﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾.
عاصم بن محمد الغامدي
الحمد لله الذي علا وقهَر، وعزَّ واقتدَر، وفطر الكائناتِ بقُدرته فظهرتْ فيها أدلةُ وحدانية من فطَر، سبحانه من إلهٍ عظيم لا يُماثَلُ ولا يُضاهى ولا يُدركه بصَر، وتعالى من قادرٍ محيط لا تُنجي منه قوة ولا مفر، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً ندَّخرها ليومٍ لا ملجأ فيه ولا وزَر، ونرجو بها النجاة من نارٍ لا تُبقي ولا تذر.
وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله سيد البشر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه السادة الغُرر الذين جاهدوا في الله حقّ جهاده فما وهَى عزمُ أحدهم ولا فتَر، ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسَلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فهي وصيته للأولين والآخرين، وبها تكون النجاة في يوم الدين ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾.
مَنْ عَظَّمَ اللهَ عَظُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْصِيَه، وَمَنْ وَقَّرَ اللهَ شَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يُخالِفَ أَمْرَه، وما أَدْمَنَ التوبةَ إِلا تَقِيّ، وما خَافَ الذُّنُوبَ إلا مُؤمِن، قَالَ ابنُ مَسْعودٍ رضي الله عنه: (إنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأنَّهُ قاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخافُ أنْ يَقَعَ عليه، وإنَّ الفاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبابٍ مَرَّ علَى أنْفِهِ فقالَ به هَكَذا).
عباد الله:
أخطر ما يمكن أن تمرَّ به أمةٌ شعورها بالذل والهوان، فذلك يفت عضدها، ويفلُّ حدَّها، ويجرئ أعداءها عليها، ولذلك ما فتئ القرآن والسنة يبثان معاني العزةِ في نفوسِ المؤمنين، حثًا لهم على تلمُّس أسبابها، والسعي لتحصيلها.
وقد تشرَّب الصحابة رضي الله عنهم هذا المعنى، حتى صغارُ السنِّ منهم، فلمَّا سمع زيد بنُ أرقمَ رضي الله عنه رأسَ المنافقينَ يقول: وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، قاصدًا إخراجَ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ، فأخذت زيدًا الحمية، وأبت عليه عزته السكوت، مع أنه غليّمٌ صغيرٌ، فبادر مخبرًا النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما علم رأس النفاق جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحلف وجحد أن يكون قال الذي قاله زيد، وقال بعضُ قومه يؤيده: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغُلَامُ أَوْهَمَ وَلَمْ يُثْبِتْ مَا قَالَ الرَّجُلُ، قَالَ زيد بن أرقم: فَوَقَعَ عَلَيَّ مِنَ الهَمِّ مَا لَمْ يَقَعْ عَلَى أَحَدٍ، فَبَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ قَدْ خَفَقْتُ بِرَأْسِي مِنَ الهَمِّ، إِذْ أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَرَكَ أُذُنِي وَضَحِكَ فِي وَجْهِي، فَمَا كَانَ يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الخُلْدَ فِي الدُّنْيَا»، ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَحِقَنِي فَقَالَ: مَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ قُلْتُ: «مَا قَالَ لِي شَيْئًا، إِلَّا أَنَّهُ عَرَكَ أُذُنِي وَضَحِكَ فِي وَجْهِي». فَقَالَ: أَبْشِرْ، ثُمَّ لَحِقَنِي عُمَرُ، فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ قَوْلِي لِأَبِي بَكْرٍ «فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُورَةَ المُنَافِقِينَ، ومن آياتها: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
العزةُ حقيقةٌ إذا استقرَّت في القلب ملأته قوةً، وليس كل باحثٍ عنها واجدُها، فربما أخطأ سبيلها، كالمشركين الذين يبحثون عن العزِّ بالشرك، ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾، فلا تنفعهم مظاهر العزة يوم القيامة، ولا تمنعهم آلهتهم من عذاب الله.
وربما سلك طريقًا لا يوصل إليها، كموالاةِ الكافرينَ من دونِ المؤمنينَ، وهو فعل المنافقين الذين حذر الله منهم، ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾.
وربما لم يعرفِ الباحثُ عنها حقيقةَ معناها، فتكبرَ وغمطَ الناسَ، ومنعَهُم حقوقَهُم، وهو يرى ذلك من العزةِ، وما هو إلا الكبرُ والبطرُ، فدافعُ العزة إكرامُ النفس بطلب رضا ربها، دون تنقصٍ من الخلقِ، أما دافع الكبر فازدراءُ الخلقِ، والتعالي عليهم، وإشباعُ رغبات النفس، ولذا كان مذمومًا في شريعة الله من طلب العزة بنسبه أو بحسبه، قال صلى الله عليه وسلم: "أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالْاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ"، ومعنى لا يتركونهن بقاء طائفة تفعلها وإن تركها آخرون.
أما عزةُ المؤمنُ فهي إكرامُ نفسه بطلب مرضاة الله، وهي عزةٌ مستمدَّةٌ من عزَّةِ الله تعالى، والعزةِ التي كان عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:
فإذا رأى المؤمن كثيرًا من الناس عبيدًا لشهواتهم، ورغباتهم، وأصنامهم، وغيرها من المخلوقات الحقيرة، حمد ربه، وامتلأت نفسه عزةً، أن كان عبدًا لله وحده لا شريك له.
ومما زادني شرفًا وتيهًا *** وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيَّرت أحمد لي نبيًا.
ومن مواطن العزة، وأسباب تحصيلها، الاستغناء عما بأيدي الناس، فإنما تُذل الناس شهواتهم ورغباتهم ومخاوفهم وأطماعهم ولذا أوصى جبريل عليه السلام نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم قائلاً: «يَا مُحَمَّدُ شَرَفُ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ».
والعفو المحمودُ عن المسيء من سبل نيل العزة، ولذا كان من أوصاف السلف رحمهم الله، أنهم كانوا يكرهون أن يُستذلوا، فإذا قدَروا عفوا، قال صلى الله عليه وسلم: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ، إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ».
وليس من العزة أن يتحمل المؤمن ما لا يطيق من البلاء، فالعاقل خصيم نفسه، وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» قَالُوا: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ: «يَتَعَرَّضُ مِنَ البَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ».
ولا تنال العزة إلا بعد تحصيل أمرين: الأول: الصبر والثبات، ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾، والثاني: الذل بين يدي الله، والتماس العزة منه، والتعوذ به من الذل لغيره:
ولا يتحقق الذل لله إلا بامتثال أوامره، والابتعاد عن نواهيه، ولو خالفت رغبات النفوس، وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ».
وبعدُ عباد الله:
دونكم مهيع العز الشامخ، ومعقد لوائه الأشم، فتوشحوا به، وارفعوا رايته، واسلكوا سبله، وربوا على منهجه أهل بيوتكم، ومن ولاكم الله مسؤوليته، فالمرء على ما اعتاد، والأمة اليوم أحوج ما تكون إلى ذلك، وقد تكالب عليها الأعداء، وانبهر كثير بتفوق الكفار، وتبدت صور الانهزامية، وتباينت سبل الاعتزاز، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ألا فاتقوا الله يا عباد الله وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة، فإن الشقي من حرم رحمة الله عياذًا بالله، وتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا في سائر أيامكم من طاعته، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًّا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.
المرفقات
1699545930_﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾.docx
1699546048_﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾.pdf
1699546048_﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ للجوال.pdf