﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
عاصم بن محمد الغامدي
الحمد لله الذي كان بعباده خبيرًا بصيرًا، وتبارك الذي جعل في السماء بروجًا وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمدٍ، أعلى الناس منزلةً وقدرًا، وأوصلهم رحمًا وبِرًّا، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى -أيها الناس-؛ فالتقوى خيرُ زادٍ وخيرُ لِباسٍ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.
إنَّ الدنيا تفنَى، وإنَّ الآخرةَ تبقَى، فلا تُلهِيَّنَّكم الفانية، ولا تُشغِلنَّكم عن الباقِية، الدنيا مُنقطِعة، والمصيرُ إلى الله.
عباد الله:
لما كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى جميع الثقلين إنسِهم وجنِّهم، عربهم وعجمهم، وهو خاتم الأنبياء لا نبي بعده، كان من نعمة الله على عباده، ومن تمام حجته على خلقه أن تكون نبوته وبراهين رسالته، معلومةً لكل الخلق الذين بعث إليهم، فالقرآنُ كلامُ الله فيه بشارةٌ ونذارةٌ، ودعوةٌ وحُجَّةٌ، لا يقدِرُ أحدٌ على الإتيانِ بمثله، لا الأنبياءُ، ولا الأولياءُ، ولا السحرةُ ولا غيرُهم، ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ* فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾.
إنه تحدٍ إلهيٌ في أولِ ما نزلَ من القرآنِ بمكةَ، معناه إن كان محمدٌ قادرًا على تقوُّلِه، فإنه ممكنٌ للناسِ الذين همْ منْ جنسِه، فليأتوا بمثله إن كانوا صادقين.
ثم تنزل رب العزة والجلال مع المكذبين فتحداهم بعشر سور مثله، ثم تحداهم بسورة واحدة منه، ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.
وما زال هذا التحدي قائمًا، يدعو إلى توحيد الله جلَّ جلالُه وإقامة الحجة على العالمين، ﴿فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
عباد الله:
ألفاظُ القرآن كلُّها في الرتبةِ العليةِ من الحُسن، جمعتْ بين سهولةِ اللفظ، وقربِ الاستعمالِ، فكانت دانيةَ التناولِ، يفهمها كلُّ أحدٍ لا سيما في زمن التنزيلِ، وإن لم يفهموا ما تحتها من أسرارِ الفصاحةِ والبلاغةِ، وأحسنُ الكلامِ ما عَرَفَ الخاصةُ فضلَه، وفهِمَ العامةُ معناه.
وموضعُ الكلمةِ في القرآنِ معجزٌ، ومعناها دقيقٌ، وقد عُني السلف الصالح رحمهم الله بهذا عنايةً بالغةً، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "منْ أرادَ العلمَ فلْيُثَوِّرِ القُرآنَ، فإنَّ فيهِ علمَ الأولينَ والآخِرينَ"، ومعنَى تثويرِ القرآنِ: إثارةُ الأسئلةِ عندَ قراءتِهِ.
ومن الألفاظ البليغة التي لا يغني عنها غيرها لفظُ الشحِّ الذي علَّق الله سبحانه الفلاحَ على الوقاية منه، فقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، وذلك لأنَّ الشحَّ يجرُّ إلى الظلمِ، والظلمُ ظلماتٌ يومَ القيامةِ، قال صلى الله عليه وسلم: «اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ».
"جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، فقال: خَشِيتُ أن تصيبني هذه الآية: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، فإِنِّي امْرُؤٌ لَا يَخْرُجُ مِنْ يَدَيَّ شَيْءٌ أقدرُ على منعِهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «ذَكَرْتَ الْبُخْلَ، وَبِئْسَ الشَّيْءُ الْبُخْلُ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فَلَيْسَ كَمَا قُلْتَ، ذَلِكَ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى مَالِ أَخِيكَ فَتَأْكُلَهُ».
قالَ ابن عمرَ رضي الله عنهما: "الشحُّ أن تَطْمَحَ عينُ الرجُلِ إلى ما ليسَ لَهُ"، ومن ذلك نظره إلى امرأةٍ لا تحلُّ له، ولذلك كان عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه يطوف بالبيت ويدعو: اللهم قني شحَّ نفسي، لا يزيد على ذلك، فسأله رجل فقال: إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزنِ.
وبذلك يتبين أن معنى الآية عندهم رضي الله عنهم: أن من وقي شحَّ نفسه الذي يدعوه لطلب ما لا يحل له من الأموال والنساء فهو من المفلحين.
والشحُّ متعلقٌ بأمورِ الدنيا، أمَّا الطاعاتُ وما يعَدُّ للآخرةِ فإنَّ الفلاح كل الفلاح في الشح بها، ألا ترى أن الله سبحانه وتعالى أمر بالمسابقة في أعمال البر، والتنافس فيها، والمبادرة إليها، وهذا ضدُّ الإيثار بها، ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
جعلنا الله من العالمين العاملين، ووقانا الخزي والخسار في يوم الدين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:
فليس في كلامِ العَرَبِ كلمةٌ أجمعُ لخير الدنيا والآخرة من كلمة الفلاح[1]، وتشمل معاني هذه الكلمة عند العرب: الفوزَ والنجاةَ وإصابةَ الخيرِ والبقاءَ، فالمفلحُ في القرآنِ من فازَ بمطلوبه، ونجا من مرهوبه، وخلِّد في النعيم أبدًا.
وقد أخبر رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن علامات الساعةِ فقالَ: «يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ -أي: يوضع في القلوب، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ، قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: الْقَتْلُ الْقَتْلُ».
فالشحُّ من أخطرِ أدواءِ القلوبِ، «وَلَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا»، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
ولا يكون البعدُ عن الشحِّ، إلا بتلمسِ أسبابِ الفلاحِ، وهذا يبيُّن جانبًا من جوانب ارتباطِهما في هذه الآيةِ، ويشدُّك هذا إلى تأملِ نداءِ الفلاحِ اليوميِّ، الذي يتكرر على مسامعكَ كلَّ يومٍ، حيَّ على الفلاحِ، حيَّ على الفلاحِ، مرتانِ في كلِّ أذانٍ، ومرةً في كلِّ إقامةٍ، والمعنى: عجِّل إِلى سَبَبِ الْفَوْزِ والْبَقَاءِ فِي الْجَنَّةِ والخُلُودِ في النَّعِيمِ، وَهُوَ الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ.
فمن حافظ على صلاةِ الجماعةِ وداومَ عليها، كان حريًا بانطباق وصف الإيمان، والالتزام ببقية أركان الإسلام، والوقاية من شحِّ نفسِه، وأولئك هم المفلحون.
ألا فاتقوا الله يا عباد الله وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة، فإن الشقي من حرم رحمة الله عياذًا بالله، وتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا في سائر أيامكم من طاعته، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًّا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.
[1] شرح صحيح مسلم للنووي (4/235).
المرفقات
1708012826_﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ للجوال.pdf
1708012826_﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.pdf
1708012875_﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.docx