وللزَّمانِ مَسَرَّاتٌ وأحزَانُ
عبدالمحسن بن محمد العامر
1442/06/28 - 2021/02/10 08:47AM
الحمدُ للهِ الذي أضحكَ وأبكى، وأسعدَ وأشقى، وأماتَ وأحيا، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ، له الوليُّ المولى، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه؛ رأى من آيات ربِّه الكبرى؛ مالم يرَهُ بشرٌ ولا أحرى، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحابَتِه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ إعادةِ الخلقِ مرةً أُخرى.. أما بعد: فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فبالتقوى تزكو النّفوسُ وتطيبُ، وبها تتيسر الأمورُ ولا تخيبُ " فأمَّا مَنْ أعطى واتَّقَى وصدّقَ بالحُسنى فَسَنُيَسِّرُه لليُسرى" معاشر المؤمنين: جَبَلَ اللهُ الدنيا على التَّغَيُّرِ، و قدَّر الأحوالَ على التقلُّبِ؛ بينَ سعادةٍ وحُزْنٍ، وصحّةٍ ومرضٍ، و رخاءٍ وشدَّةٍ، وقوَّةٍ وضعفٍ، وإقبالٍ وإدبارٍ، وضيقٍ وسعَةٍ، وهكذا .. وليسَ أحدٌ بأفضلَ مِنْ أحدٍ في هذا، فخيرُ البشرِ صلواتُ ربي وسلامُه عليه كانتْ حياته كذلك، فقد تَوَارَدَ في السنَّة مثلُ قولِ: "أصبحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ يوماً طيَّبَ النَّفْسِ يُرى في وجهِهِ البِشْرُ" وقولِ: "دخلَ علَيَّ مسرورًا تبرقُ أساريرُ وجهِهِ" وقولِ: "فضحك النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حتى بدت نواجذُه" وفي المقابلِ: تَوارَدَ أيضاً مثلُ قولِه صلواتُ ربي وسلامُه عليه: "أيها الناس، من يَعْذُرُنِي من رجلٍ قد بلغ أذاه في أهلِ بيتي" حين آذاه عبدُالله بنُ أبي بنِ سلولٍ في عرضِه وزوجِهِ عائشةَ رضي الله عنها، حيثُ ظلَّ صلى الله عليه وسلم شهراً يعاني مِنْ خوض الخائضين في أحبِّ زوجاته إليه. وفي حالةٍ أخرى؛ تَجِدْ أنَّ زوجاتِه صلى الله عليه وسلم سألنَه النَّفقة وأكثرنَ عليه، واجتمعن عليه في الغَيْرَةِ، وطلبنَ منه أمرًا لا يقدرُ عليه في كلِّ وقتٍ، ولم يَزَلْنَ في طلَبِهِنَ مُتَّفِقَاتٍ، وفي مُرادِهِنَ مُتَعَنِّتَاتٍ، حتى شَقَّ ذلك على الرسولِ صلى الله عليه وسلم، ووصلتْ به الحالُ إلى أنَّه آلى مِنْهُنَّ وهجرهُنَّ شهرًا. بل ثبت بنصِّ القرآنِ أنّه عليه الصلاةُ والسلامُ، تصيبُه ضِيْقَةُ الصدرِ، فيسليِّه اللهُ بما يشرحُ صدرَهُ، قال تعالى: "فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ" ويقولُ تعالى: "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ* وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" أما حالُ المرضِ فقد قالَ عن نفسِه صلى الله عليه وسلم: "أَجَلْ إنِّي أُوعَكُ كما يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنكُم" وفي شأنِ الفقرِ والقِلَّةِ تقولُ عائشة رضي الله عنها عن حالِ بيوتِه صلى الله عليه وسلم: "إنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إلى الهِلَالِ، ثُمَّ الهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أهِلَّةٍ في شَهْرَيْنِ؛ وما أُوقِدَتْ في أبْيَاتِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَارٌ" وهكذا كانت تتقلبُ أحوالُ حياتِه صلواتُ ربي وسلامُه عليه، فقد أصابته الشدائدُ في نفسِه، ومالِه، وعرضِه، وزوجاته وأهله، وجسمِه، وكلِّ شؤونِ دنياه. وهذه هي حالُ الدنيا مع كلِّ البشرِ، فلمْ يستثنِ اللهُ مِنْ تقلُبَاتِها أحداً، وكلٌّ سيصيبُه نصيبُه الذي قُدِّر له؛ مِنْ حُلْوِهَا ومرِّها، وصَفْوِها وكَدَرِها، وشقائها وسعادتِها، وشِدَّتِها ورخائها، وأُنسِها وبؤسِها. وتقلُّبُ الأحوالِ آيةٌ من آياتِ اللهِ الدَّالةِ على عظيمِ قُدْرَتِه، وجلالةِ حكمتِه؛ يقولُ جلَّ شأنه: "وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى" قال القرطبي رحمه الله: "ذَهَبَتْ الوَسَائِطُ وَبَقِيَتْ الحقَائِقُ للهِ سبحانَه وتعالى؛ فلا فاعلَ إلا هو" وقال السعديُّ رحمَه الله: "هو الذي أوجدَ أسبابَ الضَّحِكِ والبُكاءِ، وهو الخيرُ والشرُ، والفرحُ والسرورُ والهمُّ والحُزْنُ، وهو سبحانَه له الحكمةُ البَالِغَةُ في ذلك"
هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ * مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ
وَهَذِهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ * وَلا يَدُومُ عَلى حالٍ لَها شانُ
فَجائِعُ الدُهرِ أَنواعٌ مُنَوَّعَةٌ * وَلِلزَمانِ مَسرّاتٌ وَأَحزانُ
وقال الآخر:
طُبِعَـتْ علـى كَــدَرٍ وأنــت تريـدهـا*صـفــواً مـــن الأقـــذاءِ والأكـــدارِ
ومـكـلِّـفُ الأيَّـــامِ ضــــدَّ طـِبـاعـهـا * متطـلِّـبٌ فــي الـمــاءِ جَـــذوةَ نـــارِ
باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسنةِ، ونفعَنَا بما صرَّفَّ فيهما مِنْ الآياتِ والعِبَرِ والحكمَةِ. أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم من كلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروهُ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله شارحِ الصُّدُورِ، ومُيَسِّرِ الأمورِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، مضتْ سنَّتُه في خلْقِه على مرِّ الدُّهورِ وتعاقبِ العصورِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحابِته ومن تبعهم بإحسانٍ بلا تقصيرٍ وفتورٍ.. أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" معاشر المؤمنين: تَسْلُوْ نفوسُ المؤمنينَ، وتطيبُ أرواحُهم، وتطمئنُ قلوبُهم؛ بإيمانِهم بأنَّ كلَّ شيءٍ يجري بقدَرِ الله وتَقْدِيْره، وبمشيئتِه وإرادتِه سبحانه، وأنّه كتبَ كلَّ شيءٍ وقدَّره قبلَ أنْ يخلقَ السمواتِ والأرضَ بخمسينَ ألفَ سنةٍ، فعن عبدِاللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ رضي اللهُ عنهما عن رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ قال: "كتبَ اللهُ مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أنْ يخلقَ السماواتِ والأرضَ بخمسينَ ألفَ سنةٍ، قال: وعرشُهُ على الماء" رواه مسلم، واللهُ جلَّ في علاهُ يقولُ: "إنّا كلَّ شيءٍ خلقنَاهُ بِقَدَرٍ" ويقولُ سبحانَه: "وَخَلَقَ كلَّ شيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيْرا" وقدْ أوضحَ اللهُ لنا ذلك بآيتينِ كريمتينِ فيهما الميزانُ والبيانُ؛ لما يجبُ على المسلمِ أنْ يكونُ عليه في كلِّ حالٍ، قال تعالى: "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ" قال ابنُ عبّاس رضي الله عنهما: ليسَ مِنْ أحدٍ إلا وهو يحزنُ ويفرحُ، ولكنَّ المؤمنَ يجعلُ مصيْبَتَهُ صَبراً ، وغَنِيْمَتَهُ شُكْرَاً. وبعد عباد الله: إيِّانَا أنْ تُنسِيْنَا حالُ الرخاءِ والسعادَةِ؛ حالَ الشدَّةِ والعناءِ الذي مرَّ بنا، وننسى اللهَ ونُعْرِضُ عنه، فينطبقُ علينا قولُه تعالى: "وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ كذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" وتأملوا قصَّةِ الثلاثةِ: الأعمى والأبرصِ والأقرعِ؛ الذين أرادَ اللهُ أنْ يبتلِيَهم، فغيّرَ أحوالَهم مِنْ مرضٍ إلى صحة وعافية وسلامةٍ، وأغنَاهُم بالأموالِ التي يُحِبُّونَ، ثُمَّ اختبرَهم في حالِ الرخاءِ والعافيةِ، فلم يَنْجَحْ إلا الأعمى الذي قال: "قدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي، وَفقِيرًا فقَدْ أَغْنَانِي، فَخُذْ ما شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لا أَجْهَدُكَ اليومَ بشيءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ، فَقالَ أَمْسِكْ مَالَكَ، فإنَّما ابْتُلِيتُمْ، فقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ علَى صَاحِبَيْكَ" رواه البخاري ومسلم اللهمَّ بعِلْمِكَ الغيبَ وقُدْرَتِكَ عَلَى الخلَقِ، أحْيِينا ما علِمْتَ الحياةَ خيرًا لنا، وتَوَفَّنا إذا عَلِمْتَ الوفَاةَ خيرًا لنا، اللهمَّ إِنَّا نسألُكَ خشْيَتَكَ في الغيبِ والشهادَةِ، و نسأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا والغضَبِ، ونسألُكَ القصدَ في الفقرِ والغِنَى، ونسألُكَ نعيمًا لَا ينفَدُ، و نسالُكَ قرَّةَ عينٍ لا تنقَطِعُ، ونسألُكَ الرِّضَى بعدَ القضاءِ، ونسألُكَ برْدَ العيشِ بعدَ الموْتِ، ونسألُكَ لذَّةَ النظرِ إلى وجهِكَ، والشوْقَ إلى لقائِكَ في غيرِ ضراءَ مُضِرَّةٍ، ولا فتنةٍ مُضِلَّةٍ، اللهم زيِّنَّا بزينَةِ الإيمانِ، واجعلنا هُداةً مهتدين. هذا وصلوا وسلموا على رسول الله كما أمركم بذلك الله إذ يقول: " أنّ اللهَ وملائكتَه يصلونَ على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما"