ولا أحبُّ إليهِ العملُ فيهنَّ من هذِه الأيَّامِ العشرِ

الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

{ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡس وَٰحِدَة وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالا كَثِيرا وَنِسَآء وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبا}.

أما بعد...

اتقوا الله تعالى أيها المسلمون، التمسوا مواطن رحمته، وميادين فضله، فإن للخير مواسم لا يدركها إلا السابقون من عباده.

أيها المسلمون:

بعث نبينا –صلى الله عليه وسلم- بالحق، وجاء بالهدى والنور مبشرا، آمن معه قوم وصدقوه، فذبوا عن رسول الله ودافعوا، آمنوا به وعزروه ونصروه، وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، تطايرت في ميادين القتال أشلاؤهم، ونثرت في ساحات المعارك دماؤهم، اغبرت أقدامه، وبذلوا مهجهم رخيصة في سبيل، كل ذلك لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذبن كفروا السفلى.

ما منا أحد إلا ويحقر همته إلى همتهم، ويزدري عمله إلى عملهم، كبف لا وهم قد بذلوا الغالي والنفيس في سبيل الله، ابتغاء منازل الشهداء والأنبياء.

ولقد علم الله من حال عباده ما تتوق به أنفسهم من المنازل العالية، ورحم ضعف كثير إذ أرادوا وما طاقوا، أو تمنوا فما استطاعوا، فشرع لهم برحمته من الأعمال ما يبلغون بها درجة الصائمين القائمين المجاهدين في سبيل الله، فكانت تلك الفرص مواسم لا يستغلها إلا موفق، ولا يعرض عنها إلا محروم.

عَن عَبدِاللهِ بنِ عَباسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ما الْعَمَلُ في أَيَّامِ العشرِ أَفْضَلُ من العمل في هذه، قالوا: ولا الْجِهَادُ؟ قال: ولا الْجِهَادُ إلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فلم يَرْجِعْ بِشَيْءٍ" رواه البخاري.

وفي لفظ لأبي داود:-( ما من أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فيها أَحَبُّ إلى الله من هذه الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْر، قالوا: يا رَسُولَ الله، ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله؟ قال: ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله إلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فلم يَرْجِعْ من ذلك بِشَيْءٍ)، وفي رواية للدارمي:-( ما من عملٍ أزكى عند اللهِ ولا أعظمَ أجرًا من خيرٍ يعملُه في عَشرِ الأَضحى . قيل : ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ ؟ قال : ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ ، إلا رجلٌ خرج بنفسِه وماله فلم يرجِعْ من ذلك بشيءٍ . قال : فكان سعيدُ بنُ جُبَيرٍ إذا دخل أيامُ العشرِ اجتهد اجتهادًا شديدًا ، حتى ما يكادُ يقدرُ عليه.
وما اختار الله تعالى فضيلة العمل الصالح في عشر ذي الحجة على غيرها إلا لعظيم منزلتها عنده عز وجل، وهو سبحانه يخلق ما يشاء ويختار، ويفضل من الأيام والأعمال ما يشاء.

وقد دل على فضلها حديث جابرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة، قال: فقال رجل: يا رسول الله، هنَّ أفضل أم عِدَّتُهن جهادا في سبيل الله؟ قال: هنَّ أفضل من عِدَّتِهِن جهادا في سبيل الله"  صححه ابن حبان.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (الذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج ولا يتأتى ذلك في غيره) .

ومما يدل على فضل عشر ذي الحجة وقوعُ يومين عظيمين فيها هما يوم عرفة ويوم النحر.

أما يوم عرفة فعن عَائِشَةَ –رَضِيَ اللهُ عَنها- قَالت: قَالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (ما من يَوْمٍ أَكْثَرَ من أَنْ يُعْتِقَ الله فيه عَبْدًا من النَّارِ من يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلائِكَةَ فيقول ما أَرَادَ هَؤُلاءِ) رواه مسلم.

وأما يوم النحر فعن عبدِ الله بن قُرْطٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ " رواه أبو داود.

 

أيها المسلمون:

هذه الأيام هي أعظم الأيام أجرا، وأكثرها بركة، العمل الصالح فيها أعظم من كل شيء، حتى من الجهاد في سبيل الله، حري بالمسلم استغلال هذا الموسم، واستثماره بالأعمال الصالحة، من قيام وصيام، وصدقة وصلاة، وكثرة ذكر لله عز وجل.

كيف وقد جمع الله لنا شرف الزمان والمكان، واستقبال ضيوف الرحمن، فالله الله بكثرة العمل، أحسنوا لأنفسكم بالدعاء والذكر والعمل، وأحسنوا لأهليكم وأولادكم بالبر والتوجيه والتربية، وأحسنوا لضيوف الرحمن بالبذل والمعونة، إن الله يحب المحسنين.

أسال الله تعالى أن يوفقنا للعمل الصالح الذي به يرضى عنا، وأن يقبل منا ومن المسلمين صالح الأقوال والأعمال، إنه سميع قريب

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولك من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم 


الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا وحده لا شريك تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أما بعد ...

ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن من أعظم الأعمال في هذه الأيام المباركة، أيام عشر ذي الحجة ذكر الله تعالى، عن عَبدِاللهِ بنِ عُمرَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ما من أيَّامٍ أعظمُ عندَ اللَّهِ ولا أحبُّ إليهِ منَ العملِ فيهنَّ من هذِهِ الأيَّامِ العَشرِ فأَكْثروا فيهنَّ منَ التَّهليلِ، والتَّكبيرِ، والتَّحميدِ(. قال ميمون بن مهران –رحمه الله- (أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر، حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها)، وقال ابن القيم –رحمه الله- (والأفضل في أيام عشر ذي الحجة الإكثار من التعبد، لا سيما التكبير والتهليل والتحميد، فهو أفضل من الجهاد المتعين).
حجاج بيت الله الحرام:

أنعم الله عليكم بنعمة الوصول إلى بيته، ومكنكم من شعيرة عظيمة، وها أنتم في استقبال أول بركات هذه الشعيرة، هذه الأيام العشر، فاتقوا الله تعالى فيها ولا تبطلوا أعمالكم، احفظوا ألسنتم وأبصاركم وأسماعكم عن الحرام، واستغلوا موسمكم بكثرة الذكر والاستغفار، وجدوا في التوبة وألحوا في الدعاء، فإنكم على سفر جئتم ملبين بالتوحيد، وعدكم الله بالإجابة، فإياكم والتفريط وإضاعة الأوقات، فمثل هذه المواسم عادة لا تتكرر.

تقبل الله منكم صالح العمل، وتمم عليكم حجكم، وسددكم لاتباع هدي نبيكم محمد – صلى الله عليه وسلم- ، وحفظكم وأمنكم، وردكم إلى أهلكم سالمين غانمين

اللهم صل وسلم وزد وبارك، على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، ومن سار على نهجهم وسلك طريقتهم إلى يوم الدين.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

المرفقات

1686905239_ما من أيام أعظم عند الله من هذه العشر.docx

1686905244_ما من أيام أعظم عند الله من هذه العشر.pdf

المشاهدات 432 | التعليقات 0