ولكنكم غثاء ( أسباب غثائيةالأمة وعلاحها)
د. منصور الصقعوب
1433/04/28 - 2012/03/21 10:14AM
الحمد لله الذي قدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عالم السر والنجوى, إله لا تخفى عليه الخفيات, ولا يؤده حفظ الكائنات, وهو رب الأرض والسماوات
أنت المجير ومن يجير سواكا** فأجر ضعيفاً يحتمي بحماكا
فتشت عن سر السعادة جاهداً** فوجدت ذاك السر في تقواك
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الحبيبالمصطفى وعلى آله وصحبه المستكملين الشرفا
أما بعد فاتقوا الله
عباد الله: تشبه العرب من لا ثمرة له ولا فائدة بغثاء السيل, ففي لسانهم: الغثاء: ما يَحملِهُ السَّيلُ من القَمَشِ وما لا فائدة فيه, وقال أَبو زيد: غَثا الماءُ إذا كثر فيهالبَعَرُ والوَرَق والقَصب, وفي القرآن يقول الله (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءًفَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) قال ابن كثير: أي جعلناهم صرعى كغثاء السيل، وهو الشيء الحقير التافه الهالك الذي لا يُنتفع بشيء منه.
وفي مقول الرسول الله ج "يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ». فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ « بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ». فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ قَالَ « حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ »رواه أبو داود
ومن تأمل واقع الناس اليوم, وكرر النظر في الحديث عرف معنى الغثائية وتصورها, وأدرك أي زمان يعيش
لقد كانت أمة الإسلام مهيبة الجناح من سائر الأمم, يحسب عدوُها لها الحساب, وترتعد فرائص زعماء الأمم حين تأتيهم كتب خلفاء الإسلام, لم يكن ذلك بكثرة العدد ولا العتاد, بل بلإيمان ومحاسن الفِعال, كان تاريخ المسلمين حافلاً بالعزة والأمجاد, خرجوا من جزيرة العرب فاتحين للبلاد, وفي سنين يسيرة ملؤا الأرض عدلاً بعدما ملئت جوراً, ونشروا الدين الحق, وأنقذوا العباد من الضلالة إلى الهداية, فتحوا غرب الأرض وشرقها, ووصل قائدهم إلى شاطيء الأطلسي في المغرب ثم أجرى فرسه في البحر قليلاً ثم وقف وقال: يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك.
وأما في شرق الأرض فقد وصل المسلمون إلى الصين وفزع ملكهم حين أقسم قائد المسلمين أن لا يعود حتى يطأ أرضهم ويختم ملوكهم ويجبي الجزية من بلادهم, فتوسل إليه ملك الصين وقال: أنا أبر يمينه، أُرسل إليه بتراب من أرضي، وأُرسل إليه أولادي وأولاد الملوك ليختمهم، وأرسل إليه ذهبا كثيرا وحريرا وثيابا صينية لا تقوم ولا يدرى قدرها، فسيق إليه اربعمائة من أولاد الملوك, وتراب من تراب البلاد ليطأه, وفتح المسلمون الهند والسند, وأوغلوا بعد ذلك في أوروبا, وطرقوا أبواب الفاتيكان فاتحين, ولدين الله ناشرين.
ولئن تكاثرت مواقف التاريخ فإن موقف المعتصم يبقى موقفاً لا ينسى, حين أسرت امرأة شريفة في بلاد الروم, فلطمها علج من الروم وهي في الأسر فصاحت وامعتصماه فقال لها العلج انتظريه يجيء إليك على خيل أبلق, وما إن تناهى ذلك إلى سمع المعتصم ألقى ما في يده ونادى في العساكر بالرحيل إلى غزو عمورية وأمر العسكر أن لا يخرج أحد منهم إلا على فرسٍ أبلق فخرجوا معه في سبعين ألف أبلق فلما فتح الله تعالى عليه عمورية دخلها وهو يقول لبيك لبيك وطلب العلج صاحب الأسيرة الشريفة وضرب عنقه وفك قيود المرأة, فقام الشاعر قائلاً:
السيف أصدق أنباءً من الكتب* في حدّه الحد بين الجد واللعب.
وبذلك عزّت الأمة, بالفعال لا بالأقوال, بالقوة لا بالخَوَر.
