﴿ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون﴾ ألقيت في: 27 / 1 / 1446 هـ
د. عبدالله بن حسن الحبجر
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واستمسك بهديه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي أيها المسلمون بتقوى الله - سبحانه -
(وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)
عباد الله:
خُلقٌ مشينٌ، مغروزٌ في النفوس دفينٌ، فإن تمكن هلكت به أمم وقُطٍعَت به رحم، يأمر فيُطاع ويقود فيُتبّع،
الشح _يا عباد الله_ أصلُ كثيرٍ من الرذائل، فإن الشح هو مادة الأثرة والأنانية، إنه بخل وزيادة بل البخل أثر من آثاره، وليس الشح مقصورا على منع المال بل هو أوسع من ذلك ولشناعته وقبحه لا يجتمع مع الإيمان أبدا:
فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ ﷺ، قال:
" لا يَجتَمِعُ الشُّحُّ والإيمانُ في قَلبِ عبدٍ أبدًا" صَحَّحه الألبانيُّ
بل وصف الله بالشح المنافقين فحين ذكر حالهم محذرا أبان أنهم أهل شح شديد حريصينَ على مَنعِ كُلِّ خَيرٍ مِنَ الوُصولِ للمؤمنين فقال: ﴾أشحة عليكم )
وهم لشدة شُحهم أهل خوف جبناء:
﴿فَإِذَا جَآءَ ٱلۡخَوۡفُ رَأَيۡتَهُمۡ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ تَدُورُ أَعۡيُنُهُمۡ كَٱلَّذِي يُغۡشَىٰ عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ﴾
بخلاء بالمال والمودة والنفس والجهد حتى بلين الجانب والكلام الحسن وبكل ما فيه نفع للمسلمين:
﴿ إِذَا ذَهَبَ ٱلۡخَوۡفُ سَلَقُوكُم بِأَلۡسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ٱلۡخَيۡرِۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَمۡ يُؤۡمِنُواْ فَأَحۡبَطَ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا ﴾
أما أهل الإيمان فحالهم له شأن آخر، ومن قرأ ثناء الله على الأنصار في سورة الحشر تبين له عظيم الفرق بين الفريقين قال سبحانه:
﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
كريمةً نفوسهم، أسخياءَ بأموالهم وأخلاقهم ومشاعرهم، صافيةً مودتهم لإخوانهم، لا يَكرَهونَ ما أُنعِمَ به على إخوانِهم، يؤثرون على قِلةٍ وفقر، لا جود كجودهم، قد أكرمهم الله فوقاهم شح نفوسهم:
﴿ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون﴾
عباد الله:
قد جاء في السنة أحاديث حذر فيها ﷺ من مغبة الشح إذا أطاعته النفوس،فعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ قال:
"اتَّقوا الشُّحَّ؛ فإنَّ الشُّحَّ أهلَكَ مَن كان قَبلَكم، حمَلَهم على أنْ سَفَكوا دِماءَهم، واستحَلُّوا محارِمَهم" رواه مسلم.
وعن عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: خَطَب رَسولُ اللهِ ﷺ، فقال: "إيَّاكم والشُّحَّ؛ فإنَّما هلَك مَن كان قَبْلَكم بالشُّحِّ، أمَرَهم بالبُخلِ فبَخِلوا، وأمَرَهم بالقَطيعةِ فقَطَعوا، وأمَرَهم بالفُجورِ ففَجَروا" صحَّحه الألبانيُّ
وحين عد النبي ﷺ أمارات الساعة جعل ظهوره منها فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ ﷺ قال:
"يتقارَبُ الزَّمانُ، ويَنقُصُ العَمَلُ، ويُلقى الشُّحُّ، وتظهَرُ الفِتَنُ، ويَكثُرُ الهَرْجُ. ....."
قال ابنُ حَجَرٍ:
"أمَّا قولُه: ويُلقى الشُّحُّ. فالمرادُ إلقاؤه في قُلوبِ النَّاسِ على اختلافِ أحوالِهم؛ حتى يبخَلَ العالِمُ بعِلمِه، فيَترُكَ التَّعليمَ والفتوى، ويَبخَلَ الصَّانعُ بصناعتِه حتى يترُكَ تعليمَ غيرِه، ويبخَلَ الغنيُّ بمالِه حتى يَهلِكَ الفقيرُ،"
عباد الله:
من شر ما في الإنسانِ:
أن يكونَ شَحيحًا بما أُمِرَ به، شَحيحًا بمالِه أن يُنفِقَه في وَجهِه، شَحيحًا بجاهِه، شَحيحًا بعِلمِه ونَصيحتِه ورَأيِه، شحيحا بجانبه أن يلينه للمسلمين، شحيحا بمعروف أن يبذله أو كلمة طيبة يقولها أو ابتسامة يزرعها فكم فاته من خير كثير.
وكان بعض السلف يدعو ويقول: اللهم قني شح نفسي لأنه لا فَلاحَ لمن لم يوق شح نفسه قال تعالى:
﴿وَمَن یُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه أما بعد:
عباد الله:
فإن من أشد المواطن التي يحضر فيها شح النفوس ويكون عظيما عليها مخالفته فيه:
مجال الإصلاح بين المتخاصمين فعند النِّزاعِ وطلبِ المصالحة تكونُ الأنفسُ حريصةً جدًّا على ما لها من حُقوقٍ، كلُّ نفسٍ تُريد أنْ يكونَ الصُّلحُ في جانبها وفي مصلحتِها، وهذا ممَّا يمنَعُ وقوعَ التَّصالُح والاتِّفاقِ ولذلك قال تعالى في سياق الصلح بين الزوجين:
﴿وَالصلح خير وأحضرت الأنفس الشح ﴾
وكأنَّ اللهَ يقول: دعُوا هذا الشُّحَّ الَّذي جُبِلَتْ عليه الأنفسُ، واطلُبوا الخيرَ في المصالَحةِ، والتَّسامُحِ عن بعض حقوقكم.
ولأن الإنسانُ بطبيعتِه قد يشقُّ عليه التَّنازلُ عن بعضِ حقِّه ويرى أنَّ في ذلك غضاضةً وهضمًا لحقِّه، وأنَّ العاقبةَ غيرُ حميدةٍ، ذكرهم الله فقال:
﴿وَالصلح خير﴾
الصلح خيرٌ لهما مِن استقصاءِ كلٍّ منهما على كلِّ حقِّه؛ لِمَا فيه من الإصلاح، وبقاءِ الأُلفة،
خير لهما في العاجل والآجل وهذا وعد من الله ومن وثق بوعد الله هانت عليه نفسه وحظوظها ولو أن كلا من المتخاصمين أطاع شح نفسه لما تم صلح أبدا.
﴿وَإِن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا﴾
اللهم اجعلنا ممن وقي شح نفسه فكان من المفلحين.