وَلَيَالٍ عَشْرٍ 1442/11/29هـ
يوسف العوض
الخطبة الأولى
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مسلمون ) .
( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسِ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رقيبا ) .
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يَصْلُحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولُهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عظيماً ) .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : إنَّ عُمَرَ الْإِنْسَانِ أيامٌ وليالٍ ، إذَا ذَهَبَ بَعْضُهُ ، ذَهَبَ كُلُّهُ ، وَعُمَرَ الْأَمَةِ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِين ، فَهُو عُمُرٌ قَصِيرٌ مُقَارَنَةً بِالْأُمَمِ السَّابِقَةِ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ أحدًا ؛ لَذّا فَقَد ضَاعَفَ لَنَا الْحَسَنَةَ وَجَعَلَهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ، وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ، وَجَعَلَ لَنَا نَفَحَاتٍ وَمَوَاسِمَ خَيْرٍ وَطَاعَاتٍ يُضَاعِفُ فِيهَا الْأُجُورُ ، مِنْهَا : الْعُشْرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، إنَّهَا الْعَشْرُ الْمُبَارَكَاتُ .
فَالْمُؤْمِنُ الكيِّسُ الفَطِنُ مِن يَغْتَنِمُ هَذِهِ الْمَوَاسِمَ ، فَأَصْحَابُ التِّجَارَةِ لَهُم مواسمُ لَا يُفرِّطون فِيهَا ، وَأَصْحَابُ الزِّرَاعَة لَهُم مَوَاسِمُ يَزْرَعُون فِيهَا ، فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَتْ تِجَارَتُهُ مَعَ اللَّهِ ، فَهِي التِّجَارَةُ الرابحةُ ، وزراعتُه يَجْنِي ثِمَارَهَا بِالدَّارِ الْآخِرَةِ !
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : جاءَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : ( ما مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي : أَيَّامَ الْعَشْرِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَال : وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بشيء ) ؛ رواه أَبُو دَاوُد ، وَصَحَّحَه الألباني ، فَمِنْ عِبادِ الّلِه مَنْ لَهُ نَصِيبٌ مَنْ كِتَابِ اللَّهِ يَجْعَلُ لَهُ خَتْمَةً أَو ختماتٍ ، وَآخَرُ لَهُ حَظٌّ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ صِيَامٍ أَوْ نُسُكٍ ؛ وَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْعَشْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ أَنَّهَا عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ ، وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحِ .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : إنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ الْمُبَارَكَاتِ الْحَجُّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ؛ ( سُئل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَال : إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ، قِيل : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَال : جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قِيل : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَال : حَجٌّ مبرورٌ ) رواه البخاري.
وَمَن الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَلْ هُوَ مِنْ أَفْضَلِهَا الصيامُ ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ : ( كلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ ، إلَّا الصِّيَامُ ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ ) ؛ رواه البخاري ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : ( من صَام يومًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خريفًا ) رواه البخاري ، وَعَلَيْه ؛ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَصُومَ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ وَيَتَحَقَّق الصِّيَامُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ ؛ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا سُئل عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ ، فَقَال : ( يكفِّر السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ والبَاقيةَ ) رواه مسلم.
