وما قدروا الله حق قدره .. لحامد الإدريسي

وما قدروا الله حق قدره
حامد الإدريسي


الله، كلمة تزلزل القلوب، وتهز الأركان، تقشعر جلود المؤمنين عند ذكرها، وتهزم جموع المشركين عند سماعها، تغرد لسماعها الطيور في أوكارها، وترق لها الجبال الصماء في شموخها، عظيم سمى نفسه باسم عظيم، (هل تعلم له سميا)؟

إن قدر الله عظيم عظيم، وقدر اسمه جليل جليل، لكن استخدامنا له ليس كما يليق بجلال وجهه، وبهاء اسمه، فقد أصبحنا نستخدم هذه الكلمة كأي كلمة من كلمات المعجم التي ننطقها دون أن نراعي لها أي اهتمام، أو نقدرها قدرها، قال - تعالى -: (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون)، فمن كانت الأرض قبضته، والسماوات مطويات بيمينه، والخلق كله بيديه، والقلوب بين أصبعين من أصابعه فإن علينا أن نجل اسمه أيما إجلال، ونعظم ذكره في الألسن أيما تعظيم، ولا نجعل النطق باسمه العلي كالنطق بأي كلمة أخرى سواه، قال - تعالى -: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) أي: لا تنادوا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كما تنادون بعضكم بعضا، تعظيما لمكانة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهيبته، قال ابن كثير: "قال الضحاك، عن ابن عباس: كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله - عز وجل -، عن ذلك، إعظامًا لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه قال: فقالوا: يا رسول الله، يا نبي الله، وهكذا قال مجاهد، وسعيد بن جُبَير.

وقال قتادة: أمر الله أن يهاب نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأن يُبَجَّل وأن يعظَّم وأن يسود"، وإذا كان هذا في حق رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإن حق الله أعظم، وقدره أكبر.

لو عددنا لفظ الجلالة الذي ننطقه في يومنا منذ أن نصبح إلى أن نمسي، لوجدنا أن العدد كبير، لكن التقدير والإجلال الذي يصحب تلفظنا بهذه الكلمة العظيمة قليل جدا، أو منتف في كثير من الأحيان، وذلك بسبب أننا أدرجنا هذه الكلمة العظيمة في استعمالات كثيرة، وعبارات مختلفة، بعضها تستعمل في معان حميدة، وبعضها تستخدم في معان ذميمة، وهذا ما جعل الاسم العظيم يفقد هيبته وجلاله.

فمن الناس من يقسم بالله جهد أيمانه، ويستجيد الحلف ويحسن صياغته، ويستعين عليه بتحريك اليد ورفع الصوت وجحوظ العينين، حتى يصور إلى السامع أنه صادق، وهو أكذب الكاذبين.

إن الذي يحلف بالله العظيم، على أمر يعلم أنه كذب، يريد به عرضا من أعراض الدنيا الفانية، يكون قد استخف بهذه الكلمة أيما استخفاف، وأهانها في نفسه إهانة عظيمة، إذ جعل قدر الله - عز وجل - في نفسه أقل من هذه البضاعة التي يحلف عليها، أو هذه المنفعة التي يريد أن ينالها، فيكون قد بلغ من الحمق منتهاه، ومن السفه أقصاه، حين اتخذ اسم الله العظيم سلما يرقاه بلسانه الآثم لينال عرضا من الدنيا قد لا يتجاوز دريهمات معدودة، فيرتكب هذه الكذبة العظيمة ويستخدم اسم الله مرقا يغمس فيه كذبته، ودهانا يطلي به بهتانه، بل لربما سبح وهلل وحوقل واسترجع، وهو لا يريد بذلك كله إلا التحايل على السامع كي يطمئن إليه ويصدقه.

ولو عرف أقل القليل من معاني التوكل، وكان لديه شيء يسير من الإيمان بالقضاء والقدر، لعرف أن الله جل الله، هو من سيعطيه ويمنعه، وأن الكذب بئس الكذب، لا يزيد في رزق ولا يقرب من أجل.