عباد الله: ثم ضعفت الأمة وتراجعت, ونخرت فيها الأدواء وتكاثرت, حتى أصيبت بالغثائية التي دامت معها إلى يومنا هذا, تقل تارة وتكثر تارة, وصار المسلمون على هامش التاريخ, وسموا بالعالم الثالث ولا أدري هل ثمة عالمٌ ثانٍ أو هو إمعان في التنقص, وإذا أردت أن ترى نموذجاً من الغثائية فانظر إليها اليوم, أمة تفوق المليار تعجز عن الدفاع عن إخوانهم, ممن يرونهم في كل ساعة يقتلون, كم من عفيفة هتكت وطفل وشيخ قتل, وامريءٍ نادى يا مسلمون, والمسلمون لا يقدرون على نصرتهم, ولربما انشغلنا بالرياضة وبالتراث وبالتوافه.
همم كثير من الشباب اليوم مركب وثير ومأكل شهي, يبكي لخسارة رياضية, في حين أنه لا تحركه قطرات الدماء النازفة من الأمة, غابت الهمم العالية والعزائم الماضية
فيا ترى ما هو سبب الغثائية التي جثمت على قلب الأمة اليوم بعدما كانت أمة الإسلام ملء السمع والبصر ؟
إن الأسباب هي من قبلنا نحن المسلمين, غيرنا فغير الله علينا, وابتعدنا عن شرع ربنا فخذلنا, واعتمدنا على غيره فوكلنا الله لأنفسنا.
وإن من آكد أسباب الغثائية التي نراها في الأمة, الخلل الاعتقادي, حين دبت في نفوس كثير من المسلمين البدع والخرافات, وانتشرت الأضرحة والمزارات, طِيف بها وتُوسل, وحُلف بغير الله واعتُمد على غيره, والنتيجة أن الله وكل العباد لأنفسهم وغيَّر عليهم حين غيَّروا أنفسهم, يوم أن قال بعض المسلمين حين دهمهم التتار الغزاة: يا خائفين من التتر لوذوا بقبر أبي عمر, خُذلوا وفتك بهم التتار, ويوم أن تعلقوا بالله ولجأوا إليه رأوا النصرة, ومن تعلق شيئاً وكل إليه.
عباد الله: والإنكباب على الدنيا والانشغال بها, سبب من أسباب غثائية الأمة, حينما ملأ حبها القلوب, فصارت لأجلها يعادى وفي سبيلها يوالى, وربما رأيت من باع بلده وخذل قومه لأجل منصب أو مال, فأحب الناس الدنيا وكرهوا الموت, بعدما كان المسلمون يحبون الموت في سبيل الله كما يحب الكفار الحياة, وحب الدنيا ملهي مهلك, كما أخبر بذلك المصطفى ج
وحين انفتحت الدنيا عاش المسلمون حياة الدعة والترف, فتخدرت القوى, وخملت العزائم, وقد روى أبو داود في سننه عن أبي أيوب قوله عن قول الله(َلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ لَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَظْهَرَ الإِسْلاَمَ قُلْنَا : هَلُمَّ نُقِيمُ فِى أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الاية, فَالإِلْقَاءُ بِالأَيْدِى إِلَى التَّهْلُكَةِ أَنْ نُقِيمَ فِى أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحَهَا وَنَدَعَ الْجِهَادَ.
معشرالمسلمين: والتناحر والتنازع, والتشاحن والتقاطع الذي وقع بين المسلمين سبب من أسباب الغثائية, والله يقول ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) تنازع المسلمون لأجل مذاهبهم ولأجل رياساتهم, ولأجل قبائلهم, وحين وضعت الحدود بين الدول فرقت أوصال المسلمين, بعدما كانوا أمة واحدة, كل هذا كان له دور في أن توسم الأمة بالغثائية, كما أخبر بذلك الرسول ج, تلك بعض الأسباب ويبقى الأهم وهو العلاج, شفى الله الأمة من أدوائها وأيقظها من رقدتها وسباتها.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده
حينما ابتعد المسلمون عن أماكن الريادة تاه الكفار في دياجير الظلمة, وحينما ننادي بعودة المسلمين فإن المنتفع من ذلك المسلمون وأهل الأرض كلهم, فهم الأدلاء للناس, وشريعة رسول الله ج التي هي للناس جميعاً هي رحمة للعالمين أجمعين كما قال رب العالمين, شريعة تخرج منها أعظم القادة وأرحم الفقهاء وأزهد الخلفاء وعلماء المعارف الدنيوية والسياسية والاقتصادية.
ونحن اليوم أيها الكرام نعيش بداية عودة للإسلام, ونهضة للمسلمين, بدت تباشيرها, وظهرت أنوارها, ونسأل الله أن يجعل العواقب إلى خير, وذاك خير يحتاج إلى رعاية ومتابعة.
