وقفةٌ سريعةْ - معْ آيةٍ بديعةْ - قوله تعالى- {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُ
خالد علي أبا الخيل
وقفةٌ سريعةْ - معْ آيةٍ بديعةْ - قوله تعالى- {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ ...}
التاريخ: الجمعة:10 –صفر-1440 هـ
الحمد لله، الحمد لله القائل: (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (الرحمن:1-2) وأشهد أن لا إله إلا الله الرحيم الرحمن، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد ولد عدنان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم قيام الأبدان.
أما بعد...
عباد الله: فاتقوا الله جلَّ في علاه، فمن اتقى الله وقاه، ومن اتقى الله كفاه، ومن اتقى الله حماه، ومن اتقى الله جعل الجنة مأواه.
أيها الإخوة المسلمون: قُرأننا هو طريقنا إلى جِنان ربنا، حياةٌ بلا قرآن ليست بحياة، بل هي حياة التعساء الأشقياء (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)( طه:124).
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)(الزخرف:36).
أيها الإخوة المسلمون: معنا في هذه الدقائق المعدودة واللحظات المحدودة وقفةٌ سريعة مع آيةٍ بديعة آيةٌ تقرؤونها في كل جمعة أتدرون ما هي؟ لعلكم عرفتموها، وفي أي سورةٍ هي؟ في سورة الكهف، بل هي خاتمة سورة الكهف وهي قوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)(الكهف:110).
لنا مع هذه الآية الكريمة العظيمة ثماني وقفات أسأل الله أن يجعل هذه اللحظات في ميزان الحسنات.
الوقفة الأولى: مع الرسول وهي في قوله: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(الكهف:110) أي: أنا من جنسكم آكل كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، وأعبد الله كما تعبدون، ليس لي في المُلك شركٌ ولا تدبيرٌ، ولا تصريف، إنما هو عليه الصلاة والسلام عبدٌ لا يُعبَد، ورسولٌ لا يُكذَّب، بل يُطاع ويُتَّبع صلوات الله وسلامه عليه لا يعلم الغيب، لا يجوز صرف العبادة له، لا يجوز دعاؤه، ولا سؤاله، إنما هو عبدٌ لا يُعبَد صلوات الله وسلامه عليه.
والوقفة الثانية: مع التوحيد في قوله سبحانه: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)(الكهف:110) فإلهنا ومعبودنا واحد الذي يستحق العبادة بحق هو واحد له دعوة الحق وإلهكم إلهٌ واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)(الإخلاص:1).
ربنا عزَّ وجلَّ هو الذي يستحق العبادة، ولا يجوز صرف العبادة لغيره سبحانه، بل خلق الخلق وأوجدهم لهذه الحكمة العظيمة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(الذاريات:56).
وأرسل الرسل لهذه الحكمة (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)( الأنبياء:25).
أيها الإخوة المسلمون: بهذا التوحيد أمرنا الله (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(البينة:5) .
الوقفة الثالثة: مع الرجاء في قوله سبحانه: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ)(الكهف:110) الرجاء عباد الله هو الطمع والأمل، الرجاء عبادةٌ عظيمة من أَجَل العبادات، وهو من العبادات القلبية، وهو أحد أركان العبادة الثلاثة: المحبة والخوف والرجاء.
فلا تصح عبادةٌ إلا بهذه الثلاثة، بأن يعبد الإنسان ربه خائفًا محبًّا، خائفًا راجيًّا، والرجاء على نوعين:
رجاءٌ محمود.
رجاءٌ مذموم.
فالرجاء المحمود: ما يصحبه العمل، ويرجو ثواب عمله بأن يصلي، ويبر بوالديه، ويصِل أرحامه، ويقرأ ويتصدَّق، فيرجو ثواب الله فيما أعد الله.
والرجاء المذموم هو: التمني الباطل وهو سوء الظن بالله، فلا يصحبه عمل؛ ولهذا الفرق بين الرجاء والتمني، الرجاء مع العمل، والتمني مع الكسل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ما رجا أحدٌ مخلوقًا أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه.
إذَا انْقَطَعَتْ أَطْمَاعُ عَبْدٍ عَنْ الْوَرَى |
|
تَعَلَّقَ بِالرَّبِّ الْكَرِيمِ رَجَاؤُهُ |
فَأَصْبَحَ حُرًّا عِزَّةً وَقَنَاعَةً |
|
عَلَى وَجْهِهِ أَنْوَارُهُ وَضِيَاؤُهُ |
وَإِنْ عَلِقَتْ بِالْعبد أَطْمَاعُ نَفْسِهِ |
|
تَبَاعَدَ مَا يَرْجُو وَطَالَ عَنَاؤُهُ
|
فَلَا تَرْجُ إلَّا اللَّهَ لِلْخَطْبِ وَحْدَهُ |
|
وَلَوْ صَحَّ فِي خِلِّ الصَّفَاءِ صَفَاؤُهُ |
الرجاء –عباد الله- هو الذي يصحبه العمل، وهو حسن الظن بالله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ)(البقرة:218).
أما أن يصل العبد الذنوب وراء الذنوب وهو يرجو علام الغيوب فإن هذا رجاءٌ مذموم.
تَصِلُ الذُّنُوبَ إِلَى الذُّنُوبِ وَتَرْتَجِي |
|
دَرَكَ الْجِنَانِ بِهَا وَفَوْزَ الْعَابِدِ |
أما علمت أن آدم أخرجَ |
|
من الجنة بذنبٍ واحدِ |
ما بالُ ثوب دِينكَ تَرضَى أَنْ تُدَنِّسَهُ |
|
وثَوب جسمك محفوظٌ من الدَّنَسِ |
تَرجُو النجاةَ ولم تَسلُكْ مسالِكَها |
|
إن السفينةَ لا تَجري على اليَبَسِ |
والوقفة الرابعة –عباد الله-: مع اللقاء (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ)(الكهف:110).
اللقاء على نوعين يوم القيامة:
لقاءٌ عام: وهو عامٌ للمسلم والكافر لكل إنسان كما قال الرحيم الرحمن: (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ)(الانشقاق:6).
ولقاءٌ خاص: لقاء أنبيائه وأوليائه وعباده الصالحين.
والوقفة الخامسة: مع العمل الصالح (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا)(الكهف:110).
والعمل الصالح –عباد الله- يشمل الأعمال الواجبة: كالصلوات المفروضة، والزكاة، والصوم، والحج، وغير ذلك، ويشمل الأعمال المستحبة فكل عملٍ صالح وهو ما اجتمع فيه الإخلاص والمتابعة فإنه عملٌ صالح داخلٌ في قوله سبحانه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)(النحل:97).
شرط قبول السعي أن يجتمع فيه إصابةٌ وإخلاصٌ معًا.
لله رب العرش لا ســــــــــواه |
|
موافق الشرع الذي ارتضاه |
والوقفة السادسة –عباد الله- مع الشرك (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)(الكهف:110).
أتدرون ما هو الشرك أيها الإخوة؟ الشرك هو: عبادة غير الله، هو: صرف العباد لغير الله، هو: دعاء غير الله، فمن سأل غير الله أو استغاث بغير الله أو ذبح لغير الله أو طلب المدد من غير الله أو نادى غير الله أو نذر لغير الله، فقد أشرك بالله (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)(الجن:18).
والشرك على نوعين –أيها الإخوة-:
شركٌ أكبر مُخرجٌ من الملة.
وشركٌ أصغر.
فالشرك الأكبر: ما أوجب الخلود في النار، حبوط العمل، وفساد العمل، كما قال الله عزَّ وجلَّ لنبيه -وحاشا نبيه أن يشرك-: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)(الزمر:65).
(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)( الفرقان:23).
والنوع الثاني: الرياء كالحلف بغير الله دون التعظيم.
وكذلك أيضًا الرياء اليسير.
والشركُ نوعانِ فشركٌ أكبرُ |
|
به خلودُ النارِ إذ لا يُغفَرُ |
وهْوَ اتخاذُ العبـدِ غيرَ اللهِ |
|
نِدًّا به مُسوِّيًا مُضـاهي |
يَقصِدُه عند نزولِ الضُّـرِّ |
|
لجلبِ خيرٍ أو لدفعِ الضُّـرِّ |
والثانِ شِركٌ أصغرٌ وهو الرِّيَا |
|
كما فسَّره به خِتامُ الأولياء |
ومِنه إقسامٌ بغيرِ الـباري |
|
كما أتى في مُحكمِ الأخبارِ |
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على فضله ونواله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده سبحانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
والوقفة السابعة مع هذه الآية الكريمة: مع الإخلاص (وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)(الكهف:110).
الإخلاص به قوام الأعمال، عملٌ بلا إخلاص لا يُقبل، عملٌ بلا إخلاص لا يُثمِر، عملٌ بلا إخلاص ليس بشيء، وكما قال ابن القيم $: العمل بدون إخلاص كالذي يحمل التراب على رأسه يضره ولا ينفعه.
ولهذا –عباد الله- ألا لله الدين الخالص؟ فاعبد الله مخلصًا له الدين، والإخلاص هو إرادة وجه الله وحده سبحانه لا ثناء ولا رياء ولا مدح ولا غير ذلك.
وحقيقة الإخلاص توحيد المراد فلا يُزاحمه مرادٌ ثاني.
الإخلاص –عباد الله- هو: حب الله، وإرادة وجهه، ولهذا ليست العبرة بكثرة العمل، إنما العبرة بصلاح العمل (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)(الملك:2) ولم يقل: ليبلوكم أيكم أكثر عملًا.
لهذا يقول ابن المبارك مقالته الخالدة العظيمة: رُبَّ عملٍ صغيرٍ كبرته النية، ورُبَّ عملٍ كبيرٍ صغَّرته النية.
فلهذا عليكم بإخلاص أعمالكم لربكم سبحانه وبحمده.
والوقفة الثامنة –أيها الأحبة-: أن هذه الآية الجامعة جمعت بين الإخلاص والمتابعة؛ ولهذا هذه الآية هي أحد الأدلة التي اجتمع فيها الإخلاص والمتابعة، قال عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا)(الكهف:110) هذا دليل المتابعة.
وقوله: (وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)(الكهف:110) هذا دليل الإخلاص، والإخلاص والمتابعة شرطٌ في كل عبادة.
وهذا كما في قوله سبحانه: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)(البقرة:112) وهذا الإخلاص (وَهُوَ مُحْسِنٌ) (البقرة:112) وهذه المتابعة.
ولهذا –عباد الله- إذا اختلف أو افتقد العمل هذين الشرطين أو أحدهما فإن العمل لا يُقبَل، ميزان الأعمال الباطنة: (إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) وميزان الأعمال الظاهرة: (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً ليسَ عليه أمرُنا هذا فهو رَدٌّ).
ومن دعاء عمر ﭬ اللهم اجعل عملي كله صالحًا، ولوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحدٍ فيه شيئًا.