وكَمْ منْ عائبٍ قولًا صحيحًا...! د.حمزة بن فايع الفتحي

الفريق العلمي
1442/01/19 - 2020/09/07 07:36AM

تتصاعدُ ألسنةٌ للنقدِ، والتعيير، والتعقبِ على بعض المنشور والمطروحِ والمعلوم؛ ظانةً أنّ قولَها الصوابُ، واستدراكَها الحق، وتنبيهها المفيد، ولا تدقّق أو تمحص وتراجع...! بل تعتقد أنها على هدى ورشاد، وقد سلكت السَّداد، وما درت أنه لجهلٌ سريع، أو اندفاعٌ بلا ترو، يُوقعها المزالق، ويُنزلها المضاحك...!

 

ومن ذلك، ودوافع هذا العيب النقدي ما يلي:

 

١- الاستعجالُ المندفع:

الخالي من الأناة، وتدقيق الكلام، وسبر أغواره، وقد قرأ مرةً أو مرتين، وطالع من طرفٍ خفي، أو قرئ عليه، فانبرى معلقا وناقدا، فاقدا للتروي والتمهل. وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم لأشجّ عبد القيس: "إنَّ فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة".

وقد يكون حسَنَ المقصد، ولكنه يحب المشاركة على كل حال، أو التفاعل الثقافي بلا تركيز.

والأخْيرُ الأحكمُ لهؤلاء، العلمُ قبل العمل، والصمتُ قبل المشاركة، وقد قيل: " تكلمْ بعلم، أو اسكت بحِلم ".

 

وقال المحققُ ابن القيم -رحمه الله-: "لا حكمةَ لجاهل ولا طائش ولا عجول". وقد صح في الحديث: "التأني من الله، والعجلة من الشيطان".

 

وقال الإمامُ أبو حاتم البُستي -رحمه الله-: "والعَجِل.. يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويَحْمدُ قبل أن يجرِّب، ويذمُّ بعد ما يحمد، ويعزم قبل أن يفكِّر، ويمضي قبل أن يعزم، والعَجِل تصحبه النَّدامة، وتعتزله السَّلامة. وكانت العرب تكنِّي العجلة: أمَّ النَّدامات".

 

ومن الاستعجال: التصدرُ قبل التأهل، والتمشيخُ قبلَ شهادة المشيخة، وإعمالُ الردود قبل الأصول، وبلوغ مراقي السعود... قال الإمامُ مالكٌ -رحمه الله-: "لَا يَنْبَغِي لرجل أَن يرى نَفسه أَهلا لشَيْء حَتَّى يسْأَل من كَانَ أعلم مِنْهُ، وَمَا أَفْتيت حَتَّى سَأَلت ربيعَة وَيحيى بن سعيد فأمراني بذلك وَلَو نهياني انْتَهَيْت".

 

٢- الجهلُ المتهور:

وهو شجرةُ الشرور، ومادةُ الكسور، يوقعُ صاحبَه المواجع، ويصليه المتاعب والمناكد، حيث يزين له لسانُه العَجِل، أو علمه المحدود، وثقافته الهشة، فيبدي عَنانه، ويُشْرِع سِنانه، فيَضِل الهدف، وينكشف المستور..! وقد قال علي بن أُبي طالب ضي الله عنه: "العلمُ نقطةٌ كثرها الجاهلون". فكم من جاهل كثّر الردود، وحرك الفهوم، وأقام الحشود، والمسألةُ أهونُ من ذلك كله. أو ُيطلب رأيه، فيستحي من قول " لا أدري"، أو أنه يصمت أو يعتذر، وقد اشتهر قول أُبي الدرداء -رضي الله عنه-: "من تركَ لا أَدري أُصيبت مقاتله".

 

وكانت شعارا الفضلاء العلماء، ولَم تَعبهم أو تقلل من شأنهم..!

 

وإذا سُئِلتَ بما جَهِلت فَلا تَكُن *** ‏ مُتَحاذِقاً مُتَسَرِّعاً بِجَوابِ

العِلمُ بَحرٌ لا نفادَ لِمائِهِ *** ‏ كَم قالَ لا أَدري أولوا الألبابِ

لا عِلمَ عِندي لَيسَ عَيبٌ قَولها *** ‏ العَيبُ أَن يُفتى بغير صوابِ

 

٣- السبقُ الإعلامي:

حرصا على تسجيل موقف، لا سيما والإعلامُ أخاذ، وآلاتُه جذابة، ورؤوسه وقادة، ترقبُ كلَّ صاعق وناعق، ولا تبالي بما تحت المرافق.

 

وقد صدَّر الإعلامُ كلَّ مهينِ...وأذاع في الآفاق غيرَ سمينِ..!

 

وقد تثير ذلك بعضُ وسائل الإعلام، وتدعو للنقاش أو المشاركة، أو حوار الجماهير، فيلجُ المسرحَ العلمي كلَّ من هبَّ ودبَّ..!

 

وفي هذه الأيام تطالعنا الفضائياتُ بمستعجلينَ جهال، ومتشوقين جُدد، وطامحينَ بلا آلةٍ وتمكن..!

