وما نُرسلُ بالآياتِ إلا تخويفاً 1444/4/3
يوسف العوض
الخطبة الأولى
أيُّها المؤمنونَ : يقولُ اللهُ تعالى في سورةِ الإسراء : (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا)، وقدْ تنوعتْ أقوالُ المفسرينَ في بيانِ المرادِ بهذهِ الآياتِ التي يرسلُها ربُّنا تعالى، فمنْ قائلٍ: هو الموتُ المتفشي الذي يكونُ بسببِ وباءٍ أو مرضٍ، ومنْ قائلٍ: هي معجزاتُ الرسلِ جعلَها اللهُ تعالى تخويفاً للمكذبينَ، وثالثٌ يقولُ: آياتُ الانتقامِ تخويفاً منَ المعاصي ، وهذا الإمامُ ابنُ خزيمةَ: يبوّبُ على أحاديثِ الكسوفِ بقولِه: بابُ ذكرِ الخبرِ الدالِ على أنَّ كسوفَهما تخويفٌ منَ اللهِ لعبادِه.
أيُّها المؤمنونَ : كلُّ هذه العباراتِ ـ في تنوعِها ـ تشيرُ إلى أنَّ الآياتِ لا يمكنُ حصرُها في شيءٍ واحدٍ، وما ذكرَه السلفُ ـ رحمَهم اللهُ ـ إنَّما هو عبارةٌ عن أمثلةٍ لهذه الآياتِ، وليس مرادُهم بذلكِ حصرَ الآياتِ في نوعٍ واحدٍ منها، وهذه هي عادةُ السلفِ في أمثالِ هذه المواضعِ عندما يفسرونَها ، والمهمُ هنا أن يتأملَ المؤمنُ والمؤمنةُ كثيراً في الحكمةِ من إرسالِ هذه الآياتِ ألا وهي التخويفُ، أي: حتى يكونَ الإنسانُ خائفاً وجلاً من عقوبةٍ قد تنزلُ به ، يقولُ قتادةُ: في بيانِ معنى هذه القاعدةِ القرآنيةِ: " إنَّ اللهَ يخوفُ الناسَ بما شاءَ من آيةٍ لعلهم يعتبرون، أو يذّكرون، أو يرجعون.
أيُّها المؤمنونَ : ذُكرَ لنا أنَّ الكوفةَ رجفت على عهدِ ابنِ مسعودٍ، فقال:" يأيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتِبوه " ، وروى ابن أبي شيبةَ: في مصنفهِ من طريقِ صفيةَ بنتِ أبي عبيدٍ قالت: زُلزلت الأرضُ على عهدِ عمرَ حتى اصطفقت السررُ، فوافق ذلك عبدُ الله بنُ عمر وهو يصلي، فلم يدرِ، قال: فخطب عمرُ الناسَ وقال: لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم ، وهذا التواردُ في كلماتِ السلفِ في بيانِ معنى هذه الآيةِ يؤكدُ أنَّ السببَ الأكبرَ في إرسالِ الآياتِ: هو تخويفُ العبادِ، وترهيبُهم ممّا يقعُ منهم من ذنوبٍ ومعاصٍ، لعلهم يرجعون إلى ربِّهم الذي أرسلَ لهم هذه الآياتِ والنذرَ، وإن لم يرجعوا فإنَّ هذه علامةُ قسوةٍ في القلبِ كما قالَ تعالى في سورةِ الأنعام: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (%) فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (%) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) (%) ، وعمَّا روي عنِ ابنِ مسعودٍ رضي اللهُ عنه أنّه لمّا سمعَ بخسفٍ قال: " كنّا أصحابُ محمّدٍ صلى اللهُ عليه وسلّم نعدُ الآياتِ بركةً، وأنتم تعدونها تخويفاً "، ومعناه: لأنّا نخافُ بها فنزدادُ إيماناً وعملاً، فيكونُ ذلك لنا بركةً، وأنتم تعدونها تخويفاً ولا تعملون معها عملاً، يكون لكم به بركةٌ.
