلَّمَهُ منا مقبولاً يا أرحم الراحمين.. وأن تعيدَ علينا مواسمَ الخيرِ وعلى أمةِ الإسلام أعواماً عديدة، وأزمنة مديدة، ونحن والأمة بحياة سعيدة.
أيها الأحبة: كانت بشارةُ النبيِّ ﷺ لأصحابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم في رمضان بشارةٌ عظيمةٌ لِـما اختصَ اللهُ تعالى به هذا الشهرَ من خيرٍ، ففيه تُفتحُ أبوابُ خيرٍ كثيرة، وتُغلقُ أبوابُ شرٍ كثيرة، وقد حدَّثَ ﷺ أصحابَه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم فيما رَوَاه أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَما دَخَلَ رَمَضَانُ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «هَذَا رَمَضَانُ قَدْ جَاءَكُمْ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللهُ عَزَ وَجَلَ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ إِذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَنَادَى مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَللهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ؛ حَتَّى يَنْقَضِيَ رَمَضَانُ وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا، فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ» ذكره في الجامع الصحيح للسنن والمسانيد وعزاه للنسائي وابن ماجة وأحمد.
أحبتي: من خصائص هذا الشهر الكريم التي بشر بها المصطفى ﷺ: «أنها تُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ» وفي رواية: «مَرَدَةُ الشَّيَاطِينُ»، وفي ثانية: «وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ».. وفي أخرى: «وسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ».. وفي هذه الرواية «الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ» رواها الترمذي وابن ماجة وحسنها الألباني. وفي حديث آخر: «.. يُصَفَّدُ فِيهِ كُلُّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ» وَيُنَادِي مُنَادٍ كُلَّ لَيْلَةٍ يَا طَالِبَ الْخَيْرِ هَلُمَّ وَيَا طَالِبَ الشَّرِّ أَمْسِكْ» رواه النسائي وقال الألباني صحيح الإسناد.
وهنا سؤال مهم: منهم الشياطين.؟ وما المقصود بغلهم وتصفيدهم وسلسلتهم.؟ قال العلماء: الشيطانُ في لغة العرب يطلق على كل عاتٍ متمردٍ، وقد أطلقَ على هذا المخلوق لعتوّهِ وتمردِهِ على ربّه.. وسماه سبحانه "الطاغوت" فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) [النساء:76]. وهذا الاسمُ معلومٌ عند غالبية أممِ الأرض باللفظ نفسه، وإنما سمي طاغوتاً لتجاوزه حده، وتمرده على ربه، وتنصيبه نفسَه إلهاً يعبد.
وقد يئس هذا المخلوق من رحمة الله، ولذا أسماه الله إبليس. والبَلَسُ في لغة العرب: من لا خير عنده، وأبلس: يئسَ وتحيّرَ.. وعالم الشياطين والجن محجوبان عنا، لا تدركهما أبصارنا، ولكنهما عالمان مختلفان في أصلهما وصفاتهما..
وتصفيد الشياطين تعجيزهم عن الإغواء وتزيين الشهوات، وقال الزين بن المنير: أي شدت بالأصفاد وهي الأغلال وهو بمعنى سلسلت، ولا وجه ولا ضرورة تدعو إلى صرف اللفظ عن ظاهره..
وقال شيخنا محمد العثيمين رحمه الله: في بعض روايات الحديث: "وَتُصَفَّدُ فِيْهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينُ" أو "تُغَلُّ" ومثل هذا الحديث من الأمور الغيبية التي موقفنا منها التسليم والتصديق، وألا نتكلم فيما وراء ذلك، فإن هذا أسلم لدين المرء وأحسن عاقبة، ولهذا لما قال عبد الله ابنُ الإمامِ أحمد بن حنبل لأبيه رحمهما الله: إن الإنسان يصرع في رمضان.! قال الإمام: هكذا الحديث ولا تَكَلَّم في هذا... ثم إن الظاهر تصفيدهم عن إغواء الناس، بدليل كثرة الخير والإنابة إلى الله تعالى في رمضان. انتهى كلامه.
وعلى هذا فتصفيد الشياطين تصفيدٌ حقيقيٌ اللهُ أعلمُ به، ولا يلزم منه ألا يحصل شرور أو معاصي بين الناس.. والله أعلم.
فإن قلت قد تقع الشرورُ والمعاصي في رمضان كثيراً، فلو سُلسلت لم يقع شيء من ذلك. نقول: هذا في حق الصائمين الذين حافظوا على شروط الصوم وراعوا آدابه.
وقيل المسلسل بعض الشياطين وهم المردة لا كلهم كما تقدم في بعض الروايات، والمقصود تقليل الشرور فيه، وهذا أمر محسوس فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره، وقيل لا يلزم من سلسلتهم وتصفيدهم كلهم ألا تقع شرور ولا معصية لأن لذلك أسباباً غير الشياطين كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية. والله أعلم..
أيها الإخوة: تثبيط العباد عن العمل ورميهم بالتسويف والكسل مهمة من مهام الشيطان التي طلبها من الله تعالى لما طرده الله من رحمته بسبب عصيانه قال الله تعالى في ذلك: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ* قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأعراف:16-18] والمعنى قال الشيطانُ: لألزمن الصراط وأسعى غاية جهدي على صد الناس عنه، وعدم سلوكهم إياه.. وَلَآتِيَنَّهُمْ من جميع الجهات والجوانب، ومن كل طريق أتمكن فيه من إدراك بعض مقصودي فيهم، ولما علم الخبيث أنهم ضعفاء قد تغلب الغفلة على كثير منهم، وكان جازما ببذل مجهوده على إغوائهم، ظن وصدَّق ظنه فقال: (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) فإن القيام بالشكر من سلوك الصراط المستقيم، وهو يريد صدَّهم عنه، وعدم قيامهم به، قال تعالى: (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)..
وقد نبهنا اللّه على ما قال الشيطانُ وعزم على فعله، لنأخذ منه حذرنا ونستعد لعدونا، ونحترز منه بعلمنا بالطريق التي يأتي منها، ومداخلِه التي ينفذ منها، فله تعالى علينا بذلك، أكمل نعمة.
ثم أجاب الحق تبارك وتعالى إبليس لما قال ما قال وتوعد بني آدم بما توعدهم به: (اخْرُجْ مِنْهَا) خروج صغار واحتقار، لا خروج إكرام، بل مذموماً مَدْحُورًا مبعداً عن اللّه وعن رحمته وعن كلِ خير.. وتوعده بقوله: (لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ) منك وممن تبعَك منهم (أَجْمَعِينَ) وهذا قَسَمٌ منه تعالى، أنَّ النَارَ دَارُ العُصَاةِ، لا بد أن يملأها من إبليسَ وأتباعِه من الجنِ والإنسِ..
اللهم إنا نعوذ بك من الشيطان وشركه وغوايته.. ونسألك الثباتَ على الحقِ والتوفيقَ للعملِ الصالحِ في هذه الأيام المباركة التي تَفَضَّلَ اللهُ تعالى علينا فيها بسلسلةِ الشياطين وتصفيدهم، ليكون مجال العمل الصالح فيها خير مجال والعزيمة على الخير أقوى عزيمة.. «فيَا طَالِبَ الْخَيْرِ وبَاغِيَه هَلُمَّ، وَيَا طَالِبَ الشَّرِّ وبَاغِيَه أَمْسِكْ وأَقْصِرْ» أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية:
أما بعد أيها الإخوة: في كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي هَذَا الشَهْرِ العَظِيمِ يُنَادِي مُنَادٍ: «يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَللهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ حَتَّى يَنْقَضِيَ رَمَضَانُ» الله أكبر ما أجلَّه من نداء، وما أشده من تحذير، وما أجزله من عطاء.. نداءٌ للخيرِ.. وتحذيرٌ من الشرِ.. ووعد بالخير طوال الشهر.. خَصَ اللهُ تعالى به عبادَه بعد أن هيأ لهم فُرَصَ الخير، وأغلق عنهم أبواب الشر.. فالجنةُ مُشْرَعَةُ الأبوابِ لطالبِيها، والنارُ مغلَّقَةُ الأبوابِ لحاذِرِيها، والشياطينُ ترسفُ في أغلالِها، ومنادِ الرحمنِ ينُادِي نداءً غيرَ مسموعٍ للناس، لكنهم يعلمونه بإخبار الصادق المصدوق ﷺ عن النداء، وبه يحصل المطلوب بأن يتذكرَ الإنسانُ كلَ ليلةٍ بأنها ليلة مُناداةٍ، فيتعظُ بها بنداء: "يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ» أي: أَقْبِل على فعل الخير، فهذا أوانك، فإنك تُعْطَى جزيلاً بعملٍ قليل.. «وَيَا طَالِبَ الشَّرِّ وبَاغِيَه أَمْسِكْ وأَقْصِرْ" وتُبْ فَإِنَّهُ أَوَانُ قَبُول التَّوْبَة».
هيا معاشر الإخوة: لنعاهد النفس ونحملَها ونجتهدَ بالطاعات، من صلاة وزكاة وصيام وصدقات، ونرفعَ أكفَ الضراعةِ بالدعوات المباركات، ونزيدُ في وقتِ قراءة القرآن والذكر لرب البريات.. ونختم القرآن عدة مرات، ونكف النفوس عن الأخطاء والتقصير وجميع الذنوب الصغيرة والكبيرات.. ونرتب جداول العمل الصالح ونعمر فيه الأوقات.. فموسمنا موسمٌ عظيمُ الهبات، وَفُرَصُهُ فُرَصٌ لا تعوض.. فصلاة التراويح لا تستغرق منا ساعة كل يوم.. وقراءة ختمة للقرآن لا تزيد على عشر ساعات في الشهر لمن اقتصر على القليل.. وحارس هذه العزيمة الحرص، وقضاء النوافل التي تفوتنا فقد كان النبي ﷺ يقضي ما يفوته منها، فإن فاتنا القيام مع الإمام مثلاً قضيناه كما هو من الليل، أو شفعا من الغد في الضحى، وإن فاتنا وردنا من القراءة قضيناه في وقت يليه.. هذه عزائم الجادين، وهذا ديدن الحريصين فإذا حرص المسلم على القضاء، بادر بالأداء؛ لثقل القضاء، أما إن تهاونا في القضاء فسنجد أنفسا وقد فاتنا خيرٌ كثيرٌ يصعب علينا تداركه..
وإجابة الدعاء حاصلة للصائم ما دام صائماً في كل لحظة من اللحظات.. فقد وعد رسولُ الله ﷺ بقبولها فقَالَ: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ لَا تُرَدُّ، دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ» رواه البيهقي في السنن الكبرى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وحسنه الألباني..
وقد ذكر الله تعالى بعد آية إيجاب الصيام آيةَ الأمر بالدعاء واستجابته سبحانه لمن دعاه فقال: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186] قال ابن عاشور: وَفِيهِ لَطِيفَةٌ قُرْآنِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى جَوَابَهُمْ عَنْ سُؤَالِهِمْ بِنَفْسِهِ إِذْ حَذَفَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى وَسَاطَةِ النَّبِيِ ﷺ تَنْبِيهًا عَلَى شِدَّةِ قُرْبِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ.
ما أحوجنا وأحوج أمتنا للدعاء في شهر الدعاء، أكثروا من الدعاء في مواطن الإجابة في هذه الساعة وآخرِ ساعةٍ من الجمعة وعند الفطرِ وبين الأذانِ والإقامة وفي السحرِ.. أدعوا لأنفسكم ووالديكم وأزواجكم وأولادكم وإخوانكم ولكل من له فضل عليكم، بل وادعو لمن عاداكم حتى يُلين الله قلوبهم لكم، وأدعو لولاة أمركم ولكل من تولى أمراً من أمور المسلمين من القضاة وغيرهم ولجنودنا المرابطين والذين يخوضون غمار الحرب ورجال الأمن الذين يحفظون الأمن الداخلي وأخلصوا بالدعاء، وخصوا بالدعاء الأسماء، ورتبوه حتى لا تملوا.. وصلوا وسلموا..