وقفة مع نهاية عام .... ودروس من الهجرة

مريزيق بن فليح السواط
1433/12/24 - 2012/11/09 01:40AM
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكرَ، أو أراد شكورا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لطفُه لا يَحفى، ونعمُهُ لا تُحصى، وأمرهُ لا يُعصى، وأشهد أن نبينا محمدا عبده المصطفى، ورسوله المُجتبي، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما بدأ يوم وانتهى، وما بدا هلال شهر واختفى.
أما بعد......
عباد الله :
اتقوا الله تعالى وأطيعوه، واذكروه في السر والنجوى وراقبوه، واعتبروا بمرور الليالي والأيام، وانصرام الدهور والأعوام، واعلموا أن الدنيا دار ممر، وأن الأخرة هي دار القرار، فخذوا من ممركم لمقركم، وتأهبوا ليوم حسابكم وعرضكم، "فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الاماني".
تذكروا بإنقضاء العام أنكم في أجال منقوصة، وأعمال محفوظة، فطوبى لمن عاد قبل نُطق الجوارح، وشهادتها بالقبائح، فسارع إلى عمل صالح "يوم تجدُ كُلُ نفسٍ ما عملت من خيرا مُحضرا وما عملت من سوءٍ تَوَدُ لو أن بينها وبينهُ أمدا بعيدا" أخرجوا الدنيا من قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم، فالدنيا كلُّها منام، وأحسن ما فيها كأضغاث أحلام، إن سرت يوما أسأت أعواما، وإن أضحكت قليلا أبكت كثيرا، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي وقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" أي لا تركن الى الدنيا، ولا تتخذها وطنا، ولا تُحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، فكان رضي الله عنه يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن غناك لفقرك، ومن حياتك لموتك.

الدنيا غرارة خداعة كم ضحكت على أهلها، وكم فتنت أبنائها حتى فاجأهم الأجل، وقطع عنهم الامل، بنى الخليفة هارون الرشيد، قصرا عظيما له في الرِّقة، ستَرهُ بالستور، وجعل فيه الحدائقَ والزهور، وأجرى الانهار والعيون، وجلبَ فيه أجمل الحيوانات والطيور، ودخل الشعراء عليه يمدحون ويثنون، ويعظمون ويبجلون، وكان منهم أبو العتاهية فلما جاء دوره قال يا هارون:
عِشْ ما بَـدَا لكَ سالمـاً**في ظِلّ شاهقَةِ القُصورِ
يجْـري عليكَ بما أردت**مع الغُــدوِّ مع البـكورِ
وهارون يقول هيه هيه!! زد. زد. حتى قال:
فإذا النفوس تغرغرت**بزفير حشرجت الصدور
فهنـاك تعلـم مُـوقـنا**مـا كُـنتَ إلا في غــرور
الدنيا كلها أماني وغرور... تذهبُ القصور، وتسقط ُالستور، وتموت الازهار والطيور!! سمع هارون موعظة بليغة، أثرتْ في نفسه، وكسرتْ جماح مُلكِه، فنزل من قصره، وحَقَّر من أمره، فكان يقول اذا رآى عساكره وجنده: يا من لا يزول مُلكُه أرحم من قد زال ملكه!!! ثم مالبث بعدها شهرا ومات رحمه الله "يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنّكُمُ الحياةُ الدنيا ولا يغرنّكم بالله الغرور".