 

يَعمَدونَ لمناطحة هاماتٍ علمية، ومحاولة لتغليطهم بلا وعي ولا دراية.. قال شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ليس لأحدٍ أن يتّبعَ عورات العلماء، ولا له أن يتكلم فيهم، فمَن عدَل عن الحجة إلى الظن والهوى فهو ظالم، وكذلك كل من آذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، ومن عظّم حرماتِ الله، وأحسن إلى عباده فهو من أولياء الله".

 

٤- الانتصارُ العلمي:

بحيث يَظنُّ أنه لقي عثرةً، أو افترس فريسة، أو نال صيدا ثمينًا، يسعد قلبه، ويجيب خاطره، ويحفظ له ذكرا علميا، أو مجدا فكريا..!

 

لا سيما إذا كان المنتقَد عالما فذا، أو كاتبًا مشهورا، فيتجرأ سريعا وقد علته النشوة، وأخذته الزهوة، حبا للانتصار، ورغبةً في الظهور والتفاخر والتفاصح..!

 

قال إبراهيمُ بن أدهم -رحمه الله-: "مَا صَدَقَ اللهَ عَبْدٌ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ".

 

وعلّق الإمامُ الذهبي -رحمه الله-: "عَلاَمَةُ المُخْلِصِ الَّذِي قَدْ يُحبُّ شُهرَةً، وَلاَ يَشعُرُ بِهَا، أَنَّهُ إِذَا عُوتِبَ فِي ذَلِكَ، لاَ يَحرَدُ وَلاَ يُبرِّئُ نَفْسَه، بَلْ يَعترِفُ، وَيَقُوْلُ: رَحِمَ اللهُ مَنْ أَهدَى إِلَيَّ عُيُوبِي، وَلاَ يَكُنْ مُعجَباً بِنَفْسِهِ؛ لاَ يَشعرُ بِعُيُوبِهَا، بَلْ لاَ يَشعرُ أَنَّهُ لاَ يَشعرُ، فَإِنَّ هَذَا دَاءٌ مُزْمِنٌ".

 

وما أكثرَ الانتصارات العلمية الخاوية في طروحات هذه الأيامِ، جهلا واندفاعا، وطمعا واشتهارا، حتى إنَّ المحقق أو المدقق إذا نفضها، تعرت وليس عليها دهانٌ لطيف، أو حجابٌ رهيف..! كما قال الفالي الأندلسي -رحمه الله-: "لقد هزُلت حتى بدا من هزالها...كلُاها وحتى سامَها كلُّ مفلسِ...!".

 

٥- الفهمُ السقيم:

كما صدرّه الحكيمُ في شعره، وباعثه قلة بضاعة، أو محدودية فكر، أو تطاول منعدم، أو ضحالة غير معالجة...فقال:

وكم من عائبٍ قولًا صحيحا *** وآفتهُ من الفهمِ السقيمِ

ولكنْ تأخذُ الآذانُ منه *** على قدر القرائح والفهومِ

 

وعليه ينبغي التريثُ والتروي، والتعلم والتضلع، حتى يرتقي الذهن، ويتسع العلم، ويصقل الفهم، ثم يأتي الردود والتعقبات في مواعيدها ومظانها وبلا ترقب وحسبان...؛ لأن من أُغرم بها تورط، وحُرم بركات العلم والفقه.

 

ولو سلمتِ الساحاتُ العلمية الفهم السقيم وصوره، لطابت الأفكار، وعظمت الطروحات، وجمُلت العلوم، وارتقى الحوار... ولكن هيهاتَ هيهات..!

 

مادامَ ثمة ناقدٌ مسترزِقٌ *** وملافظٌ حفَّت به وتصفقُ...!

فاكسرْ يراعكَ فالفضاءُ معتّمٌ *** ومخادعٌ في هامه تتعملقُ..!

 

٦- النيةُ المبيَّتة:

المنطويةُ على فسادٍ مقصود، أو إسقاطٍ مطلوب، أو تشكيك متعمد، وتهوين محدد...! سيرا على منهجية " ما أردت إلا خلافي " و" "رد الحق" و" إظهار التعالم " أو "قصد التشكيك".

 

كما وقع من أصحاب المقالات الكلامية وبعض المبتدعة، فمثلا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه عن الرازي عفا الله عنه." وهذا أبو عبد الله الرازي من أعظم الناس في هذا الباب -باب الحيرة والشك- لكنه مسرفٌ في هذا الباب؛ بحيث له نَهمة في التشكيك دون التحقيق، بخلاف غيره ".

 

وليس معنى كلامنا كله أن لا نرد ولا نتعقب..!

 

كلا.. بل رُدَّ وتعقب، ولكن بعد وعيٍ ومطالعة، وعلى علمٍ وفقاهة، وحُسنٍ وبراعة.

 

واذا وعيتَ من العلوم أساسَها... فاشحذْ حُسامكَ لا ونىً وترددُ...!

 

٧- الهوَسُ الاعتراضي:

على كلِّ مكتوب، وكل منشور، فلا يراعي السلامة العلمية ووئامها، ويتشوق إلى تعليق أو تعقيب أو تحرير..! فيزعم التصويبَ أو التبيين والتحرير، حتى يفتحَ الباب لمحدودي العلم وصغار الطلبة، والمتشبعين بما لم يُعطوا..! وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم: "من تشبعَ بما لم يُعط كلابس ثوبَي زور".

 

وقد شاهدنا هذه الأيام من تعلّق بالاعتراض نفَسا وجدلا ومحبة، حتى بلغ شغافَ قلبه، فوقع في ضد أعماله، وحُرم بركةَ العلم، ولَم يصنف في مفيد العلم ومتينه ورحيقه...!

 

وجرَّ على نفسه بلايا وخصومات، وانبرى له أقوامٌ شدادٌ غلاظ، يوآخذونه بالهفوة والظِّنة، جراء ما فعل وتعمد، وقد قالت العرب في أمثالها: "مَن غربلَ الناس نخلوه".

 

ومن الحكمة هنا ضبطُ النفس والانتظار وترك ديمة الاعتراض، وقد قال المتنبي أيضًا في نفس القصيدة:

وكلُّ شَجاعَةٍ في المَرْءِ تُغني *** ولا مِثلَ الشّجاعَةِ في الحَكيمِ...!

 

٨- الشغفُ بالزلات:

وجمعها والعناية بها، لدرجة أنه لا يطالع سواها، ولا يسود الأوراق إلا من أجلها، حتى يبيت مُغرما ومغرىً بها، والله المستعان.

 

ويتعمدون تجاهلَ المحاسن والإفادات والمباهج، وفيهم يقول الإمامُ الشعبي -رحمه الله تعالى-: "والله لو أصبتُ تسعاً وتسعين مرة، وأخطأت مرة، لعدّوا عليّ تلك الواحدة".

 

فيبدأ أولا بزلات المقالات والتغريدات، إلى أن يتابع العلماء وكتبهم وفتاويهم، فيتتبع، ويراجع ويتعقب، ثم تتضخم هذه النائبةُ معه حتى تصبح معضلةً في قلبه وتفكيره..!

 

٩- التوجه الإقصائي:

الضائقُ من كل مذهبٍ ومسلك دون مسلكه، فيهوَى النقد والتعقب، لأنّ طبيعته الإقصاء والاستفراد والاستبداد..! فلا حق إلا ملكُه، ولا نور إلا كلامه، ولا علمَ إلا علمُه وتحقيقه...! على ديدن المنهج الفرعوني الصارم المتجهم (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)[غافر:29].

 

ومنه: انعدامُ الإنصاف بين أهل الفرق والمذاهب وعنايتهم بحقائق شيوخهم، وطرح أقوال مخالفيهم، وهذا خلاف قواعد الإسلام وقيمه، وفِي القرآن: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[المائدة:8].

 

وكل مقصٍ للحق، متجاهل للمحاسن، مقلل من الجهود، هو في تباعدٍ عن التقوى، والله المستعان.

 

١٠- الاختلافُ المذهبي:

والفكري والعقدي والسلوكي، الذي من شأنه أن يَفقدَ أصحابُ المذاهب والطرائق آدابَ العلماء، فينبري بعضُهم بالرد بلا هوادة، والتعقب بلا ترفق، والنصحِ بلا مراعاة، والإفادة بلا إجادة..! وسببُ ذلك غالبًا تباينُ المذاهب واختلاف الطرائق، وكم من ردود تنامت بين الفقهاء، سببها عائد إلى "الاختلاف المذهبي"، وليس الإحقاق البرهاني، أو الغيرة النصية..!

 

كما وقع بين "مدرستي الشافعية والحنفية " من ردود ومقالات، حتى وصلت للعلائق والصِّلات؛ فمنع الزواج والتناكح بينهم، وقد قال الحصكفي في أبيات عن الإمام أُبي حنيفة -رحمه الله-، منها:

فَلَعْنَةُ رَبِّنَا أَعْدَادَ رَمْلٍ *** عَلَى مَنْ رَدَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَهْ..!

 

ومن تعصبهم: ما نسب لهم من فتاوى غريبة، حيث أفتى بعض الأحناف بعدم جواز تزويج الحنفي بالشافعية، باعتبار أن الشافعية تشك في إيمانها؛ لأن الشافعي يقول: أنا مؤمن إن شاء الله. إلا أن بعضهم قال: يجوز ذلك، قياسا على الذمية؛ أي فكما يجوز زواج الحنفي بالذمية كذلك يجوز زواج الحنفي بالشافعية. وافترقوا في مسائل فرعية كالجهر بالبسملة، وشبهها مما يندَى له الجبين، ويوحش الثمين، والله المستعان. والتعصب دائرٌ في كل المذاهب قلةً واستكثارا، ولبعضهم فيه الأوابدُ والمناكدُ والهداهد..

 

عافانا الله وإياكم من ذلك.. والله الموفق.

المشاهدات 435 | التعليقات 0