وإننا أيها الكرام حينما نسعى لتغيير واقعنا فإن ذلك يبدأ من كل واحدٍ منا, فأنت أيها الفرد قد تكون لبنة بناء أو معول هدم في المسلمين
وإن الواجب أن نسعى في أنواع من الإصلاح بها يتحقق الخير والعز للمسلمين بإذن الله؛ الإصلاح العقدي والعبادي والأخلاقي.
فأما الإصلاح العقدي, فبأن نعلق القلوب بالله, ونتوجه بالعبودية له دون ما سواه, فلا قبور ولا أضرحة ولا توسل بمخلوق ولا استغاثة, بل القصد كله لله.
والإصلاح العبادي حين نؤدي الطاعات, ونحافظُ على الصلوات وننأى عن المآثم والمحرمات, فكم يحرم الناس خيراً بتنكبهم عن طريق العبادة, وولوغهم في طرق المعاصي, وما أهون الخلقَ على الله إذا أضاعوا أمره, وحين تتوجه القلوب إلى الله بأوامره يعطي ويعز, (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا).
والإصلاح الأخلاقي بإصلاح تعاملنا مع الناس في سائر الأمور, فلا ظلم ولا بغي, ولا إساءة ولا جور, بل تصافيٍ وتآلف, وأداء للحق وحسن في الخلق, وتلك سمة الذين يعزهم الله (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين), وحينها يزول الشقاق, ويسود الوفاق
كل هذا مع السعي في الأرض دعوة إلى الله وتبليغاً, وإرشاداً للتائه وتوجيها, وإنقاذاً لغريق الضلالة وإصلاحا, وإصلاح الأبدان, وتهيئة النفوس وإعداد القوة, ودعاء رب العزة أن يكشف البلاء ويرفع الذل عن الأمة.
تلكم أيها الكرام هي أركان الإصلاح, هي طريق النهوض بالأمة, والعود بها لدرب الريادة, واليقين أن الله غير حين غيرنا, وسيغير علينا للخير حين تصلح حالنا, (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فأصلح من حالك, وأبشر بالخير منه يأتيك, وهو الذي وعد وعداً لا خلف فيه ( إن تنصروا الله ينصركم)
اللهم أصلح أحوال المسلمين, وارفع الذل عنهم وأبدله نصراً وعزاً وتمكين
أنت المجير ومن يجير سواكا** فأجر ضعيفاً يحتمي بحماكا
فتشت عن سر السعادة جاهداً** فوجدت ذاك السر في تقواك
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الحبيبالمصطفى وعلى آله وصحبه المستكملين الشرفا
أما بعد فاتقوا الله
عباد الله: تشبه العرب من لا ثمرة له ولا فائدة بغثاء السيل, ففي لسانهم: الغثاء: ما يَحملِهُ السَّيلُ من القَمَشِ وما لا فائدة فيه, وقال أَبو زيد: غَثا الماءُ إذا كثر فيهالبَعَرُ والوَرَق والقَصب, وفي القرآن يقول الله (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءًفَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) قال ابن كثير: أي جعلناهم صرعى كغثاء السيل، وهو الشيء الحقير التافه الهالك الذي لا يُنتفع بشيء منه.
وفي مقول الرسول الله ج "يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ». فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ « بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ». فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ قَالَ « حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ »رواه أبو داود
ومن تأمل واقع الناس اليوم, وكرر النظر في الحديث عرف معنى الغثائية وتصورها, وأدرك أي زمان يعيش
لقد كانت أمة الإسلام مهيبة الجناح من سائر الأمم, يحسب عدوُها لها الحساب, وترتعد فرائص زعماء الأمم حين تأتيهم كتب خلفاء الإسلام, لم يكن ذلك بكثرة العدد ولا العتاد, بل بلإيمان ومحاسن الفِعال, كان تاريخ المسلمين حافلاً بالعزة والأمجاد, خرجوا من جزيرة العرب فاتحين للبلاد, وفي سنين يسيرة ملؤا الأرض عدلاً بعدما ملئت جوراً, ونشروا الدين الحق, وأنقذوا العباد من الضلالة إلى الهداية, فتحوا غرب الأرض وشرقها, ووصل قائدهم إلى شاطيء الأطلسي في المغرب ثم أجرى فرسه في البحر قليلاً ثم وقف وقال: يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك.
وأما في شرق الأرض فقد وصل المسلمون إلى الصين وفزع ملكهم حين أقسم قائد المسلمين أن لا يعود حتى يطأ أرضهم ويختم ملوكهم ويجبي الجزية من بلادهم, فتوسل إليه ملك الصين وقال: أنا أبر يمينه، أُرسل إليه بتراب من أرضي، وأُرسل إليه أولادي وأولاد الملوك ليختمهم، وأرسل إليه ذهبا كثيرا وحريرا وثيابا صينية لا تقوم ولا يدرى قدرها، فسيق إليه اربعمائة من أولاد الملوك, وتراب من تراب البلاد ليطأه, وفتح المسلمون الهند والسند, وأوغلوا بعد ذلك في أوروبا, وطرقوا أبواب الفاتيكان فاتحين, ولدين الله ناشرين.
ولئن تكاثرت مواقف التاريخ فإن موقف المعتصم يبقى موقفاً لا ينسى, حين أسرت امرأة شريفة في بلاد الروم, فلطمها علج من الروم وهي في الأسر فصاحت وامعتصماه فقال لها العلج انتظريه يجيء إليك على خيل أبلق, وما إن تناهى ذلك إلى سمع المعتصم ألقى ما في يده ونادى في العساكر بالرحيل إلى غزو عمورية وأمر العسكر أن لا يخرج أحد منهم إلا على فرسٍ أبلق فخرجوا معه في سبعين ألف أبلق فلما فتح الله تعالى عليه عمورية دخلها وهو يقول لبيك لبيك وطلب العلج صاحب الأسيرة الشريفة وضرب عنقه وفك قيود المرأة, فقام الشاعر قائلاً:
السيف أصدق أنباءً من الكتب* في حدّه الحد بين الجد واللعب.
وبذلك عزّت الأمة, بالفعال لا بالأقوال, بالقوة لا بالخَوَر.
عباد الله: ثم ضعفت الأمة وتراجعت, ونخرت فيها الأدواء وتكاثرت, حتى أصيبت بالغثائية التي دامت معها إلى يومنا هذا, تقل تارة وتكثر تارة, وصار المسلمون على هامش التاريخ, وسموا بالعالم الثالث ولا أدري هل ثمة عالمٌ ثانٍ أو هو إمعان في التنقص, وإذا أردت أن ترى نموذجاً من الغثائية فانظر إليها اليوم, أمة تفوق المليار تعجز عن الدفاع عن إخوانهم, ممن يرونهم في كل ساعة يقتلون, كم من عفيفة هتكت وطفل وشيخ قتل, وامريءٍ نادى يا مسلمون, والمسلمون لا يقدرون على نصرتهم, ولربما انشغلنا بالرياضة وبالتراث وبالتوافه.
همم كثير من الشباب اليوم مركب وثير ومأكل شهي, يبكي لخسارة رياضية, في حين أنه لا تحركه قطرات الدماء النازفة من الأمة, غابت الهمم العالية والعزائم الماضية
فيا ترى ما هو سبب الغثائية التي جثمت على قلب الأمة اليوم بعدما كانت أمة الإسلام ملء السمع والبصر ؟
إن الأسباب هي من قبلنا نحن المسلمين, غيرنا فغير الله علينا, وابتعدنا عن شرع ربنا فخذلنا, واعتمدنا على غيره فوكلنا الله لأنفسنا.
وإن من آكد أسباب الغثائية التي نراها في الأمة, الخلل الاعتقادي, حين دبت في نفوس كثير من المسلمين البدع والخرافات, وانتشرت الأضرحة والمزارات, طِيف بها وتُوسل, وحُلف بغير الله واعتُمد على غيره, والنتيجة أن الله وكل العباد لأنفسهم وغيَّر عليهم حين غيَّروا أنفسهم, يوم أن قال بعض المسلمين حين دهمهم التتار الغزاة: يا خائفين من التتر لوذوا بقبر أبي عمر, خُذلوا وفتك بهم التتار, ويوم أن تعلقوا بالله ولجأوا إليه رأوا النصرة, ومن تعلق شيئاً وكل إليه.