وَمَن الْأَعْمَال الصلاةُ فِي وَقْتِهَا مَعَ الْجَمَاعَةِ ، وَالْإِكْثَارُ مِنْ النَّوَافِلِ ؛ فَإِنَّهَا مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ وَهِيَ سَبَبٌ لِمَحَبَّةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِلْعَبْدِ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : وَمَن الْأَعْمَالِ التَّكْبِيرُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّهْلِيلُ وَالذِّكْرُ ، وَيَكُونُ التَّكْبِيرُ فِي كُلِّ الْعَشْرِ مُطلقًا ، وَيَكُونُ مقيدًا مِنْ صَبَاحِ يَوْمِ عَرَفَةَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ لِغَيْرِ الْحَاجِّ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛ فَعَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( ما مِنْ أَيَّامِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ ، وَلَا أُحِبُّ إلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ ، فَأَكْثَرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ ، وَالتَّكْبِيرِ ، والتحميدِ ) رواه أحمد ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَخْرُجَانِ إلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكبرانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بتكبيرِهِما ؛ فلنحي هَذِهِ السَّنَةَ الْمُبَارَكَةَ فِي بُيُوتِنَا وأسواقِنا وَأَمَاكِنِ الْعَمَلِ وَحَيْثُمَا كُنَّا ، وَالذِّكْرُ عِبَادَةٌ ، وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : وَعَلَيْكُم بِالصَّدَقَةِ ؛ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ ، وَقَال الْمُصْطَفَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : ( إن الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الربِّ ) رواه الترمذي ، وَإِعْمَالُ الْبَرِّ وَالْخَيْرِ كثيرةٌ ؛ مِنْهَا : قِرَاءَةُ القُرآنِ وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ ، وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ ، وَحَفِظُ اللِّسَان ، وَالْإِحْسَانُ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ، وَبَذْلُ النَّدَى لِلنَّاس ، وَكَفُّ الْأَذَى عَنْهُمْ ، فَمَن فَتَحَ اللَّهُ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ ، فَلْيَغْتَنِم الْفُرْصَةَ ، وَيَحْفَظْ عَلَيْه وَقْتَه فِي هَذِهِ الْعَشْرِ :
إذَا هَبَّتْ رِيَاحُك فَاغْتَنِمْهَا **** فعقبى كُلِّ خَافِقَةٍ سكونُ
وَلَا تَغْفُلْ عَنْ الْإِحْسَانِ فِيهَا **** فَمَا تَدْرِي السُّكُونُ مَتَى يكونُ
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بلَّغنا مَوَاسِمَ الْخَيْرَاتِ وَأَجْزَل لَنَا الْعَطَايَا وَالْهِبَاتِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَيْرِ البريِّاتِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَاتِّبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ إمَّا بَعْدُ..
فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ يَمُرُّ بِنا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَفِيهِ أَنَّ الْحَبِيبَ الْمُصْطَفَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لصحابتِه الْكِرَامِ يَوْمًا : (أترضون أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجنَّة) فكبَّر الصَّحَابَةُ ثُمَّ قَالَ : (أترضون أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجنَّة) فكبَّروا ، ثُمَّ قَالَ (أترضون أَنْ تَكُونُوا شَطْر أَهْل الجنَّة) فَكَبِّرُوا ، فقال (والذي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْل الجنَّةِ ) اللَّهُ أَكْبَرُ . . نِصْفُ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ أُمِّةِ مُحَمَّدٍ ، بَلْ وَرَدَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ لَامَةِ مُحَمَّدٍ الثُّلُثَيْنِ مِنْ صُفُوفِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالثُّلُثَ الْبَاقِي لِسَائِرِ الْأُمَمِ كَمَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ مَرْفُوعًا ( أهلُ الْجَنَّة عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ ثَمَانُون مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الأمم ) ، وَهَذَا بِلَا شَكٍّ فَضْلٌ عَظِيمٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُبَارَكَة .
عِنْدَمَا نقْرَأ كُلَّ هَذَا فَإِنَّهُ مِنْ الطَّبْعِيِّ أنْ نعْرَفَ أنَّ ثَمَّتَ سِراً عَجِيباً وَفَضْلاً كَبِيراً خصَّ اللَّهُ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَجَعَلَهُم يَسْبِقُون بِهِ مِنْ قَبْلَهُمْ وَلَو عَمِلُوا أَكْثَرَ مِنْهُم والسِّرُّ فِي ذَلِكَ : مَوَاسِمُ الْخَيْرَاتِ الَّتِي تُضَاعَفُ فِيهَا الْأُجُورُ وَتُقَالُ فِيهَا الْعَثَرَاتُ وَذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ مُضَاعَفَةَ الْأُجُورِ خَاصٌّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الْمُبَارَكَة ، فَهَذِه الْمَوَاسِمُ هِي الْمَكَاسِبُ الْعَظِيمَةُ وَالْغَنَائِمُ الْبَارِدَةُ الَّتِي يَرْتَقِي فِيهَا مِنْ أَحْسَنَ اِسْتِغْلاَلَهَا للمنازلِ الْعَالِيَةِ وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ .
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق