(وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) 29/7/1437هـ

عبدالرحمن العليان
1437/07/29 - 2016/05/06 06:07AM
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)
الحمدُ للهِ العليِّ الأعلى، خلق فسوى، وخلقَ الجنةَ والنارَ، وخلقَ لكلٍّ منهما أهلا، يعطي فضْلا، ويمنَعُ عدلا.. أحمده وأشكره على نعمه، وأستجيرُ به من عذابه ونِقَمِه، إنه نِعْمَ المسؤولُ ونِعْمَ المولى.. وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، ولا مثيلَ ولا ندّ، شهادةً ما أسعدَ محَقِّقَها، وما أشقى من أعرَضَ عنها وتوَلَّى..
وأشهد أن محمدًا عبدُهُ ورسوله، خيرُ من آمَنَ بربِّه وأَحْسَنَ عملا.. صلى الله وسلم وبارك عليه، ما سلمَّ عليه مؤمنٌ وصلَّى، وعلى آلِه وصحبِه الأَخْيَارِ الْكِرَام، وآلِه الأطهارِ الأعلام، الذين قَضَوْا بالحق وبه كانوا يعدلون قولا وفعلا، وعلى التابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.. أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: اتقوا الله تعالى حق تقواه، وأنيبوا إليه وأسلموا له من قبل الفوات؛ فإن العُمُرَ يسيرُ بلا تَوَقُّف، والأجل يَحِلُّ بلا استذانٍ ولا تلطف، وكلُّ آتٍ قريبٌ، وعلى أعمالكم مطلعٌ ورقيب.. {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 48].
كلٌّ في هذا الكون إنما يجري لأجلٍ مسمّى، وأثرٍ معلوم، لا يعجَّل قبل حله، ولا يؤخَّر عن حينه، فليست هذه الحياةُ هي الحياة، بل إنما هذه الحياةُ الدنيا لهوٌ ولعب وزينة، وهي دارُ ابتلاءٍ للثقلين كافّة، يُبلَون بالخير والشر فتنة، ويُجْعَلُ بَعْضُهُمْ لبعضٍ فتنة؛ ليبلوَهمُ اللهُ أيهم أحسنُ عملا.
يموتُ في هذه الحياةُ ظالمون لم يقتَصَّ منهم، ومظلومون لم يُنتصَرْ لهم؛ لأن وراءَ هذه الحياةِ يوما شديدا، يومًا آخرا عقيما لا يوم بعده: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].
فليست هذه الحياةُ الدنيا إلا للابتلاء، والحياة الحقَّةُ أمَامَكم {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].
إنه اليومُ الآخر، يومُ الدين، يومُ القيامة، يومُ الفصْل، لا يعلم أيَّانَ مُرْسَاهُ إلا اللهُ تعالى، ولقد كان مبعثُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم آيةً من آياتِ قربِ وقوعِه؛ فما بقي في الدنيا بعد مبعثه - عليه الصلاةُ والسلامُ- قليلٌ نسبةً إلى ما قبله من خلقِ آدمَ فما بَعْدَه.
{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد: 18]، جعل ربنا سبحانه وتعالى لها أشراطًا صغرى خفية، وأخرى كبرى ظاهرة، فأما الصغرى فتقع في أزمانٍ متفاوتة، وربما تتكرر، منها ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ) رواه مسلمٌ في صحيحه.
ومنها نارٌ تخرج من الحجاز تضيء لها أعناقُ الإبلِ بِبُصْرى، ومنها تأمينُ الخائن، وتخوينُ الأمين، وتصديقُ الكاذب، وتكذيبُ الصادق، ونطقُ الرويبضة، وفشوُّ القلم، مع انتشارِ الجهل، ورفعِ العلم، وغيرُها كثيرٌ وكثير.
أما الأشراطُ الكبرى فإنها عشر علامات، إذا خرجت الأولى فالأخرى على إثرها قريبا، وهي علامات كبرى جليَّة لا خفاء فيها، أخرج مسلمٌ في صحيحه عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: اطَّلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ، فَقَالَ: «مَا تَذَاكَرُونَ؟» قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ، قَالَ: (إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ- فَذَكَرَ- الدُّخَانَ، وَالدَّجَّالَ، وَالدَّابَّةَ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَأَجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ، تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ).
وأوَّلُهَا ظُهُورًا طلوعُ الشمس من مغربها، وحينها {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]، أو خروجُ الدابةِ التي تَسِمُ الناسَ بالإيمانِ والكفر، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي اللهُ عنهما، قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا لَمْ أَنْسَهُ بَعْدُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا، طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى، وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا، فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا) أخرجه مسلمٌ في صحيحه.
ولا تقومُ الساعةُ حتى لا يقالَ في الأرض: الله.. الله؛ فإن الله تعالى يبعث ريحا طيّبة، فتأخذُ الناسَ تحت آباطِهم، فتقبضُ رُوحَ كُلِّ مؤمن، وَيَبْقَى شِرَارُ الناس، فعليهم تقومُ الساعة، كما صحّ بذلكم الخَبَرُ عن سيّد البشر - عليه صلواتُ اللهِ وسلامُه -.
ثم يأذنُ اللهُ تعالى بخرابِ هذه الدنيا وزوالِها، فيُنفَخُ في الصور نفخةُ الصعق، يَصْعَقُ لها من في السماوات ومن الأرض إلا من شاء الله، وهي نفخةُ الفزع أو هي بعدها بقليل، ثم يمكثُ الناسُ أربعين سنة أو شهرا أو يوما، فَيُنْفَخُ نفخةُ البعث، وهما الراجفة والرادفة: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [النازعات: 6- 7]، {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 49 - 51].
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68].
وحينها يقومُ الناسُ لربّ العالمين {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9]، يومٌ قريب، أكَّد ربنا قربه، وأقسم سبحانه على وقوعه، وضرب للناس فيه الأمثالَ النواصع، وأَبَانَ الدلائلَ القواطِع، فهو الذي يبدَأُ الخلقَ ثم يعيده.
إنهُ يومُ القارعة، والحاقّةِ والزلزلة، يومُ الصاخّةِ والآزفةِ والطامّةِ الكُبرى، إنه يومٌ عسير {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 10]، يومٌ مَهول، تجثو فيه الأمم، وتشيبُ النواصي، ويبلغُ الناسَ من الكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، ويغضبُ الجبارُ تعالى فيه غضبا لم يغضبْ قبله مثلَه، ولن يغضبَ بعده مثلَه { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2].
يُحْشَرُ الناس فيه على أرضٍ جرداء حفاةً عُراةً غرلا، وتدنُو الشمسُ منهم حتى تكون بمقدارِ ميل، (فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا) فرحماك يا ربنا رحماك، عفوكَ يا اللهُ ومغفرتَك، وليس ثمَّ ظلٌّ إلا ظلُّ عرشِه سبحانه، يُظَلُّ به سبعةُ أصنافٍ من عباده.
ويأتي الناسُ إلى الأنبياء يبتغون شفاعتهم إلى ربهم تعالى من نصبِ ذلك اليومِ الذي مقداره خمسون ألف سنة، فيعتذرُ النبيُّ إثْرَ النبي، حتى يكونَ لَهَا صاحبُ هذا المقامِ المحمود صلى الله عليه وسلم، فيأتي فيسجُدُ تحت العرش، فَيَفْتَحُ اللهُ عليه من محامده وحُسن الثناءِ عليه شيئا لم يفتحْه لأحدٍ قبله، ثم يقال: يا محمد، ارفعْ رأسَك، وسَلْ تُعْطَهْ، وَقُلْ يُسْمَع، واشفع تُشَفَّعْ، ثم يأذنُ العزيزُ سبحانه بالفصلِ بَيْنَ الناس، وتُنشَرُ الصحف، وتنصَب الموازين، فآخذٌ كتابَه بيمينه، وآخذٌ كتابَه بشماله ومن وراء ظهرِه {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا } [الانشقاق: 7 - 12].
وليس أحد إلا سيكلمه ربه تعالى دون حجابٍ ولا تَرْجُمَان، فينظرُ أيمنَ منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأمَ منه فلا يرى إلا ما قدّم، وينظُرُ تلقاءَ وجهه فلا يرى إلا النار تلقاءَ وجهه.
وأولُ ما يُقضَى بين الناس في الدماء، ويؤخذُ لكلٍّ حقُّه، حتى يُفْلِسَ أقوام أتوا بصلاةٍ وصيامٍ وزكاة، بل حتى الحيواناتُ العجماوات يقادُ للشاة الجلحاء من الشاةِ القرناء قِصاصَ مقابلة لا قِصاصَ تكليف، ثم يقال لها كوني ترابا، فحينها يتمنى الكافرُ أن لو كان ترابا.
وأولُ ما يُحَاسَبُ عليه العبدُ من أعماله صلاتُه، ويُنصَب لكل غادرٍ لواءٌ يُعرَف به.
وفي ذلك الموقفِ العصيبِ حوضُ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، الذي طوله شهر وعرضُه شهر، من شرب منه لم يظمأ أبدا، تَرِدُ عليه أُمَّتُه، وَيَعْرِفُهم بآثارِ الوُضوء، ويذادُ عنه رجالٌ كما يُذادُ البعيرُ الضالّ.
ثم يكون العبورُ على الصراط، قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: (فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، وَلاَ يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلَّا الرُّسُلُ، وَكَلاَمُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَفِي جَهَنَّمَ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو) الحديث. متفقٌ عليه. أقول هذا القول وأستغفر الله تعالى لي ولكم..
الخطبة الثانية
الحمد لله الوليّ الحميد، والصلاةُ والسلام على نبينا محمد صلاةً وسلامًا دائمين إلى يومِ الخلود.. أما بعدُ، فيا أيها المؤمنون:
فإنه لا يذهبُ نصفُ يومِ الدين إلا وقد نزلَ الناسُ منازِلَهم، وأخذوا أخَذاتِهم، فذلكم قولُ اللهِ تعالى: {أصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24].
ويشفعُ الأنبياءُ والملائكةُ والمؤمنون في قومٍ مؤمنين دخلوا النارَ بذنوبهم أن يُخرَجوا منها، ثم يخرج الله برحمته تعالى من قلبه مثالُ حبةِ خردلٍ من إيمان.
أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يخرجون منها ولا هم يستعتبون، وأما أهل الجنة فَفِي روضات الجنات {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [الشورى: 22]، والجنة والنار مخلوقتان الآن، وأعد الله تعالى لأوليائه في دار كرامته ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سَمَعَتْ، ولا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَر، ورضي عنهم ورضُوا عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ. فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا) متفقٌ عليه.
فتلكم الحسنى للذين أحسنوا، ولهم الزيادة وهي النظرُ إلى وجه اللهِ الكريمِ تعالى:
والله لولا رؤيةُ الرحمن في الـ ـجنات ما طابت لذي العرفانِ
أعلى النعيمِ بذاكَ رؤيةُ وجهه وخطابُه في جنة الحيوانِ
وأشدُّ شيءٍ في العذابِ حجابُهُ سبحانه عن ساكني النيرانِ
وإذ رآه المؤمنون نسوا الذي هم فيه مما نالت العينانِ
أو ما سمعت سؤالَ أعرفِ خلقه بجلاله المبعوثِ بالقرآنِ
شوقا إليه ولذةِ النظر التي بجلالِ وجهِ الربِّ ذي السلطانِ
والله ما في هذه الدنيا ألذُّ من اشتياق العبد للرحمنِ
وكذاك رؤيةُ وجهِهِ سبحانه هي أكمل اللذات للإنسانِ
أيها المؤمنون: إنه ليس بين أحدنا وبين الجنة أو النار إلا أن يموت، فالجنة أقربُ إلى أحدنا من شِراكِ نعله، والنارُ مثلُ ذلك، ومن مات قامت ساعتُه وقيامتُه، ون الدنيا لأهون عند الله من جناحِ بعوضة، ولو كانت تساوي شيئا لم يسقِ منها الربُّ ذا الكفران.
ألا اتقوا الله ربكم، وارجوا اليوم الآخر، فمن رجاه كان من بإخلاص الدين لربه حريا، وصَدَقَ اللهَ وأحسنَ ولم يكُ غويا.. وتأملوا - أحسن الله منقلبكم ومثواكم - كم رُجِيَ من خيرٍ فيمن آمن بهذا اليوم العظيم {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]، وإنما يعظِّمُ أمرَ الله سبحانه، ويقيم حدودَه، ويوعَظُ بآياته أولو الإيمان بهذا اليوم: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}[النور: 2]، {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 232]، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
نعم.. سنقف جميعا أمامَ خالقنا ومولانا في يومٍ عظيم، تُبلى فيه السرائر، ويتذكر الإنسانُ ما سعى، فماذا أعددت لذلك أيها المؤمن بالله واليوم الآخر؟
سنقف جميعا أمام ربنا وإلهنا تعالى، فهل استحضرتَ ذلك أيها المضيِّع حدودَ الله، الجريءُ على حرماته؟ وأنتَ أيها الظالمُ والغاشُّ والخادع، ويا آكلَ أموالِ الناسِ بالباطل، وآكلَ الربا، وآكلَ مالِ اليتيم؟!
سنقف موقفا يسألُ فيه المرءُ عن أماناتِه؛ فماذا أنت فاعلٌ أيها المضيّعُ للأمانة؟! سنقف موقفا تتكلم فيه الأيدي وتشهد الأرجل والجوارح، وستنطق العينان والأذنان، فماذا ستجيب الله أيها الناظرُ إلى الحرام عن قوله سبحانه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30].
أجل.. سنرد إلى عالم الغيب والشهادة، في يومٍ لن تزول فيه قدمٌ حتى يُسأَلَ صاحبُها عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم؟
سَنَقِفُ موقفا تذلُّ فيه الخلائقُ لخالقها؛ فلمَ الكبر أيها المتكبر، ولم العُجب أيها المعجب بمالك، أو بوظيفتك، الزاهي بوسامِك.
سنقفُ موقفَ حسابٍ فيا حسرةَ القابضين أيديهم عن نصرة إخوانهم بالمال والدعاءِ، وهم يرون يد البغي تمزقهم، وليل البلاء قد طال عليهم، وماذا سيجيبون ربهم عن قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ } [الصف: 14].
وجماعُ الأمر في قوله سبحانه {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [العنكبوت: 5- 6].





المشاهدات 1455 | التعليقات 0