وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ 1445/4/12ه
يوسف العوض
الخطبة الأولى
عِبَادَ اللهِ: قالَ تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ هَذِهِ الدُّنْيَا مَلِيئَةٌ بِالحَوَادِثِ وَالفَوَاجِعِ، وَالأَمْرَاضِ وَالقَوَاصِمِ؛ فَبَيْنَمَا يَسْعَدُ الإِنْسَانُ بِقُرْبِ عَزِيزٍ أَو حَبِيبٍ إِذَا هُوَ يُفْجَعُ وَيُفَاجَأُ بِخَبَرِ وَفَاتِهِ، وَبَيْنَمَا الإِنْسَانُ في صِحَّةٍ وَعَافِيَةٍ وَسَلَامَةٍ وَسَعَةِ رِزْقٍ إِذَا هُوَ يُفْجَعُ وَيُفَاجَأُ بِمَرَضٍ يُكَدِّرُ حَيَاتَهُ وَيَقْضِي عَلَى آمَالِهِ، أَو بِضَيَاعِ مَالٍ أَو وَظِيفَةٍ فَتَذْهَبُ طُمُوحَاتُهُ، وَتَفْسُدُ مُخَطَّطَاتُهُ وَرَغَباتُهُ ،في هَذِهِ الدُّنْيَا مِنَحٌ وَمِحَنٌ، وَأَفْرَاحٌ وَأَتْرَاحٌ،وَآمَالٌ وَآلَامٌ؛ فَدَوَامُ الحَالِ مِنَ المُحَالِ، وَالصَّفْوُ يَعْقِبُهُ الكَدَرُ، وَالفَرَحُ فِيهَا مَشُوبٌ بِتَرَحٍ وَحَذَرٍ.وَهَيْهَاتَ أَنْ يَضْحَكَ مَنْ لَمْ يَبْكِ، وَأَنْ يَتَنَعَّمَ مَنْ لَمْ يَتَنَغَّصْ، أَو يَسْعَدَ مَنْ لَمْ يَحْزَنْ!هَكَذَا هِيَ الدُّنْيَا، وَهَذِهِ أَحْوَالُهَا، وَلَيْسَ للمُؤْمِنِ الصَّادِقِ فِيهَا إِلَّا الصَّبْرُ؛ فَذَلِكُمْ دَوَاءُ عِلَلِهَا. قَالَ الحَسَنُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: جَرَّبْنَا وَجَرَّبَ المُجَرِّبُونَ فَلَمْ نَرَ شَيْئَاً أَنْفَعَ مِنَ الصَّبْرِ، بِهِ تُدَاوَى الأُمُورُ، وَهُوَ لَا يُدَاوَى بَغَيْرِهِ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرَاً وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ.وَكَانَ أَمْرُ المُؤْمِنِ ـ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ ـ أَمْرَاً عَجِيبَاً؛ لِأَنَّهُ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرَاً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرَاً لَهُ ، والصَّبْرُ عَلَى النَّوَائِبِ يُبْقِي العَزِيمَةَ، وَيُدِيمُ البَذْلَ وَالعَطَاءَ وَالعَمَلَ، بِالصَّبْرِ تُعَالَجُ مَغَالِيقُ الأُمُورِ، وَأَفْضَلُ العُدَّةِ الصَّبْرُ عَلَى الشَّدَائِدِ، وَمِمَّـــــــــــــــــــا يُــــــــــعِيــــــــــــــنُ عَلَى الصَّــــــــــــــبْرِ:
أولاً: أَنْ يَكُونَ الإِنْسَانُ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَنْ يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ إِلَّا إِذَا لَزِمَ القُرْآنَ الكَرِيمَ، وَالقُرْآنُ جَعَلَنَا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِنَا، فَقَالَ تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِـشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْـمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلَاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ ، وَمِمَّا يُهَوِّنُ عَلَيْكَ هَذَا الابْتِلَاءَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ ، فتَذَكَّرْ زَوَالَ الدُّنْيَا وَسُرْعَةَ فَنَائِهَا، وَأَنْ لَيْسَ لِمَخْلُوقٍ فِيهَا بَقَاءٌ، وَأَنَّ لَهَا آجَالَاً مُـنْصَرِمَةً، وَمُدَدَاً مُنْقَضِيَةً، وَقَدْ مَثَّلَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَالَهُ في الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا. رواه الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ، فَلَا تَغْتَرَّ أَيُّهَا المُسْلِمُ بِرَخَاءٍ، وَلَا تُؤَمِّلْ أَنْ تَبْقَى الدُّنْيَا عَلَى حَالَةٍ، أَو تَخْلُوَ مِنْ تَقَلُّبٍ وَإِصَابَةٍ؛ فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا وَخَبِرَ أَحْوَالَهَا هَانَ عَلَيْهِ بُؤْسُهَا وَنَعِيمُهَا.
