وقفات وتأملات حول فصل الشتاء

أ.د عبدالله الطيار
1439/04/14 - 2018/01/01 09:19AM

وقفات وتأملات حول فصل الشتاء

الخطبة الأولى

الحمد لله رب العالمين، مدبر الأكوان، ورافع السموات وباسط الأرض، جعل الليل والنهار آيتين لينتبه الغافل، ويعود المعرض إلى ربه، ويزيد المؤمن يقيناً وإيماناً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي جعل فصول السنة لحكمٍ بالغة ليتذكر أولوا الأبصار والأفهام، ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله قدوة الأنام، والهادي إلى طريق الرحمن، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن تقلب الأزمان عبرة لنا، ليتزود المسلم من طاعة ربه، ويزداد المعرض غفلة ونسياناً، قال تعالى[يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً](الأحزاب).

عباد الله: إن المتأمل في تقلب فصول العام يرى عظيم صنع الله، وحكمته وتدبيره، ويرى فضله على عباده، وفي هذا الفصل (فصل الشتاء) الذي نعيشه ونستشعره بيننا يدل دلالة عظيمة على عظيم قدرة الله تعالى وحكمته، وفي هذا الفصل الذي دائماً ننتظر أيامه لما فيها من الخير والبركة، وطول الليل وقصر النهار، يجد فيه العبر والآيات من برد ومطر وصواعق ورعد وبرق لتتعلق قلوب العباد بالرب الواحد الأحد المتصرف في شؤون الكون بعلمه وحكمته. وتأملوا معي عباد الله هذه الحكمة البالغة في الحر والبرد، وقيام الحيوان والنبات عليهما، وتفكروا في دخول أحدهما على الآخر بالتدريج والمهلة حتى يبلغ نهايته، ولو دخل علينا مفاجأة لأضر ذلك بالأبدان والنبات والحيوان فأهلكها، ولولا لطف الله وحكمته ورحمته وبره وإحسانه لما كان ذلك، فنحمد الله تعالى على جزيل فضله، ونسأله أن يوزعنا شكر نعمه إنه قريب مجيب.

عباد الله: تعالوا بنا لنقف مع فصل الشتاء وقفات تأمل وتفكر عسى الله أن ينفعنا بها.

الوقفة الأولى: الشتاء وعمر الإنسان: لقد أدركنا هذا العام فصل الشتاء، ولم يدركه غيرنا ممن رحلوا عن الدنيا، وما مر من أيام أعمارنا سيكون شاهداً لنا أو علينا، والمؤمن يقف دائماً مع نفسه وقفة محاسبة، ويقول لها: (هل قدمتِ الزاد ليوم المعاد قبل أن يأتيكِ الموت فتتحسرين على ما فرطتِ في جنبِ الله) فالإنسان في هذه الحياة مشغول بالأموال، والزوجات، والأولاد، وغير ذلك من أمور الدنيا، وإذا راجع نفسه وجد أنه يغفل عن زاد نفسه الذي ينفعه عندما يلقى ربه، فتصرم الأيام وتعاقب الفصول والأعوام تذكرة لنا لنراجع أوراقنا مع أنفسنا ونجتهد في بذل الجهد من أجل الوصول إلى مرضات ربنا، ففي ذلك الفوز العظيم لنا.

الوقفة الثانية: سلامة العقيدة في الشتاء: فالمسلم الحق سليم القلب إذا رأى المطر نازلاً أرجع الفضل إلى ربه وقال كما قال نبيه محمد صلى الله عليه (مُطرنا بفضل الله ورحمته)، ففي ذلك دلالة على سلامة القلب من الشرك، ومن وقع في ذلك بجهل فعليه بالتوبة والاستغفار وإرجاع الفضل لله الواحد القهار.