إن هذا السفيه لم يعظم الله - عز وجل - ولم يراع أنه في دائرة ملكوته، وفي مائدة رزقه، وتحت ظل سمائه، ولم يدرك أن جنوده تلف به من كل مكان، مثله كمثل سفيه دخل إلى بيت رجل كريم كي يشبع جوعته، ويستر عورته، فأخذ يتكلم بالكلام الفاحش عن الرجل وهو على مائدته، يأكل من طعامه ويستظل بظل بيته، والرجل يطل عليه ويسمع كلامه، وحوله جنوده وحرسه، فما أحلم الله وما أعظم الله، والويل لمن جعل إلهه وسيلة للاستيلاء على أموال الناس، وجعل اسمه العظيم عونا له على جيوبهم وممتلكاتهم، فركب هذا الاسم العظيم ليكذب على عباد الله ويأخذ حقوقهم، الويل له مني ومن الملائكة ومن الناس أجمعين، فأقبح به من ذنب لا يكون في المؤمن أبدا، كما قال - صلى الله عليه وآله وسلم - حين سئل أيزني المؤمن أيسرق المؤمن أيشرب المؤمن الخمر، وفي كلها يقول: نعم، حتى قيل له أيكذب المؤمن قال: لا، وعجبي كيف يغفر ربنا ويستر ويحلم مع كل هذه الوقاحة والجرأة عليه، - سبحانه - ما أعظم حلمه وأجل قدره: (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق).

ومن الناس، من يذكر اسم الله - عز وجل - في اليوم أكثر من مائة مرة، لكنه لا يذكره ذكر الصالحين، إنما يذكره ذكر الفاسقين، السبابين اللعانين، الذين لا تصبر ألسنتهم عن الفحش، ولا تكف أفواههم عن اللغو، وهم بين هذا وذاك، يرددون السُّبة العظيمة تغوص فيها النوق من عظمها، فيحشرون فيها اسم الجلالة حشرا سيئا شنيعا، فلا تسمع هذا اللفظ من أفواههم المنتنة، إلا في سباب أو هراش، ولا يفتئون يلعنون ويشتمون، حتى إن أحدهم ليلعن ولده وزوجته ودابته، ولا يترك من حوله شيئا إلا ولطخه بريقه العفن، وكلامه البذيء، فيجني بلسانه على نفسه ويجني على من حوله من الناس والدواب والأنعام، (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات).

ومن الناس من يذكر الله - عز وجل -، لكنه يتبع غير سبيل المؤمنين، ويتلاعب بهذه الكلمة على غير هدى من الله، فتراه يلهث ويتقافز مرددا هو هو هو، زاعما بذلك أنه يتقرب إلى الله، وهو يتقرب من الشيطان، ويظن أنه يرضي الله - عز وجل -، وهو قد اتخذ اسمه هزؤا، وعبادته بدعا (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله).

ومن الناس من يجعل هذه الكلمة العظيمة، رديفة لقوله ياليل يا عين، فتراه يتمايل وهو يرددها بتغنج عند انتهاء الغانية من نوتة الموال، منتشيا فرحا جزلا، كأنه يظن أن لن يحور، (بلى إن ربه كان به بصيرا) فلا يزال يكررها في مكان، كان يجب أن يقوم عنه قيام الصالحين الذين إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، وإذا مروا به مروا كراما.

وخير الناس حالا، من يجعلون الاسم العظيم أسلوب كلامهم، ووصلة أحاديثهم، فيلغون في أيمان لا يؤاخذهم الله فيها، ولا يَلزمُهم تكفيرها، لكن هذا وإن كان لا يضرهم في دينهم، ولا يُكتب عليهم في موازينهم، إلا أن من تعظيم الله - عز وجل - أن نذكره ذكرا يليق باسمه العظيم، ووجهه الكريم، ولا نجعله عرضة أيماننا، وهمزة وصل لأحاديثنا، حتى يفقد الاسم الجليل هيبته في قلوبنا، وقد ندرجه في كلام باطل، ولغو فاسد، فتجد الماجن يصف خليلته وعلاقتهما البائسة، أو تجد المرابي وهو يتحدث عن صفقته المحرمة، أو المخمر وهو يصف ليلته الحمراء، وكلهم يردد اسم الله العظيم ويدرجه في كلامه السافل الوضيع، وأولى له أن يجرد كلامه من ذكر اسم الجلالة، وينزهه عن هذه المواضيع الساقطة التي تفيح برائحة القذارة...

قال - تعالى - مادحا نفسه: (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى) فانظر إلى اسم الله - عز وجل - ومكانته العظيمة حتى كان هو أخص اسم من أسمائه - سبحانه -، فاقدُر هذا الاسم العظيم قدره، وجنّبه مواطن السفه ومعاني السوء.
المشاهدات 1273 | التعليقات 0