عباد الله: والإنكباب على الدنيا والانشغال بها, سبب من أسباب غثائية الأمة, حينما ملأ حبها القلوب, فصارت لأجلها يعادى وفي سبيلها يوالى, وربما رأيت من باع بلده وخذل قومه لأجل منصب أو مال, فأحب الناس الدنيا وكرهوا الموت, بعدما كان المسلمون يحبون الموت في سبيل الله كما يحب الكفار الحياة, وحب الدنيا ملهي مهلك, كما أخبر بذلك المصطفى ج
وحين انفتحت الدنيا عاش المسلمون حياة الدعة والترف, فتخدرت القوى, وخملت العزائم, وقد روى أبو داود في سننه عن أبي أيوب قوله عن قول الله(َلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ لَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَظْهَرَ الإِسْلاَمَ قُلْنَا : هَلُمَّ نُقِيمُ فِى أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الاية, فَالإِلْقَاءُ بِالأَيْدِى إِلَى التَّهْلُكَةِ أَنْ نُقِيمَ فِى أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحَهَا وَنَدَعَ الْجِهَادَ.
معشرالمسلمين: والتناحر والتنازع, والتشاحن والتقاطع الذي وقع بين المسلمين سبب من أسباب الغثائية, والله يقول ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) تنازع المسلمون لأجل مذاهبهم ولأجل رياساتهم, ولأجل قبائلهم, وحين وضعت الحدود بين الدول فرقت أوصال المسلمين, بعدما كانوا أمة واحدة, كل هذا كان له دور في أن توسم الأمة بالغثائية, كما أخبر بذلك الرسول ج, تلك بعض الأسباب ويبقى الأهم وهو العلاج, شفى الله الأمة من أدوائها وأيقظها من رقدتها وسباتها.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده
حينما ابتعد المسلمون عن أماكن الريادة تاه الكفار في دياجير الظلمة, وحينما ننادي بعودة المسلمين فإن المنتفع من ذلك المسلمون وأهل الأرض كلهم, فهم الأدلاء للناس, وشريعة رسول الله ج التي هي للناس جميعاً هي رحمة للعالمين أجمعين كما قال رب العالمين, شريعة تخرج منها أعظم القادة وأرحم الفقهاء وأزهد الخلفاء وعلماء المعارف الدنيوية والسياسية والاقتصادية.
ونحن اليوم أيها الكرام نعيش بداية عودة للإسلام, ونهضة للمسلمين, بدت تباشيرها, وظهرت أنوارها, ونسأل الله أن يجعل العواقب إلى خير, وذاك خير يحتاج إلى رعاية ومتابعة.
وإننا أيها الكرام حينما نسعى لتغيير واقعنا فإن ذلك يبدأ من كل واحدٍ منا, فأنت أيها الفرد قد تكون لبنة بناء أو معول هدم في المسلمين
وإن الواجب أن نسعى في أنواع من الإصلاح بها يتحقق الخير والعز للمسلمين بإذن الله؛ الإصلاح العقدي والعبادي والأخلاقي.
فأما الإصلاح العقدي, فبأن نعلق القلوب بالله, ونتوجه بالعبودية له دون ما سواه, فلا قبور ولا أضرحة ولا توسل بمخلوق ولا استغاثة, بل القصد كله لله.
والإصلاح العبادي حين نؤدي الطاعات, ونحافظُ على الصلوات وننأى عن المآثم والمحرمات, فكم يحرم الناس خيراً بتنكبهم عن طريق العبادة, وولوغهم في طرق المعاصي, وما أهون الخلقَ على الله إذا أضاعوا أمره, وحين تتوجه القلوب إلى الله بأوامره يعطي ويعز, (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا).
والإصلاح الأخلاقي بإصلاح تعاملنا مع الناس في سائر الأمور, فلا ظلم ولا بغي, ولا إساءة ولا جور, بل تصافيٍ وتآلف, وأداء للحق وحسن في الخلق, وتلك سمة الذين يعزهم الله (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين), وحينها يزول الشقاق, ويسود الوفاق
كل هذا مع السعي في الأرض دعوة إلى الله وتبليغاً, وإرشاداً للتائه وتوجيها, وإنقاذاً لغريق الضلالة وإصلاحا, وإصلاح الأبدان, وتهيئة النفوس وإعداد القوة, ودعاء رب العزة أن يكشف البلاء ويرفع الذل عن الأمة.
تلكم أيها الكرام هي أركان الإصلاح, هي طريق النهوض بالأمة, والعود بها لدرب الريادة, واليقين أن الله غير حين غيرنا, وسيغير علينا للخير حين تصلح حالنا, (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فأصلح من حالك, وأبشر بالخير منه يأتيك, وهو الذي وعد وعداً لا خلف فيه ( إن تنصروا الله ينصركم)
اللهم أصلح أحوال المسلمين, وارفع الذل عنهم وأبدله نصراً وعزاً وتمكين
الدكتور أنس العمايرة
جزاك الله خيرا
تعديل التعليق