الوقفة الثالثة: من آيات الله تعالى في الشتاء: فمن آيات الله تعالى في هذا الفصل:

أولاً: المطر والبرد: لقد ذكر الله جل وعلا بعض الآيات الدالة على قدرته في كتابه العزيز في كثير من سور القرآن، ومن ذلك قوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ](الشورى)، وقال تعالى [وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ](الأعراف) فالمطر آية تحتاج إلى تفكر وتأمل، فهذا المطر الذي ينزل كيف يصل إلينا؟ وكيف يُحمل، ومن الذي يحمله، ومتى ينزل؟ فالمؤمن هو الذي يرجع الأمر إلى ربه، ويعلم أنه مسخر بقدرته، وأنه غيث يحتاج إليه العباد والبلاد، فلا حياة بدون هذا الماء النازل من السماء، قال تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ](الأنبياء)، فهل يستطيع الناس العيش بدون ماء؟ هل الأموال، والعقارات، والأراضي، والسيارات، والطائرات، وغير ذلك مما يمتلكه الإنسان هل يعوضه عن هذا الماء؟ لا والله، فلابد أن نتدبر هذا الأمر، وأن نشكر هذه النعمة العظيمة، ونسأله سبحانه المزيد منها ليعم الخير والبركة على الناس والبهائم والمزروعات.

وأما البرد فهو أيضاً آية عظيمة تحتاج إلى وقفة معها، فنحن بفضل من الله ربما لا نشعر بهذا البرد لوجود الأسباب الجالبة للدفء من مكيفات، ودفايات، وبطانيات، وغيرها من الإمكانات التي سخرها الله لنا، وأنتم رأيتم وشعرتم بقسوة البرد وشدته علينا في هذا العام، فدرجات الحرارة نزلت عن وضعها الطبيعي كما مر معنا في الأيام الماضية حتى وصلت درجة الحرارة تحت الصفر، فهل تفكرنا في نعم الله علينا، وشكرناها وأدينا حق المنعم ببذل المعروف لإخواننا الذين يلتحفون السماء، ويفترشون الأرض، هل تذكرنا إخواننا المسلمين من حولنا وهم محتاجون إلى الدفء والغطاء؟ وبذلنا لهم المستطاع مما أنعم الله به علينا حتى يحفظ الله علينا نعمه، ويديمها علينا بفضله وكرمه.

عباد الله: وهذا البرد يذكرنا أيضاً بزمهرير جهنم، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يارب أكل بعضي بعضاً فجعل لها نفسين؛ نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها)(رواه البخاري ومسلم)، فلابد أن نتذكر شدة هذا الزمهرير بالبرد القارس في الدنيا الذي لم نتحمله برغم إمكاناتنا المادية، فكيف السبيل لزمهرير جهنم ونحن حفاة عراة لا يحجنا شيء عنه ـ أعاذنا الله وإياكم منه ـ.

ومن الآيات أيضاً: هذه الصواعق: والتي يسمعها الناس بآذانهم ويرونها بأم أعينهم، قال تعالى [وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ] (الرعد)، وقد جاء في سبب نزولها أن رجلاً من عظماء الجاهلية جادل في الله تعالى، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم (إيش ربك الذي تدعوني إليه؟ من حديد هو؟ من نحاس هو؟ من فضة هو؟ من ذهب هو؟ فأرسل الله عليه صاعقة فذهبت بقحف رأسه وأحرقته).

ومن الآيات أيضاً: الرعد والبرق: فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقبلت يهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله، قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر، قالوا: صدقت)(صححه الألباني في السلسلة الصحيحة 1872).

الوقفة الرابعة: لقد كان السلف رحمهم الله يفرحون بالشتاء فرحاً عظيماً لما فيه من قصر النهار للصيام، وطول الليل للقيام، فهذا عمر الفاروق رضي الله عنه يقول (الشتاء غنيمة العابدين)، وقال الحسن رحمه الله (نعم زمان المؤمن الشتاء، ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه) فعلينا أن نستغل ما بقى من هذا الفصل المبارك في كثرة الصيام وطول القيام وسائر الطاعات عسى الله أن يمدنا بعونه وفضله.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ](النور).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله الكريم المنان ذي الفضل والإحسان، والصلاة والسلام على نبينا وقدوتنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بما أراكم الله من الآيات العظام.

عباد الله: وإن مما أثلج صدرونا وأفرح قلوبنا ما قام به خادم الحرمين الشريفين ــ أعزه الله بطاعته ونصر به دينه وأعلى به كلمته وحفظه من كل سوء ومكروه ــ من صرف إعانة الشتاء لجميع المحتاجين من أبناء هذا الوطن، فقد أمر حفظه الله بصرف مبالغ طائلة لشراء هذه الإعانة وإيصالها إلى المحتاجين في كل مكان  من هذا البلد الكبير المترامي الأطراف، فنسأل الله تعالى أن يتقبل منه، وأن يجعله ذخراً له ولوالديه، وأن يدفع عنه وعن بلاده وشعبه كل شر.

عباد الله: وإن مما ينبغي التنبيه عليه هنا بعض الأحكام الهامة التي تخص فصل الشتاء لكي نعمل بها على بصيرة وعلم، ومن ذلك:

أولاً: يكثر في فصل الشتاء الوحل والطين فتصاب الثياب به وهنا لا يجب غسل ما أصاب الثوب من الطين لأن الأصل فيه الطهارة.

ثانياً: يكثر في فصل الشتاء ليس الجوارب والخفاف ومن رحمة الله تعالى على عباده أن أجاز المسح عليها إذا لُبسا على طهارة وسترا محل الفرض للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن.

ثالثاً: يجوز الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما وهو سُنَّة إذا وجد سببه وهي المشقة في الشتاء، من مطر أو وحل أو ريح شديدة باردة، وما فعله بعض الناس من الجمع في الأيام الماضية بسبب شدة البرد دون وجود المطر أو الريح الشديدة الباردة فهو خلاف السنة وعليهم الإعادة.

وقد سُئل فضيلة شيخنا الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله السؤال التالي: (لاحظنا كثرة الجمع في الأيام الماضية وتساهل الناس فيه، فهل ترون مثل هذا البرد مبرراً للجمع أثابكم الله؟؟ فقال رحمه الله: (لا يحل تساهل الناس في الجمع؛ لأن الله تعالى قال:[ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً](النساء)، وقال تعالى [أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً](الإسراء). فإذا كانت الصلاة مفروضة موقوتة فإن الواجب أداء الفرض في وقته المحدد له، المجمل في قوله تعالى [أقم الصلاة لدلوك الشمس] إلى آخرها، وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مفصلا فقال (وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر وقت العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت المغرب ما لم يغيب الشفق، ووقت العشاء إلى نصف الليل)(رواه مسلم).

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حدد الأوقات تحديداً مفصلاً فإن إيقاع الصلاة في غير وقتها من تعدي حدود الله [وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ](البقرة)، فمن صلى الصلاة قبل وقتها عالماً فليس بآثم لكن عليه الإعادة، وهذا حاصل بجمع التقديم بلا سبب شرعي فإن الصلاة المقدمة لا تصح وعليه إعادتها

ومن أخر الصلاة عن وقتها عالماً عامداً بلا عذر  فهو آثم ولا تقبل صلاته على القول الراجح، وهذا حاصل بجمع التأخير بلا سبب شرعي، فإن الصلاة المؤخرة لا تقبل على القول الراجح، فعلى المسلم أن يتقي الله تعالى وألا يتساهل في هذا الأمر العظيم الخطير.

وأما ما ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا مطر) فلا دليل فيه على التساهل في هذا الأمر، لأن ابن عباس سئل: ماذا أراد إلى ذلك؟

يعني النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته)(رواه مسلم).

وهذا دليل على أن السبب المبيح لجمع هو الحرج في أداء كل صلاة في وقتها، فإذا لحق المسلم حرج في أداء كل صلاة في وقتها جاز له الجمع أو سن له ذلك، وإن لم يكن عليه حرج وجب عليه أن يصلي كل صلاة في وقتها.

وبناء على ذلك فإن مجرد البرد لا يبيح الجمع إلا أن يكون مصحوباً بهواء يتأذى به الناس عند خروجهم إلى المساجد، أو مصحوباً بنزول ثلج يتأذى به الناس.

فنصيحتي لإخواني المسلمين ولاسيما الأئمة أن يتقوا الله تعالى في هذه الفريضة على الوجه الذي يرضاه) انتهى كلامه رحمه الله.

أسأل الله الكريم بمنه وفضله أن يفقهنا في دينا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة محمد بن عبد الله فقد أمركم الله في كتابه بذلك فقال جل في علاه {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب).

المشاهدات 2564 | التعليقات 0