وقليل من عبادي الشكور 1445/6/30ه

يوسف العوض
1445/06/29 - 2024/01/11 13:51PM

الخطبة الأولى

أيُّها المسلمون: الشكرُ هو المجازاةُ على الإحسانِ ، والثناءُ الجميلُ على من يقدم الخيرَ والإحسانَ ، وأجلُّ من يستحق الشكرَ والثناءَ على العبادِ هو اللهُ جلَّ جلاله ؛ لما له من عظيمِ النعَم والمننِ على عباده في الدِّين والدنيا ، وقد أمرنا الله تعالى بشكره على تلك النّعم ، وعدمِ جحودِها ، فقال سبحانه : ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ ) وهذه النِعمُ لا تُعَدُّ، ولا تُحصى، بَل هي متتابعةٌ، كالليلِ والنهارِ، يقولُ سبحانه:

{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} ، ويقول سبحانه: {مَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} والهدايةُ لدينِ الإسلامِ هي أعظمُ النَّعمِ، إذ يقولُ سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وقال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّه} ، ويقول ابنُ تيميةَ شيخُ الإسلامِ -رحمه الله-: "والعبدُ دائمًا بين نعمةٍ من اللهِ تحتاجُ إلى شكرٍ، وذنبٍ يحتاجُ فيه إلى استغفارٍ، وهذان الأمران ِمن الأمورِ اللازمةِ للعبدِ دائمًا، فإنَّه لا يزالُ يتقلبُ في نعمِ اللهِ وآلائهِ".

أيُّها المسلمون: والأسبابُ التي تعينُ العبدَ على شكرِ النِّعمِ كثيرةٌ :

أولّها: التأمّلُ في نِّعمِ اللهِ، وإدراكُها في كلِّ حينٍ، وتجنّبُ الغفلةِ عنها، ومن النِّاسِ من يتنعمون بأنواعِ النِّعمِ المختلفةِ من المآكلِ، والمشاربِ، والمراكبِ، والمساكنِ، ومع ذلك لا يستشعرونها! وذلك لأنّهم لم يُجربوا فقدانَها يومًا من الأيّامِ، وقد اعتادوا وجودَها، لذا أرادَ اللهُ من عبادهِ التأمّلَ في نِعَمه، إذ يقولُ سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}.

وثانيها: أن ينظرَ كلُّ عبدٍ إلى من هو أقلُّ منه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أنَّ الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- قال: (انظروا إلى من هو أسفلَ منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقَكم، فهو أجدرُ أن لا تزدروا نعمةَ اللهِ عليكم)  ويقول ابن جرير في تفسيرِ هذا الحديث: "هو جامعٌ لأنواعٍ مِن الخيرِ، لأنّ الإنسانَ إذا رأى مِن فُضّل عليه في الدنيا، طلبت نفسُه مثلَ ذلك، واستصغرَ ما عنده مِن نعمةِ الله تعالى، وحَرِصَ على الازديادِ؛ ليلحقَ بذلك أو يُقاربَه، هذا هو الموجودُ في غالبِ النِّاسِ، وأما إذا نظرَ في أمورِ الدنيا إلى من هو دونَه فيها، ظهرت له نعمةُ ربِّ العالمين عليه، فشكرَها وتواضعَ وفعلَ فيه الخيرَ".

وثالثها: أنْ يُدركَ الإنّسانُ أنَّ اللهَ سبحانه سوفَ يسألُه يومَ القيامةِ عن شكرِ هذه النِّعم، وهل شكرَ أم قصَّر؟ فيقول سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} وقال تعالى: { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: ( أولُ ما يحاسبُ بهِ العبدُ يومَ القيامةِ؛ أن يقالَ لهُ: أَلمْ أُصِحَّ لكَ جِسْمَكَ، وأَرْوِكَ مِنَ الماءِ البارِدِ؟).

اللهمّ أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك

الخطبة الثانية

أيُّها المسلمون : من أعظمِ القصصِ الدالةِ على شكرِ النِّعمِ وكفرِها حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول: "إنّ ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى، فأراد الله أن يَبْتَلِيَهم، فبعث إليهم ملَكًا، فأتى الأبرص؛ فقال: أيُّ شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قَذِرَني النَّاس به. قال: فمسحه فذهب عنه قَذَرُه، فأُعْطِيَ لوناً حسناً وجلداً حسناً. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو البقر -شك إسحاق-. فأُعْطي ناقة عُشَرَاءَ، وقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع؛ فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال شعر حسن، ويذهب عني الذي قد قَذِرَني الناس به. فمسحه فذهب عنه، وأُعْطِيَ شعراً حسناً. فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر أو الإبل. فأُعْطِيَ بقرة حاملاً،قال: بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى؛ فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يَرُدَّ الله إليَّ بصري فأبصر به الناس. فمسحه فردَّ الله إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنَم، فأُعْطِي شاة والدًا. فأُنْتِجَ هذان، ووَلَّد هذا، فكان لهذا وادٍ مِن الإبل، ولهذا وادٍ مِن البقر، ولهذا وادٍ من الغنم. قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الحِبال في سفري، فلا بلوغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أَتَبَلَّغُ به في سفري. فقال: الحقوق كثيرة. فقال: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يَقْذَرُك الناس، فقيرًا فأعطاك الله المال؟فقال: إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابرٍ. فقال: إن كنت كاذباً فصيَّرك الله إلى ما كنت. وأتى الأقرعَ في صورته فقال له مثل ما قال لهذا، وردَّ عليه مثل ما ردَّ عليه هذا.فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل قد انقطعت بي الحِبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي ردَّ عليك بصرك شاة أَتَبَلَّغُ بها في سفري. فقال: قد كنت أعمى فردَّ الله إليَّ بصري، فخُذْ ما شِئْت ودَعْ ما شِئْت، فوالله لا أَجْهَدُك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أَمْسِكْ مالك؛ فإنما ابتُلِيتُم؛ فقد رضِيَ الله عنك، وسَخِط على صاحبيك".

اللهم آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقنا عذاب النّارِ

المشاهدات 1375 | التعليقات 0