أيُّها المؤمنونَ : وإذا كنا لا ننكرُ أنَّ لزلزلةِ الأرضِ أسباباً جيولوجيةً معروفةً، وللفيضاناتِ أسبابَها وللأعاصيرِ أسبابَها الماديةَ، وللكسوفِ أسبابَها الفلكيةَ ، فإنّ السؤالَ الذي يطرحُ نفسَه: من الذي أمرَ الأرضَ أن تتحركَ وتضطربَ؟ ومن الذي أذنَ للماءِ أن يزيدَ عن قدرِه المعتادِ في بعضِ المناطقِ؟ ومن الذي أمر الرياحَ أن تتحركَ بتلكِ السرعةِ العظيمةِ ؟ ومن الذي أمرَ الشمسَ أو القمر أن يتقدم أو يتأخرَ ؟ أليس اللهُ ؟ أليس الذي أرسلها يريدُ من عبادِه أن يتضرعوا له، ويستكينوا له لعله يصرفُ عنهم هذه الآياتِ ؟!
أيُّها المؤمنونَ : ثمّ نقولُ ماذا يصنعُ هؤلاءِ الذين يهوّنون من شأنِ هذه الآيات، شعروا أم لم يشعروا، قصدوا أم لم يقصدوا، بمثلِ تلك التفسيراتِ الماديةِ الباردةِ، ماذا يصنعون بما رواه البخاري ومسلم عن عائشة زوج النَّبيُ صلى اللهُ عليه وسلّم أنّها قالت: كان النّبي صلى اللهُ عليه وسلم إذا عصفت الريحُ، قالَ: " اللهمّ إنّي أسألُك خيرَها وخيرَ ما فيها وخيرَ ما أرسلت به، وأعوذُ بك من شرِّها وشرِّما فيها وشرِّ ما أرسلت به " قالت:" وإذا تخيلت السماءُ- وهي سحابةٌ فيها رعد وبرق يخيل إليه أنها ماطرة- تغير لونُه، وخرجَ ودخلَ، وأقبلَ وأدبرَ، فإذا مطرت سرّي عنه، فعرفتُ ذلك في وجهِه، قالت عائشةُ : فسألتُه؟ فقالَ: لعله يا عائشةُ كما قالَ قومُ عادٍ: (فلمّا رأوه عارضاً مستقبلَ أوديتهم قالوا هذا عارضٌ ممطرُنا) ، وماذا يصنعون بحديثِ أبي موسى الأشعري في البخاري قالَ "خَسفت الشمسُ، فقام النّبي صلى اللهُ عليه وسلم فزعاً، يخشى أن تكونَ الساعةُ ، فأتى المسجدَ، فصلى بأطولِ قيامٍ وركوعٍ وسجودٍ رأيتُه قطُّ يفعله، وقال: هذه الآياتُ التي يرسلُ اللهُ ، لا تكونُ لموتِ أحدٍ ولا لحياتِه، ولكن يخوّفُ اللهُ به عبادَه، فإذا رأيتم شيئاً من ذلك، فافزعوا إلى ذكرِه ودعائِه واستغفارِه ".
اللهمّ لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا يا أرحم الراحمين..
الخطبة الثانية
أيُّها المؤمنونَ : وأما ما يوردُه بعضُ الناسِ من قولهم: هناك بلادٌ أشدُّ معصيةً من تلك البلادِ التي أصابها ذلك الزلزالُ ! ويوجد دولٌ أشدُّ فجوراً من تلك التي ضربَها ذاك الإعصارُ ! ويوجد دولٌ أشدُّ كفراً من تلك البلاد التي جاءتها الآياتُ والنذرُ ! فهذه الإيراداتُ لا ينبغي أن توردَ أصلاً، لأنَّها كالإعتراضِ على حكمةِ اللهِ تعالى في أفعالِه وقضائِه وقدرِه، فإنَّ ربَّنا يحكمُ ما يشاءُ ويفعلُ ما يريدُ، واللهُ يقضي بالحقِّ، وربُّنا لا يُسأل عمّا يفعلُ ، وله سبحانه وتعالى الحكمةُ البالغةُ ، والعلمُ التامُ ، ومن وراء الابتلاءاتِ حكمٌ وأسرارٌ تعجزُ عقولُنا عن الإحاطةِ بها، فضلاً عن إدراكها.
اللهمّ ارحمنا فإنك بنا راحم ولا تعذبنا فإنك علينا قادر والطف بنا فيما جرت به المقادير..
المرفقات
1666672052_الكسوف.pdf
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق