وقفة مع النفس

محمد مرسى
1436/01/27 - 2014/11/20 05:05AM
الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما، وقهر كل مخلوق عزة وحكما، أحمده على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأصلى وأسلم على رسوله المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وعلى من اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، وبعد :
فان هذه البصيرة تدعوك لأن تقف مع نفسك موقف المحاسب المذكر، فمن حاسب نفسه في الدنيا خف في يوم المعاد حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه دامت في ذلك اليوم حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، ورحم الله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب القائل : "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا" والصنف الذي يديم الحساب لنفسه هو الصنف الذي يوصف برجاحة العقل، كما يوصف بالقوة والحزم، والذي تغلبه نفسه، ويسيطر عليه هواه، هو العاجز الذي فقد القوة والعزم، وفي ذلك يقول المصطفى المختار صلوات الله وسلامه عليه : "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني". والكيس: العاقل، ودان نفسه: أي حاسبها.
ونحن ندعوك لتقف مع نفسك وقفتين: وقفة تحاسبها عما وقع وانقفى، ووقفة تبصرها بالمقبل الآتي. قف مع نفسك بين الفينة والأخرى ناظراً في أمسك الغابر، وتفكَّر فيما أودعته بياض نهارك من قول أو عمل، وما تضمنه سواد ليلك من صمت أو فكر، وانظر إلى ما قدمته يداك، وما تحرك به لسانك، وما وقع عليه طرفك، وما استمعت إليه أذناك، وما مشت إليه قدماك، فإنك مسئول عن ذلك كله: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}(سورة الإسراء: 36). وانظر في الحقوق التي كلفك الله القيام بها، فكانت عندك أمانة، هل أديتها كما طلب منك أم أنك ضيعتها، وغلبك طبعك الظلوم الجهول؟. وأول هذه الحقوق التي يجب أن تنظر فيها حق سيدك وإلهك ومولاك، رب العباد، فقد أمرك بأداء حقه بقوله : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}(سورة آل عمران: 102). وحقه تبارك وتعالى أن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يعبد وحده لا شريك له.
وكيف أنت في أيامك الغابرة من هذه التيارات التي تتصارع في عالم البشر؟ هل كنت قشة يتلاعب بها التيار؟ أم كنت صخرة تتحطم عليها الأمواج؟ أكان همك من دنياك لقمة تأكلها وشربة تشربها، ولباسا تلبسه؟ أم كنت صاحب دعوة ورسالة تريد أن تقيم حياتك وفقها، وتريد إبلاغها للعالمين، ثم تريدها إطارا يحكم الحياة ويهيمن عليها؟. وكيف أنت في أيامك الغابرة من هذه التيارات التي تتصارع في عالم البشر؟ هل كنت قشة يتلاعب بها التيار؟ أم كنت صخرة تتحطم عليها الأمواج؟ أكان همك من دنياك لقمة تأكلها وشربة تشربها، ولباسا تلبسه؟ أم كنت صاحب دعوة ورسالة تريد أن تقيم حياتك وفقها، وتريد إبلاغها للعالمين، ثم تريدها إطارا يحكم الحياة ويهيمن عليها؟.
ما الذي آلمك في أيامك الماضية؟ منصب لم تستطيع تحصيله؟ ودنيا لم تستطيع اجتيازها؟ أم أن دعوة الله هي التي تسيطر على كل خلجة في نفسك، فإذا علا منارها وارتفع لواؤها خفق القلب فرحا، وتهادت النفس سرورا، وإذا أصابتها العواصف والأنواء دمعت العين، وحزنت النفس، وجأر اللسان يشكو إلى رب العباد ظلم العباد؟.
هل كنت في الماضي زارعا تغرس بكلماتك الفضائل؟ وتنشر العطر بأفعالك؟ أم كنت تغرس الشر والأذى؟ أم كنت لا في العير ولا في النفير؟.
أسئلة كثيرة يمكن أن توجهها إلى نفسك، تحاسبها عما مضى وانقضى، وتدرك بذلك صواب المسار وصدقه، ثم يأتي التقويم وفق ميزان الشريعة الإلهية.
والوقفة الثانية التي نريدك أن تأخذ نفسك بها هي وقوفك مع نفسك في الأوقات الآتية التي تمثل عمرك الباقي، وساعاتك القادمة، فإن الماضي لا حيلة لك في إرجاعه، وإن كنت تستطيع أن تصلح ما فسد منه بالتوبة والإنابة والاستغفار، أما الأتي فإنك تملكه، وتستطيع بالعزيمة القوية والهمة العالية أن تستقيم على أمر الله، وتكون كما يريد الله، ولذا فإنه يتوجب عليك أن تستغل الفرصة فقد يكون اليوم الذي تحياه هو يومك الأخير، وقد تكون ساعتك التي أنت فيها هي الساعة الأخيرة، وكلنا يعلم أن له يوما هو اليوم الأخير، وساعة هي الساعة الأخيرة، فما يدريك متى تحين؟! إننا ندعوك لأن تعمل في يومك عمل من أيقن أن شمسه آذنت بالمغيب، فهو يودع دار الفناء، ويستقبل دار البقاء.
قد تقول لي: إن لي نفسا شرودا جموحا، كلما حاولت أن ألجمها بلجام التقوى، وآخذها بالعمل المرتضى دافعتني، وذهبت مني كل مذهب، فلا تنقاد إلي، ولا تستكين إلى الحق، فكيف حيلتي مع هذه النفس الحرون، وكيف أداوي أدواءها، وكيف ألزمها الصراط المستقيم ؟!