أيها المسلمون:
هذة طليعةُ أيام عامنا الهجري الجديد، ها نحنُ نتفيأُ ظلالها، وتُلْبسُنا من سنا ذكرياتها، إنها أيامٌ تحكي الهجرة والتاريخ.
هجرة النصر.....
وتاريخ النصر.....
إن هذا العام ليُعيدُنا إلى بدايات إشراقات تاريخنا كمسلمين، حين نزلَ جبريلُ عليه السلام بأمرٍ من السماء لا يحتمل التأخيرَ أو التردد "يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربَّك فكبر. وثيابَكَ فطهر. والرُّجْزَ فاهجُر" فالقضيةُ جدٌ ليستْ بهَزَل، والدينُ حقٌ ليس بلَعِب، فلا مكانَ للخانعين، ولا أرضَ للمتكاسلين، ولا موقعَ للمُعوِّقين والمُخذِّلين، نزل جبريلُ عليه السلام بعدها بقول الله تعالى: "فاصْدَعْ بما تُؤْمَرُ وأَعْرِضْ عن المشركين" فاصدعْ بما تؤْمَرُ ولا تخف في الله لومةَ لائم، فلبّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم النداء، وشمَّر عن ساق الجد بكلِّ قوة، فما تركَ جبلا الا صعده، ولا واديا إلا هبطه، ولا شعبا إلا سلكه، يُنادي أهل مكة ومن قدِمَ عليها "يا أيها الناس قولوا: لاإله إلا الله تفلحوا" كلمةُ التوحيد العظيمة ظلَّ يرفعُ بها صوته ثلاثةَ عشرَ عاما غير هيّابٍ ولا وجِل، فقامت عليه الجاهلية ولم تقعد، وحاربه الجاهليون بكل وحشية وضراوة، وأحسَّ بخطر كلمة التوحيد عُبّاد الاوثان والأصنام، ورؤساء العشائر، وأرباب الكراسي، وأصحاب المكاسب الخبيثة، والارصدة المحرمة، والثراوات المُغتصَبة، كما أحس بخطر هذه الكلمة عُبّاد القومية المُعتصِّبون لقومياتهم وعشائرهم، المُقدِّسون لتقاليدهم وعاداتهم، حينها أشتدت الوطأة على النبي الكريم، وصحابته الغر الميامين، وضاقتْ أرضُ مكةَ بما رحُبتْ عليهم، وأصبحتْ بِضْعُ ركعات عند المسجد الحرام جريمةً لا تغفر، وقرآءة آيات من القرآن رجعية وتطرفا، وهمجية وإرهابا، عملَ أهلُ الجاهلية بكلِّ وسيلة، وجربوا كلَّ طريقة، لخنقِ الحق، ومحاربةِ أهله، ووضعِ العراقيل في طريقه.
عندها جاء الامرُ بالهجرة، فخرجَ الصحابةُ فارين بدينهم، من كيد الكائدين، وظلم الظالمين، خرجوا من مكة، وتركوا أموالَهم وأولادَهم ودورَهم، كل ذلك لله وفي الله، فكانت الهجرة نصرا لا يُهزمْ، وسيفا لا يُثلمْ، وتاريخا بالخلود يتكلم، ثم هاجر النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وجعلها عاصمةَ الإسلام، ونواةَ مجتمعه المُتمدِّن المُتحضِّر، فأرسى دعائمَها، وشيدَّ بنائَها، وأحكمَ نظامَها، أخى بين أهلِها، وجمعهُم على التقوى والهُدى، شرّع لهم الشرائع، وألزمهم بالحقوق، ووضحَ الأداب، وأقامَ الحدود، وسنّ التعاملات في البيع والشراء، والسلم والحرب، حتى عزّ الدين
وأظهره الله على العالمين، ودخل الناس فيه طائعين وراغبين "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون".

الحمد لله على إحسانه...
عباد الله:

إن في الهجرة دروساً لا تُنسى، وما آثرَ لا تُطوى، ما أحوجنا في هذه الأزمنة الى تذكُرِها، وأخذِ العظة والعبرة منها، ليتحققَ لأمتنا عزُّها ونصرُها، ولتتبؤَ المكانةَ اللائقة بها، ولتجدَ حلا لمُشكلاتها، وصلاحا لما فسَدَ من أحوالها، فما تعرض لها المسلمون الأوائل قبل الهجرة من أصناف التعذيب، وألوان الإبتلاء، والمساومة على الدين، والضغوطات المختلفة، والأساليب الملتوية، لصدهم عن دينهم، وتشكيكهم في عقيدتهم، هو أعظمُ سلوان، وأكبرُ تسلية لما يعانيه المسلمون اليوم من ظلم وقتل وعدوان، وامتحان في الدين، وتضييق على عباد الله المتقين، صبر رعيلُنا الأول على
البلاء، وتحملوا الأواء، وثبتوا على الحق، وقاوموا الاغراءات، وتجاوزا الضغوطات، ففروا بدينهم، وتركوا أرضهم، وزَهِدوا في أموالهم، رغبةً فيما عند الله، وإعزازا للشرع، وإيثارا للحق، واعتزازا بالدين، وتضحية من أجله بالغالي والثمين، خرجوا من أرضهم التي أحبوها وألفوها، وتركوا أموالهم التي جمعوها وحصلوها، وفارقوا أهلهم وقرابتهم، وتحملوا الغربة لإظهار عقيدتهم، والدعوة إلى دينهم، لنسير على دربهم، ونترسم طريقهم، ونضحي كتضحيتهم، ونصبر كصبرهم، فالدين هو رأس المال، وكل كسر يُجبر الا الدين، فكسره خسران عظيم!!! فالثبات الثبات، مهما كانت المتغيرات، دينُكُم لحمُكُم ودمكُم!! فالزموه وان اشتدت الفتن، وكثرت المحن، لا تغتروا بصولة الباطل، وزمجرة أهله، فما هو ألا متاع قليل "لا يغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كفروا في البلاد. متاعٌ قليلٌ ثم مأواهمْ جهنّمُ وبئس المِهاد".
الهجرة تُعبر عن شخصية الأمة واستقلالها، فشهر الله المحرم أول شهور السنة الهجرية، هدى الله عز وجل إليها أمير المؤمنين المُحَدَّث عمر بن الخطاب وإخوانه من الصحابة، رضوان الله عليهم، حين تشاوروا في وضع تاريخ يبدأ منه حساب المسلمين، فتفقوا على حدث الهجرة، لأنه الحدث الذي قامت به دولة الإسلام، وصارت به للمسلمين دار، ونشأ لهم به كيان، فجرى عليه عملهم، وتعاملوا به في كتبهم ومكاتباتهم، ومواعيدهم وآجال حقوقهم وديونهم، إنه تاريخٌ في ذاكرة كل مسلم، عند إشراقة شمس كل يوم، وإطلالة كل شهر، وحلول كل عام. ظل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، يؤرخون به أحداثهم، ويسجلون به وقائعهم، ويكتبون به مكاتباتهم، ويثبتون به مواعيدهم، ويقدِّرون به أعمارهم، بل تقوم جملةٌ من الأحكام على هذا التاريخ المجيد.
لقد صار هذا التاريخ مترسخاً في نفوس كل المسلمين، عامتهم وعلمائهم، منذ الطفولة المميزة وحتى الشيخوخة المتأخرة، فهو مرتبط بهم ارتباط الأحكام بمواقيتها: في الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وفي جزئيات الأحكام: في العيدين، وأيام البيض، وستٍ من شوال، وعشرٍ من ذي الحجة، وأيام التشريق، وعاشوراء، في أحكامٍ وأيام لا تقع تحت حصر، يضاف إلى ذلك أيام الإسلام المجيدة المرتبطة بأحداث التاريخ، من مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرته، وأيامه، ثم فتوحات الإسلام من بعده في القادسية ، واليرموك ، وفتح الأندلس ، وحطين ، والقسطنطينية ، وكل انتصارات المسلمين، وتاريخ أئمة الإسلام وأعلام الأمة.
لكن المؤسف حقا، والغريب فعلا، أن ينسى كثير من المسلمين تاريخهم، ويسعوا في التشبه بعدوهم، فيُأرخون بتاريخ من طمس دينهم، وألغى تاريخهم، وامتهن موروثاتهم، مع علمهم أن دينهم يُربي أتباعه على التميز في كل شيء، والاعتزاز بالدين، ومخالفة أهل الضلال في شعائرهم الدينية، وعاداتهم القبيحة "إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُسَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ".
المرفقات

وقفة مع نهاية عام .... ودروس من الهجرة.doc

وقفة مع نهاية عام .... ودروس من الهجرة.doc

المشاهدات 2107 | التعليقات 0