{وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 12/9/1437هـ

عبدالرحمن العليان
1437/09/12 - 2016/06/17 06:59AM
بسم الله الرحمن الرحيم


{وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}


الحمدُ للهِ الذي أَنْزَلَ الكتابَ هدًى للناسِ وموعظةً وبصائر، ما فرَّطَ فيه تعالى من شيء، وهو الخبير المحيط، والأولُ والآخر.. وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، شهادةً يكونُ بها النجاةُ يوم يُبَعْثَرُ ما في المقابر، وحينَ تُبلَى السرائِر.. وأشهدُ أن محمدًا عبدُاللهِ ورسولُه، خيرُ من أخلصَ لربه الدين، واتَّقاه في الباطنِ والظاهر، صلَّى اللهُ وسَلَّمَ عليه، ما أضاءت نجومٌ زَوَاهِر، وعددَ ما استُنَّ بهدْيِه في الماضي والحاضر، وعلى آله وصحبه، جزاءً بما أحْسَنُوا الصحبة، وَنَصَرُوا الملة، وأرغموا أنفَ كلِّ منافقٍ وفاجر، وعلى التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.. أما بعد:
فأوصيكم ونفسي أيها المسلمون بالتقوى؛ فهي عندَ الله تعالى خيرٌ وأبقى؛ فإنما المتقون لأنفُسِهِمْ غالِبُون، وعن الهوى معرضون، ولداعي الرحمنِ مستجيبون، وفي الخيرات مسارعون.. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33].
أيها المؤمنون: اثنا عشرَ يومًا بلياليها قضاها المسلون في خمائلِ هذا الشهر الكريم، تطاوِعُهُمْ إلى الحقِّ نفوسُهم، وتَلينُ في سبيل الخيرِ والمعروفِ أيديهم، إذا جَلْجَلَتْ في أسماعِهم آياتُ الذكرِ تبيانا، امتلأتْ قلوبُهم طُمَأنينةً وإيمانا؛ فكانوا أكثرَ خيرًا وبرًّا وعفوًا وإحسانا، فيا لله! هل تحرَّكتْ شفاهٌ بأفضلَ مما تحركت به شفاهُ القانتين؟ وهلِ ارتفعَتْ أيدٍ فضاهَتْ أَكُفَّ الراغبين؟ وهلْ فاضتْ أعينٌ بأعذبَ من دمْعِ الراغبين الراهبين؟!
لقد كانَ للمسلمين مع كتابِ ربِّهم موعِدُ صِدقٍ لم يُخلَفوه، يغدون بين أفانينِ سُوُرِه، ورياحينِ عِبَرِه، يتدبّرون سننَ اللهِ في الأمم الخالية، وكأنما نُفِخَتِ الروحُ في أجسادِها؛ ليَرَوْها في جِدِّها وهزلِها، وفرحِها وتَرَحِها، ومُجادلتِها لرُسُلِها، وتصديقِها وتكذيبِها، وأخذِ اللهِ الشديدِ لظالميها، والحسنى لمتقيها ومظلوميها.
يتأمّلون خبَرَ السفهاءِ من الناس القائلين: ما ولّاهمْ عن قبلتهِمُ التي كانوا عليها؟ ونبأَ الذي حاجَّ إبراهيمَ في ربِّهِ أن آتاهُ اللهُ المـُلْك، وقصةَ الذينَ خرجوا من ديارِهم وهم ألوفٌ حذَرَ الموت {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243]، والملأِ من بني إسرائيلَ من بعدِ موسى {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 246]، وما حكى اللهُ تعالى من حالِ المسيحِ عيسى بنِ مريمَ وأمِّهِ - عليهما السلام -، ويتدبَّرون محاجَّةَ النصارى لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وما دَمَغَ اللهُ به باطِلَهم.
يقرؤونَ أنباءَ أولِ هذهِ الأمةِ وفتوحاتِها، ونصْرَ اللهِ لعبْدِه، وإعزازَهُ لجندِه، وأنَّ النصرَ والتمكينَ لا يكونُ إلا بعدَ تمحيصٍ وبلاءٍ عظيمَيْن، وأنَّ خيرَ القرونِ لم يخلُ من منافِقينَ ومرجفين وذوي مرضٍ ومثبِّطين.
عظاتٌ وعبرٌ لا يحيطُ بها حصر، تزيدُ المسلمينَ ثِقةً بربِّهم، وتوكُّلًا عليه، وأنَّ كلَّ اجتماعٍ فإلى افتراق، وأنَّ الدهرَ ذو فتحٍ وذو إغلاق، وأنه كم أمةٍ سوفَ يكونُ غيرُها، وسوفَ يفنى خيرُها وشرُّها، فتُصْبِحُ خبَرًا بعدَ عيْن، وأثَرًا بعد ذات، وأنَّ الإيمانَ ليس بالتحلِّي ولا بالتمني، وأنَّ العاقبةَ للمتقين، وأنْ لا عُدوانَ إلا على الظالمين، وأنَّ من هجرَ السيئاتِ بعدَ أنْ ُظُلِمَ وصبرَ وصابَرَ على الحقِّ والعدل؛ بوَّأَه الله - عزَّ وجلّ- في الدنيا حسنة، وكانت له فيها العاقبةُ، ولأَجْرُ الآخرةِ أكبر..
أجَلْ أيها المسلمون.. وأعظَمُ من ذلكم وأكثرُ من المواعظِ العَجَبُ العُجاب، تأخُذُ بمجامعِ أولي الألباب، سبحانك ربَّنا، ما أنزلتَ هذا إلا بالحق، ما كانَ حديثًا يُفتَرى، ولكنْ موعظَةً وذِكرى.
ومنْ أمْعَنَ النَظَرَ والتأمُّلَ في هذا الكتابِ الكريم؛ وجدَ من أجْلى سماته: أنّهُ هدى، بل إنَّ وصْفَ الهدايةِ للقرآنِ قدْ قُرِنَ بتاريخِ إنزالِهِ على قلبِ المصطفى المختار - صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه -: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
هدايةُ القرآن أولُ وصفٍ له يقْرَعُ الأسماعَ عند تلاوتِه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، تلكمُ الهدايةُ التي خُصَّ بها المؤمنون في أكثرِ مواضعها من كتاب الله؛ لأنهم قَبِلُوا هُدى الله، وعَمِلوا بمقتضاه، أما الكُفار والمنافقون فلم يفتحوا لسماعه فؤادا، ولم يرفعوا بشأنه رأسا: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44].
{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15-16].
إنه هدى الله الذي يهدي به من يشاء من عبادِه سبحانه، وهدايتُه لم تكنْ خالصةً لأمرٍ دون آخر، أوْ مجالٍ دون سواه، أوْ حالٍ دونَ مآل.. كلا؛ بل هو يهدي للتي هي أقومُ في سائرِ الأحوال، وجميعِ الـأقوالِ والأفعال، في العقائدِ والعباداتِ والمعاملاتِ، وفي السياسة والاقتصادِ والاجتماع.
هدَى اللهُ بهِ جِبِلًّا كثيرا، متصرفةً أحْوالُهم، متبايِنةً ضلالاتُهم، وقدْ كانوا في ظُلُماتِ غيِّهم يعمهون.
هدى الرحمنُ بكلامهِ فضلًا منه ورحمةً من جاءَ ليطْعنَ فيه، ويصْرِفَ الناسَ عنه، وَهَدَى به جبَّارين وظالمينَ ومُسْرِفين.
هدى بهِ من تأتِّتْ له في معصيتِه المغرِيات، واضمحلّت دون مواقعتِها العَقَبات، وهدى به من كانَ لِصًّا يتسوَّرُ بيوتَ الناس؛ ليكونَ بعدها مضرِبَ المـَثَلِ في الزهدِ والخوفِ من الله تعالى.. وجَمٌّ من عُتاةِ الجاهليةِ إنما اهتدَوا بالقرآن بالعظيم؛ فصاروا للإسلام أنصارا.
اهتدى به الجنُّ إذْ سمِعُوه مِنْ فِيْ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِبَطْنِ نخلٍ بينَ مكةَ والطائف، فانطلَقُوا إلى قومِهم منذِرين، {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1- 2] الآيات.
وجاءَ عند مسلمٍ رحمه الله في صحيحِه أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم- ذهَبَ إلى الجنِّ حيثُ أتاه داعيهم، فقرأَ عليهمُ القرآن.
{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185].
اللهم انفعنا بهدي الكتاب، واجعله لنا موعظةً وهدى، ولا تجعلْه علينا حسرة فنرْدى.. يا من تنزه عن الكفء والمثيل، {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 26].



الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ العزيزِ الغفار، والصلاةُ والسلامُ على النبيِّ المختار.. أما بعد:
فإنَّه مهما تعدَّدَتْ بالناسِ السُّبُل، وابتغَوْا ما اسْطاعُوا من الحِيَل؛ فلن يجِدُوا الهدى حقَّ الهدى إلا في كتابِ اللهِ الخالدِ المحفوظ، وإنِ اتخَذُوا لذلك نفقًا في الأرض أو سُلّمًا في السماء، ومنْ أعرضَ عن كتابَ ربِّه فهو ميْتٌ وليس بحيّ، حتى وإنْ طارَ في الهواء، أو غاصَ في الماء.
وإذا كانت تلكم حقيقةً لا مراءَ فيها - أيها الصائمون-؛ فكلِّ ذي عَجَبٍ أن يعجبَ غيرَ ملومٍ قارعًا سِنَّه، ومُجيلًا نظَرَه في واقعِ أمةِ الإسلام:
بأيمانهم نُورانِ: ذِكْرٌ وسُنَّةٌ فما بالُهُمْ في حالكِ الظُّلُماتِ؟!

وبقَدْرِ ما يُرْفَعُ من نورِ الوحي المطهَّر في بقعةٍ ما يكونُ قدرُ الظلماتِ المتراكِمة بعضُها فوقَ بعض، وما وَقَعَ بلاءٌ وشرٌّ وفتنة، واعتُدِيَ على جنابِ التوحيدِ الـمُعَظَّم، وكَثُرَ الكذبُ على اللهِ تعالى، وظَهَرَتْ صورٌ من المجاهرةِ بالمنكرات، وظَهَرَ البغيُ والتحاسدُ والتدابرُ؛ إلا حينَ نُسِيَ حظٌّ مما ذُكِّرَ به المسلمون في كتابِ ربهم.
وأصبحَ أحسنُ ما يُحْسِنُه كثيرٌ من هؤلاء أن يفتتِحوا به المحافل، ويُزيِّنوا برسْمِهِ الجُدُر، ويُرَدِّدُوه في المآتِم.. ليس إلا.
وحقُّ هذا الكتابِ أعظمُ من هذا وأجلّ، ولقد كان للسلف الصالح - رحمهم اللهُ - مع هذا القرآن حياةٌ كحياةِ السماء مع الماء؛ فما ظنُّكم بالسمكِ إذا فارقَ الماء؟!
لَهُمْ بكتاب ربِّهم دويٌّ كدَوِيٍّ النحل؛ فنالُوا بذلكمُ الشرفَ والفضل، وعلى الأخصِّ في شهر رمضانَ، الذي كان لهم فيه شأنٌ أيُّما شأن، يقودُ ركابَهمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وفي مقدِّمتِهم صحابتُه - عليهم رضوانُ الله تعالى -، مَنْ إنَّ لهم مع كتابِ ربهم لشأنًا عَجَبا، تلاوةً وتدبُّرا وتعلمًا وتعليمًا وعملا..
لقد كان رسولُ الله - عليه أزكى صلواتِ اللهِ وسلامُه - يَلْقَى جبريلَ -عليه السلامُ- كلَّ ليلةٍ من رمضانَ فيدارِسُه القرآن، ولقد روى مسلمٌ في صحيحه عن ابنِ الشخيرِ - رضي اللهُ عنه- قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي ولصدره أزيزٌ كأزيزِ المرجَلِ من البُكاء.
وأبو بكر - رضي الله عنه - كان أسيفًا إذا قام في المحراب لم يسمعِ الناسَ من البكاء.
وكما أن القرآنَ لا يمسه إلا المطَهَّرون؛ فكذلكم لا يتعظُ به حقا إلا القلوبُ الطاهرةُ من أدرانِ المعاصي {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20].
ومع ذلكم فإنَّ ربنا سبحانه أخبرَ عن المنافقين الذين يُبيِّتون غيرَ ما يقولون، فقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، فلو تدبَّرُوا حقَّ التدبُّرِ لفقِهُوا ولعظَّموا..
ألا إن هذا الكتابَ أُنزِلَ ليُتدبَّرَ ويعمَل به، فاتخذَ قومٌ قراءته عملا، دونَ أن يتبيَّنُوا فيحذروا سبيلَ السابقين المعنيِّينَ بقولِ الله سبحانَه: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78]، لا يعلمونه إلا قراءةً فحسب، على أحدِ أوجُهِ تأويلِ الآية.
مأجورون إن شاء الله ألئكمُ المسارعون في تلاوةِ كتاب ربهم في هذا الشهر المبارك، ولكنَّ أعظمَ أجرا، وأكثرَ برا، وأعلمَ بالله سبحانه، وأفقهَ لحدودِ ما أنزلَ اللهُ على رسولِه -صلى الله عليه وسلم-، وأدنى أن تُخْبِتَ لربهم قلوبُهم، وأحرى لتمييزِ الطيّبِ من الخبيث؛ هم ألئكم المتدبرون لكلام ربهم، المستضيئون به في درْبِهم، المستعينون بكلام أهل العلم في تفسيره وبيان مراده..
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، وابتغوا في كتابه السعادةَ والهناء، واطراحَ الضيقِ والعناء، إن كنتم لله تشكرون فيما أولاكم به واختصكم من فضلِه ورحمته.
المشاهدات 1177 | التعليقات 0