والجواب أن النفس كالطفل الرضيع إن لم تفطمه عن ثدي أمه شب وهو يلتقم الثدي وإن فطمته انفطم.
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
ونفوسنا تحتاج إلى ترويض كي تستقيم على طاعة الله، وتتخلص من أدوائها كالظلم والجهل والعجلة، فقد وصف الله الإنسان بأنه ظلوم جهول عجول {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا}(سورة الأحزاب: 72). {وكان الإنسان عجولا}(سورة الإسراء: 11).
ومفتاح النفس الإنسانية الذي تقوم به وتتهذب جاء به الإسلام، فإذا هديت إليه انقادت نفسك واستقام أمرك.
إن هذه النفوس إذا عرفت خالقها ومولاها ومعبودها ووقفت بين يديه، والتفتت إليه وشغلت به صفا معدنها، وتألق نورها، وهديت إلى صراط مستقيم.
أدم تذكير نفسك بالله، وتوجه إليه كأنك تنظر إليه، فإن لم تستطع أن تبلغ هذا المستوى-فاعبده على أنه يراك، وهذه هي رتبة الإحسان، وتتحقق هذه الرتبة العالية كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم بأن : (تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
ذكر نفسك بأن ربك وإلهك وسيدك مطلع عليك دائما، أحاط علمه بكل شيء، وقد حدثنا الحق عن علمه الواسع الشامل فقال: {ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}(سورة الأنعام: 59).
وحدثنا ربنا عن إحاطة علمه بنا، في أعمالنا البادية، وأسرارنا الخافية فقال: {قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله}(سورة آل عمران: 29). {وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم}(سورة الأنعام: 3). {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرأن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه}(سورة يونس: 61).
فإذا أيقنت النفوس بأن الله بها عليم، وعليها رقيب، فإنها تحسن العمل وتتجافى عن الخمول والكسل، وما أحسن قول القائل:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحــسـبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخـفيه عنه يغيب
ألـم تـر أن اليوم أسرع ذاهب وأن غدا للناظــرين قريب
وذكر النفس الشرود الجموح بنعمة الله عليك، خلقك خلقا سوياً، وأكرمك بالعقل، ووهبك الحواس، وإذا أنت نظرت في هذا الكون الواسع تتأمل وتتفكر فإن القلب يخشع، والنفس تأنس بالله وهي ترى نعمه التي لا تعد ولا تحصى تحيط بها من كل جانب، تفكر في الشمس وأشعتها، والقمر وضيائه، والنجوم وتلألئها، والبحر وما حوى، والأنهار وما ضمت، والماء النازل من السماء والخيرات التي تنبتها الأرض، وما سخر الله لك من الأنعام.. كل ذلك يأسر النفس ويدفعها إلى أن تفر من عذاب الله إلى رحمة الله.
وذكر نفسك بحقيقة الدنيا التي تهفو النفوس إليها وتقبل عليها، ذكرها بأن أيامها زائلة، وزهرتها ذاوية، وزينتها فانية، ومسراتها لا تدوم، وهي مع كل هذا متاع قليل وعارية مسترجعة، وذكرها بالنعيم المقيم في دار البقاء، التي لا يفنى أهلها، ولا يذوي منهم الشباب، ولا تذهب المسرات {أكلها دائم وظلها}(الرعد: 35). من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويسعد ولا يشقى.
فإن كان القلب أقسى مما تظن، وأبت النفس أن تلين، فوبخها توبيخ السيد عبده الآبق، وقل لها: ويحك يا نفس، إن كانت جرأتك على معصية الله الاعتقاد أن الله لا يراك، فما أعظم كفرك، وإن كان مع علمك باطلاعه عليك، فما أشد وقاحتك، وأقل حياءك.
ويحك يا نفس، لو واجهك عبد من عبيدك بل أخ من إخوانك بما تكرهين، كيف كان غضبك عليه ومقتك له، فبأي جسارة تتعرضين لمقت الله وغضبه وشديد عقابه، أفتظنين أنك تطيقين عذابه: هيهات هيهات أنت أعجز من أن تطيقي نار الدنيا وعذابها، فكم أضناك حر الشمس في نهار الصيف، وكم هزك زمهرير الشتاء، وكم أطار صوابك مس حديدة محماة.
فإن أبت إلا عنادا، ولجت في الخصومة والرعونة، فذكرها بالموت وسكراته، والقبر وآفاته وفتنته، وكيف يكون روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وذكرها باليوم الذي يفنى فيه الكون، ويخسف فيه شمسه، ويكسف قمره، وينفرط عقد نجومه، وتدك فيه الأرض والجبال، ثم ذكرها بالبعث والنشور عندما يقوم الناس لرب العالمين، حيث يحشر الناس حفاة عراة غرلا بُـهما، يجمع الله الأولين والآخرين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، واعرض عليها شيئا من أهوال ذلك اليوم، تلك الأهوال التي تجعل الوالدان شيبا، وتجعل الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد. {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار، مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء}(سورة إبراهيم: 43).
وذكرها بحال السعداء أصحاب الجنان الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلا}(سورة الفرقان: 24).
وفقنا الله وإياكم لأن نلجم أنفسنا بلجام التقوى، وأن نكون عباد الله المخلصين، الذين رضي عنهم وأرضاهم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله عمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المشاهدات 2065 | التعليقات 0