وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَیۡتِ
د خالد بن عبدالرحمن الراجحي
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
{ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡس وَٰحِدَة وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالا كَثِيرا وَنِسَآء وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبا}.
أما بعد...
اتقوا الله تعالى أيها المسلمون، وعظموا أوامره، وأدوا فرائضه، ولا تنتهكوا حدوده، فما تقرب العبد بشيء إلى الله، أحب إليه مما افترضه عليه.
أيها المسلمون:
خلق الله الخلق وأمرهم بعبادته، وجعل مفتاح هذه العبادة الإسلام، بالاستلام له بالطاعة ذلا وخضوعا، وبالبراءة من الشرك وأهله، وجعل لهذا الإسلام أركانا، أوجب على كل مسلم أداؤها، ونهى عن تضييعها، فَعَن ابنِ عُمرَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- ، قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بُنِيَ الإسلامُ على خمسٍ شَهادةِ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللَّهِ وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ وصَومِ رمضانَ وحجِّ البيتِ لمنِ استطاعَ إليهِ سبيلًا). رواه البخاري ومسلم.
ولقد حج نبينا –صلى الله عليه وسلم-، في السنة العاشرة من الهجرة، استجابة لأمر ربه، وعلم أمته أحكام هذه الفريضة، وكيفية أدائها، فعن جَابِر بنِ عَبدِاللهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَال: (رَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَرْمِي علَى رَاحِلَتِهِ يَومَ النَّحْرِ، ويقولُ: لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فإنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتي هذِه) رواه مسلم.
أيها المسلمون:
الحج من أفضل الأعمال وأجل القربات، هو ركن من أركان الإسلام ومبانيه العظام، وهو فرض عين على كل مسلم مكلف مرة في العمر إذا استطاع، قال تعالى: { وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ}، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَال: (خَطَبَنَا رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَقالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ! قدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الحَجَّ، فَحُجُّوا"، فَقالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يا رَسولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حتَّى قالَهَا ثَلَاثًا، فَقالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لو قُلتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَما اسْتَطَعْتُمْ(. رواه البخاري ومسلم.
الحج ركن من أركان الإسلام، وهو طريق إلى الجنة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلَّا الجنَّةُ). رواه البخاري ومسلم.
الحج ركن من أركان الإسلام، وهو من أفضل الأعمال، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَال: (سُئِل رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيُّ الأعمالِ أفضلُ أو أيُّ الأعمالِ خيرٌ قال إيمانٌ باللهِ ورسولُه قيل ثمَّ أيُّ قال الجهادُ سِنامُ العملِ قيل ثمَّ أيُّ قال ثمَّ حجٌّ مبرورٌ). رواه البخاري ومسلم.
الحج ركن من أركان الإسلام، وهو مطهرة من الذنوب والمعاصي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَن حَجَّ هذا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ). رواه البخاري.
الحج ركن من أركان الإسلام، يعدل الجهاد في سبيل الله، عَنْ أُمّ المُؤمِنين عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قَالت: يَا رَسولَ اللَّهِ تُرَى الجِهَادَ أفْضَلَ العَمَلِ، أفلا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: (لَكِنَّ أفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ). رواه البخاري.
أيها المسلمون:
يجب على المسلم أن يبادر إلى أداء فريضة الحج إذا كان مستطيعا، والاستطاعة هي القدرة المالية والبدنية، ولا يجوز له أن يتأخر وهو قادر مستطيع لا عذر له، فإن الإنسان لا يدري ما يعرض له، من مرض أو حاجة أو موت.
وأما الإنسان المدين، فإن كان دينه حالا وجب عليه سداده، فإن بقي معه من المال ما يكفيه للحج وجب عليه أن يحج به، وإلا فهو غير مستطيع حتى يسدد ديونه الحالة.
وأما إن كان دينه مؤجلا فإنه إن تمكن من سداد قسطه الذي يحل عليه قبل الحج وجب عليه المبادرة بأداء الحج ما دام يجد كفايته لحجه، وما بقي من أقساط مؤجلة تسدد في وقتها بعد الحج.
هذا وعلى كل ولي أمر في بيته، عنده أم أو زوجة أو أبناء أو بنات لم يحجوا أن يعينهم ويشجعهم على الحج، فإن لم يستطع لهذا العام فليتهيأ للعام القادم ولا يؤخر، فهذا واجب شرعي في حق كل مكلف، ولا يسقط عنه إلا بعذر شرعي.
عَن عَبدِاللهِ بنِ عُمرَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (كُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والأمِيرُ راعٍ، والرَّجُلُ راعٍ علَى أهْلِ بَيْتِهِ، والمَرْأَةُ راعِيَةٌ علَى بَيْتِ زَوْجِها ووَلَدِهِ، فَكُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ(. رواه البخاري
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولك من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا وحده لا شريك تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أما بعد ...
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن من سعة رحمة الله عدم تكليفه للإنسان ما لا يطيق، فإن المسلم إذا تأخر عن الحج لعذر، ثم مات ولم يحج فإنه لا يأثم، ويجب على ورثته أن يحجوا عنه من تركته إن ترك مالا، أو يتطوع بعض أقاربه أو غيرهم فيحجوا عنه من غير ماله، وكل ذلك يجزئه.
وأما من حج فرضه وأراد أن يحج نافلة، فإن عليه أن يلتزم بالأنظمة والتعليمات التي نظمت أحوال حج النافلة، إذ أن هذا التنظيم جاء لمصلحة المسلمين، ولتمكين المسلمين على أداء فرضهم، فضلا عن كونه أمرا من ولي أمر المسلمين، يجب الالتزام به شرعا.
وأما من أخر الحج وهو قادر مستطيع ولا يمنعه مانع فإنه آثم، بل ورد التشديد في ذلك، ومن ذلك ما روى الحسن البصري –رحمه الله- مرفوعا إلى عمر بن الخطاب – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قوله: (لقد هممْتُ أن أبعثَ رجالا إلى هذهِ الأمصارِ فينظُروا كل من كانَ له جدّةً ولم يحجّ ، فيضربُوا عليهم الجزيةَ ما هم بمسلمينَ ، ما هم بمسلمينَ). السنن والأحكام.
وعَن أبي أٌمامَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (مَن لم يَمنَعهُ عنِ الحجِّ حاجةٌ ظاهرَةٌ، أَو سُلطانٌ جائرٌ، أَو مَرضٌ حابِسٌ، فماتَ ولَم يحُجَّ، فليَمُت إن شَاءَ يهودياً، وإن شاءَ نصرانياً). رواه البيهقي والدارمي، والحديث إسناده ضعيف.
إلا أن كل ذلك يؤكد على أن التساهل والتفريط من القادر المستطيع خطير، خاصة في أداء ركن من أركان الإسلام، والموت يعرض للإنسان، والتسويف حسرة وندامة.
اللهم صل وسلم وزد وبارك، على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، ومن سار على نهجهم وسلك طريقتهم إلى يوم الدين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
المرفقات
1686298538_ولله على الناس حج البيت.docx
1686298567_ولله على الناس حج البيت.pdf