ثانياً: التَّأَسِّي بِغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ المَصَائِبِ..تَأَسُّوا بِغَيْرِكُمْ، وَتَذَكَّرُوا مَصَائِبَهُمْ، وَانْظُرُوا إلى مَنْ هُوَ أَشَدُّ مُصِيبَةً مِنْكُمْ؛ فَإِنَّ في ذَلِكَ مَا يُذْهِبُ الأَسَى، وَيُخَفِّفُ الأَلَمَ، وَيُقَلِّلُ الهَلَعَ وَالجَزَعَ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَن يتصبَّرْ يُصَبِّرْهُ الله» رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، ولِيَتَذَكَّرْ مَنْ أُصِيبَ بِعَاهَةٍ أَو مَرَضٍ مَنْ أُصِيبَ بِمَا هُوَ أَشَدُّ، وَلْيَتَذَكَّرْ مَنْ فُجِعَ بِحَبِيبٍ مَن فُجِعَ بِأَحْبَابٍ، وَلْيَتَذَكَّرْ مَنْ فَقَدَ ابْنَهُ مَنْ فَقَدَ أَبْنَاءً، وَلْيَتَذَكَّرْ مَنْ فَقَدَ أَبْنَاءً مَنْ فَقَدَ عَائِلَةً كَامِلَةً.لِيَتَذَكَّرِ الوَالِدَانِ المَفْجُوعَانِ بِابْنٍ آبَاءً لَا يَدْرُونَ شَيْئَاً عَنْ أَبْنَائِهِمْ؛ فَلَا يَعْلَمُونَ أَهُمْ أَحْيَاءٌ فَيَرْجُونَهُمْ، أَمْ أَمْوَاتٌ فَيَتَرَحْمُوا عَلَيْهِمْ.وَقَدْ فَقَدَ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَكَثَ عَلَى ذَلِكَ عُقُودَاً مِنَ السِّنِينَ، وَبَعْدَ أَنْ كَبِرَ وَضَعُفَ فَقَدَ ابْنَاً آخَرَ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ قَالَ في أَوَّلِ الأَمْرِ: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾. ثُمَّ قَالَ في الحَالِ الثَّانِي: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعَاً إنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾.
ثالثاً: تَذَكَّرْ حُسْنَ الجَزَاءِ .. لِيَتَذَكَّرْ كُلٌّ مِنَّا حُسْنَ الجَزَاءِ لِيَخِفَّ حِمْلُ البَلَاءِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الأَجْرَ عَلَى قَدْرِ المَشَقَّةِ، وَالنَّعِيمُ لَا يُدْرَكُ بِالنَّعِيمِ، وَالرَّاحَةُ لَا تُنَالُ إِلَّا عَلَى جُسُورٍ مِنَ التَّعَبِ، وَمَا أَقْدَمَ أَحَدٌ عَلَى تَحَمُّلِ مَشَقَّةٍ عَاجِلَةٍ إِلَّا لِثَمَرَةٍ مُؤَجَّلَةٍ، وَالصَّبْرُ عَلَى مَرَارَةِ العَاجِلِ يُفْضِي إلى حَلَاوَةِ الآجِلِ، وَإِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلَاءِ.
الخطبة الثانية
عِبَادَ اللهِ: يَجِبُ عَلَى مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ أَنْ يَكُفَّ نَفْسَهُ عَنْ تَذَكُّرِهَا، وَتَرْدَادِهَا في ذِهْنِهِ وَتَجَوُّلِهَا في خَاطِرِهِ، وَأَنْ يَنْفِيَ الخَوَاطِرَ وَالمُهَيِّجَاتِ إِذَا مَرَّتْ بِهِ، وَلَا يُنَمِّيَهَا ؛ فَإِنَّهَا تَصِيرُ أَمَانِي لَا نَفْعَ مِنْهَا وَلَا غِنَىً وَرَاءَهَا، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الأَمَانِي رُؤُوسُ أَمْوَالِ المَفَالِيسِ؛ لِأَنَّ مَنْ مَاتَ لَا يَعُودُ، وَمَا قُضِيَ لَا يُرَدُّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَوْلُهُ:" لَا تَسْتَفِزُّوا الدُّمُوعَ بِالتَّذَكُّرِ" ، وَمِمَّا يَقَعُ فِيهِ كَثِيرٌ مِمَّنْ أُصِيبَ بِفَقْدِ حَبِيبٍ أَو قَرِيبٍ أَنَّهُ يَسْعَى إلى الاحْتِفَاظِ بِبَعْضِ أَشْيَاءِ المَيْتِ التي تُذَكِّرُهُ بِهِ في كُلِّ حِينٍ، مِمَّا يَحُولُ دُونَ بَرْءِ جِرَاحِهِ، وَيُجَدِّدُ هُمُومَهُ وَأَحْزَانَهُ.