وقفات مع قصة كعب بن مالك
منديل الفقيه
1434/05/26 - 2013/04/07 19:19PM
وقفات مع قصة كعب بن مالك
الخطبة الأولى
أيها المسلمون: إن في الكتب لخبرا وإن في السير لعبرا قصة من قصص المصطفى وموقف صدق من مواقف الصحب الكرام البررة قلم الكاتب ولسان الخطيب مهما أوتيا من براعة أو حاولا من بلاغة عاجزان عن وصف تلك الحادثة في محنتها وابتلاءاتها وفي صدق رجالها وقوة إيمان أصحابها ففي القصة ابتلاء هجر الأقربين وابتلاء تزلف المعادين والمناوئين ، قصة كلها عبر وعبرات ، إن مواقف الصدق والصبر في صحب محمد صلى الله عليه وسلم مثال في المتانة في البناء ، والصفاء في العنصر ، وأنموذج في صدق اللهجة ، والإخلاص في الطاعة والقدوة في الصبر على البلاء ، والشكر عند النعمة والسراء ، إنها قصة جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الجيل المتميز رضي الله عنهم الذين كانوا يتلقون الوحي للعمل والتطبيق فقد كانوا لا يبطئون ولا يتأخرون ولا يقعدون عن فعل ما أمروا به أو ترك ما نهوا عنه وإنما كانوا كما وصف الله " چإِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ چ سمعنا وأطعنا مهما كان الأمر ثقيلا ، سمعنا وأطعنا مهما كان الذي نهوا عنه مألوفا محبوبا لأنهم علموا أنه ليست لهم الخيرة فيما يقضيه الله تعالى ويأمر به فأمر الله وقضاؤه واجب التنفيذ ولا يقبل النظر فيه وليس محلا للاستفتاء عليه أينفذ أم لا ، إن أمر الله قضاء محكم واجب على كل مسلم أن يطبق كل ما جاء عن الله ورسوله وإلا كان العصيان والضلال چ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا چ .
أيها المسلمون : إننا حين نتحدث عن عالم الصحابة لا نتحدث عن عالم الخيال ولا نتحدث عن عالم المثال ولا نتحدث عن شيء لا يمكن وقوعه ولا ندعو إلى شيء يصعب على النفس أن تقوم به وإنما نتحدث عن عالم وجد وشهده التاريخ وحقيقة واقعية تتنقل على وجه الأرض ، ولكن الفرق بيننا وبينهم أنهم تربوا على سمعنا وأطعنا ونحن تربينا على سمعنا وعصينا إلا من رحم الله منا ، لقد غرس في نفس الكثير منا أنه ليس في الإمكان أبداً مما كان ، أين نحن من الصحابة ؟ لقد عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا غير منشغلين بالدنيا إلى غير ذلك من الأعذار الواهية المرفوضة التي لا يقام لها وزن عند الله . أيها المسلمون : إن قصتنا اليوم قصة مؤثرة إنها قصة الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك فضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ، آيات وأحداث تذرف منها الدموع وتخشع لها القلوب كان الإمام أحمد رحمه الله لا تبكيه آيات من القرآن كما تبكيه آياتها وسماع أحداثها في حديث كعب رضي الله عنه .
أيها المسلمون : استنفر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين لملاقاة بني الأصفر حين بلغه إعدادهم للعدوان على المسلمين ، إنها دولة الروم إحدى أعظم دولتين في زمنها حين أحست بعلو شأن الإسلام في الجزيرة لما فتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجا ، استنفر النبي المسلمين فكان التهيؤ في أيام قائظة وظروف قاسية ، في جهد مضن ونفقات باهظة ، إنها غزوة العسرة التي استغرق وصفها في كتاب الله آيات طوال في أنباء الطائعين والمثبطين ، والمخلصين والقاعدين ، يجيء المعذِّرون ليؤذن لهم ويتولى البكاؤون بفيض دموعهم حزنا ألا يجدوا ما ينفقون .
أيها المسلمون : اسمعوا إلى الوصف الدقيق لقصة الخطيئة والتوبة من كعب بن مالك أحد المخلفين الثلاثة رضي الله عنهم وهو يحكي قصة الندم والتوبة فيقول " وَكَانَ مِنْ خَبَرِى حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنِّى لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّى حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِى تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُ قَبْلَهَا رَاحِلَتَيْنِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِى تِلْكَ الْغَزْوَةِ فَغَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى حَرٍّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَاسْتَقْبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا فَجَلاَ لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِمُ الَّذِى يُرِيدُ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَثِيرٌ وَلاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابُ حَافِظٍ - يُرِيدُ بِذَلِكَ الدِّيوَانَ - قَالَ كَعْبٌ فَقَلَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْىٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلاَلُ فَأَنَا إِلَيْهَا أَصْعَرُ فَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَىْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا. وَأَقُولُ فِى نَفْسِى أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَرَدْتُ. فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِى حَتَّى اسْتَمَرَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- غَادِيًا وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِى شَيْئًا ثُمَّ غَدَوْتُ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِى حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ فَيَا لَيْتَنِى فَعَلْتُ " ويأخذ الندم من كعب مأخذه وتبلغ المحاسبة مبلغها فتراه يقول " فَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ بِمَ أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ كُلَّ ذِى رَأْىٍ مِنْ أَهْلِى فَلَمَّا قِيلَ لِى إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّى الْبَاطِلُ حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّى لَنْ أَنْجُوَ مِنْهُ بِشَىْءٍ أَبَدًا فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ وَصَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَادِمًا وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلاً فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلاَنِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ حَتَّى جِئْتُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ « تَعَالَ ». فَجِئْتُ أَمْشِى حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِى « مَا خَلَّفَكَ ». أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ ». قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنِّى سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً وَلَكِنِّى وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّى لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَىَّ وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَىَّ فِيهِ إِنِّى لأَرْجُو فِيهِ عُقْبَى اللَّهِ وَاللَّهِ مَا كَانَ لِى عُذْرٌ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّى حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ فَقُمْ حَتَّى يَقْضِىَ اللَّهُ فِيكَ ». فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِى سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِى فَقَالُوا لِى وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا لَقَدْ عَجَزْتَ فِى أَنْ لاَ تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَا اعْتَذَرَ بِهِ إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ فَقَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَكَ. قَالَ فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِى حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأُكَذِّبَ نَفْسِى - قَالَ - ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ هَلْ لَقِىَ هَذَا مَعِى مِنْ أَحَدٍ قَالُوا نَعَمْ لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلاَنِ قَالاَ مِثْلَ مَا قُلْتَ فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ - قَالَ - قُلْتُ مَنْ هُمَا قَالُوا مُرَارَةُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَامِرِىُّ وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِىُّ - قَالَ - فَذَكَرُوا لِى رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شِهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أُسْوَةٌ - قَالَ - فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِى. قَالَ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ - قَالَ - فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ - وَقَالَ - تَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِى فِى نَفْسِىَ الأَرْضُ فَمَا هِىَ بِالأَرْضِ الَّتِى أَعْرِفُ فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً فَأَمَّا صَاحِبَاىَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِى بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاَةَ وَأَطُوفُ فِى الأَسْوَاقِ وَلاَ يُكَلِّمُنِى أَحَدٌ " وطالت على كعب الجفوة وعظم الابتلاء وضاقت المسالك فقصد ابن عمه أبا قتادة وتسور حائط داره يقول كعب ابن مالك " حَتَّى إِذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَىَّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِى قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّى وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَىَّ السَّلاَمَ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَنَّ أَنِّى أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ فَسَكَتَ فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَسَكَتَ فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَفَاضَتْ عَيْنَاىَ وَتَوَلَّيْتُ " وبينما هو في محنته وبلاءه إذا بنبطي يسأل من يدل عل كعب بن مالك ؟ قال كعب " فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَىَّ حَتَّى جَاءَنِى فَدَفَعَ إِلَىَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ وَكُنْتُ كَاتِبًا فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلاَ مَضْيَعَةٍ فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ. قَالَ فَقُلْتُ حِينَ قَرَأْتُهَا وَهَذِهِ أَيْضًا مِنَ الْبَلاَءِ. فَتَيَامَمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهَا " .
أيها المسلمون : هكذا هم أعداء الإسلام وهذا ديدنهم في الماضي والحاضر يتقصون الأنباء ويصطادون في الماء العكر وكم من رجال في مثل هذه الأوحال سقط ؟ وكم من أقدام في مثل هذه الأوقات انزلقت وأما كعب بن مالك فعلم أنها من البلاء وقصد بها التنور فأحرقها وسجرها . وظل كعب في شدته وبلاءه حتى جاءه رسول من عند رسول الله يأمره باعتزال زوجته فاعتزلها واستمر الهجر العام خمسين ليلة حتى كان حاله ومن معه كما يقول كعب " فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نُهِىَ عَنْ كَلاَمِنَا - قَالَ - ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرِ صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِى ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَّا قَدْ ضَاقَتْ عَلَىَّ نَفْسِى وَضَاقَتْ عَلَىَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ " وبعد الخمسين نزلت التوبة وأتت بشرى حسن العاقبة بشرى العودة إلى صف المسلمين بشرى يركض بها الفارس ويهتف بها الراكب وعلى مثلها تكون التهاني ولمثلها تكون الجوائز يقول كعب " سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى سَلْعٍ يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ - قَالَ - فَخَرَرْتُ سَاجِدًا وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ. - قَالَ - فَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- النَّاسَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاَةَ الْفَجْرِ فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَىَّ مُبَشِّرُونَ وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَىَّ فَرَسًا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ قِبَلِى وَأَوْفَى الْجَبَلَ فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ فَلَمَّا جَاءَنِى الَّذِى سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِى فَنَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَىَّ فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ بِبِشَارَتِهِ وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ. فَلَبِسْتُهُمَا فَانْطَلَقْتُ أَتَأَمَّمُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَتَلَقَّانِى النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونِى بِالتَّوْبَةِ وَيَقُولُونَ لِتَهْنِئْكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ. حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَالِسٌ فِى الْمَسْجِدِ وَحَوْلَهُ النَّاسُ فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِى وَهَنَّأَنِى وَاللَّهِ مَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ. قَالَ فَكَانَ كَعْبٌ لاَ يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ. قَالَ كَعْبٌ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ وَيَقُولُ « أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ ». قَالَ فَقُلْتُ أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَقَالَ « لاَ بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ » البخاري مسلم .
أيها المسلمون : هؤلاء هم رجال الصدق رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا رجال خرجوا من مدرسة النبوة صدق في الحديث وصدق المواقف ، صبر عند اللقاء واعتراف بالخطيئة وقبول في حال الرضا والغضب ﭷ ﭸ ﭹ چ چ چ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ چ
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين فتح باب التوبة للمذنبين ووعد بحس العاقبة الصادقين أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد : چيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا چ
أيها المسلمون : لم تنته قصة كعب بن مالك ولم تقف عند البشارة له بالتوبة والتهنئة له بالقبول بل لقد جلس كعب بين يدي رسول الله وقال " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِى أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِى صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَمْسِكْ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ ». قَالَ فَقُلْتُ فَإِنِّى أُمْسِكُ سَهْمِىَ الَّذِى بِخَيْبَرَ - قَالَ - وَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَنْجَانِى بِالصِّدْقِ وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِى أَنْ لاَ أُحَدِّثَ إِلاَّ صِدْقًا مَا بَقِيتُ - قَالَ - فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلاَهُ اللَّهُ فِى صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِى هَذَا أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلاَنِى اللَّهُ بِهِ وَاللَّهِ مَا تَعَمَّدْتُ كَذْبَةً مُنْذُ قُلْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِى هَذَا وَإِنِّى لأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِىَ اللَّهُ فِيمَا بَقِىَ. قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) حَتَّى بَلَغَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) قَالَ كَعْبٌ وَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ إِذْ هَدَانِى اللَّهُ لِلإِسْلاَمِ أَعْظَمَ فِى نَفْسِى مِنْ صِدْقِى رَسُولَ اللَّهُ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ لاَ أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْىَ شَرَّ مَا قَالَ لأَحَدٍ وَقَالَ اللَّهُ ( سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) . أيها المسلمون : هذه هي قصة كعب بن مالك ومن معه رضي الله عنهم :
الوقفة الأولى : توفيق الله لكعب وصاحبيه فيما جاءوا به من الصدق ولم يخذلهم حتى يكذبوا ويعتذروا بغير الحق كما فعل غيرهم من المنافقين فصلحت عاجلتهم وفسدت عاقبتهم بينما هم صدقوا فتعبوا في العاجلة بعض التعب فأعقبهم صلاح العاقبة وأفلحوا كل الفلاح وعلى هذا قامت الدنيا والآخرة فمرارات المبادي حلوات في العواقب وحلوات المبادي مرارات في العواقب وصدق من قال " الصدق منجاة " ومن قال " عليك بالصدق وإن رأيت الهلكة فيه فإن النجاة فيه "
الوقفة الثانية : بيان حال ا لصحابة وكيفية تلقيهم للوحي عن الله لقد هجر أهل المدينة كعبا وصاحبيه حتى أحب الناس إليه وأقربهم منهم استجابة لأمر رسول الله حيث أمرهم بهجرهم بل انظروا إلى استجابة كعب نفسه لأمر رسول الله له حين أمره أن يعتزل امرأته فقال لها الحقي بأهلك چ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ چ. الوقفة الثالثة : كيف يعامل العاصي في المجتمع المسلم لقد عومل الثلاثة بالهجر والمقاطعة بل حتى الكلام ورد السلام بل حتى هجر الزوجات فهل نحن اليوم نعامل العصاة كذلك ؟ والله لو هجر تارك الصلاة ولم يكلم ولم يدعى لأي مناسبة لانصلح حاله ولعمرت بالمتخلفين عن الصلاة بيوت الله وامتلأت بهم ولو هجر المرابي وترك الناس التعامل معه لارتدع عن غيه وثاب إلى الحمى وترك حرب الله ورسوله .
الوقفة الرابعة : في قول كعب بن مالك " حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِى فِى نَفْسِىَ الأَرْضُ فَمَا هِىَ بِالأَرْضِ الَّتِى أَعْرِفُ " إن هذا التنكر يجده الخائف الحزين والمهموم في الأرض وفي الشجر والنبات حتى يجده فيمن لا يعلم حاله من الناس وكذلك يجده العاصي بحسب جرمه ، يجده حتى في خلق زوجته وولده وخادمه ودابته بل يجده حتى في نفسه فتتنكر له حتى ما كأنه هو ولا كأن أهله وأصحابه بالذين يعرفهم قال ابن القيم عن آثار الذنوب " ومنها : وَحْشَةٌ يَجِدُهَا الْعَاصِي فِي قَلْبِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ لَا تُوَازِنُهَا وَلَا تُقَارِنُهَا لَذَّةٌ أَصْلًا ، وَلَوِ اجْتَمَعَتْ لَهُ لَذَّاتُ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لَمْ تَفِ بِتِلْكَ الْوَحْشَةِ ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَحِسُّ بِهِ إِلَّا مَنْ فِي قَلْبِهِ حَيَاةٌ ، وَمَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامٌ ، فَلَوْ لَمْ تُتْرَكِ الذُّنُوبُ إِلَّا حَذَرًا مِنْ وُقُوعِ تِلْكَ الْوَحْشَةِ ، لَكَانَ الْعَاقِلُ حَرِيًّا بِتَرْكِهَا " ...ومنها: الْوَحْشَةُ الَّتِي تَحْصُلُ لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ ، وَلَاسِيَّمَا أَهْلُ الْخَيْرِ مِنْهُمْ ، فَإِنَّهُ يَجِدُ وَحْشَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ، وَكُلَّمَا قَوِيَتْ تِلْكَ الْوَحْشَةُ بَعُدَ مِنْهُمْ وَمِنْ مُجَالَسَتِهِمْ ، وَحُرِمَ بَرَكَةَ الِانْتِفَاعِ بِهِمْ ، وَقَرُبَ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ ، بِقَدْرِ مَا بَعُدَ مِنْ حِزْبِ الرَّحْمَنِ ، وَتَقْوَى هَذِهِ الْوَحْشَةُ حَتَّى تَسْتَحْكِمَ ، فَتَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَوَلَدِهِ وَأَقَارِبِهِ ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ ، فَتَرَاهُ مُسْتَوْحِشًا مِنْ نَفْسِهِ ". وهذا سر من الله لا يخفى إلا على من هو ميت القلب وعلى حساب حياة القلب يكون إدراك هذا التنكر والوحشة وما لجرح بميت إيلام صلوا وسلموا على رسول الله فبذلكم أمركم الله .....
الخطبة الأولى
أيها المسلمون: إن في الكتب لخبرا وإن في السير لعبرا قصة من قصص المصطفى وموقف صدق من مواقف الصحب الكرام البررة قلم الكاتب ولسان الخطيب مهما أوتيا من براعة أو حاولا من بلاغة عاجزان عن وصف تلك الحادثة في محنتها وابتلاءاتها وفي صدق رجالها وقوة إيمان أصحابها ففي القصة ابتلاء هجر الأقربين وابتلاء تزلف المعادين والمناوئين ، قصة كلها عبر وعبرات ، إن مواقف الصدق والصبر في صحب محمد صلى الله عليه وسلم مثال في المتانة في البناء ، والصفاء في العنصر ، وأنموذج في صدق اللهجة ، والإخلاص في الطاعة والقدوة في الصبر على البلاء ، والشكر عند النعمة والسراء ، إنها قصة جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الجيل المتميز رضي الله عنهم الذين كانوا يتلقون الوحي للعمل والتطبيق فقد كانوا لا يبطئون ولا يتأخرون ولا يقعدون عن فعل ما أمروا به أو ترك ما نهوا عنه وإنما كانوا كما وصف الله " چإِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ چ سمعنا وأطعنا مهما كان الأمر ثقيلا ، سمعنا وأطعنا مهما كان الذي نهوا عنه مألوفا محبوبا لأنهم علموا أنه ليست لهم الخيرة فيما يقضيه الله تعالى ويأمر به فأمر الله وقضاؤه واجب التنفيذ ولا يقبل النظر فيه وليس محلا للاستفتاء عليه أينفذ أم لا ، إن أمر الله قضاء محكم واجب على كل مسلم أن يطبق كل ما جاء عن الله ورسوله وإلا كان العصيان والضلال چ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا چ .
أيها المسلمون : إننا حين نتحدث عن عالم الصحابة لا نتحدث عن عالم الخيال ولا نتحدث عن عالم المثال ولا نتحدث عن شيء لا يمكن وقوعه ولا ندعو إلى شيء يصعب على النفس أن تقوم به وإنما نتحدث عن عالم وجد وشهده التاريخ وحقيقة واقعية تتنقل على وجه الأرض ، ولكن الفرق بيننا وبينهم أنهم تربوا على سمعنا وأطعنا ونحن تربينا على سمعنا وعصينا إلا من رحم الله منا ، لقد غرس في نفس الكثير منا أنه ليس في الإمكان أبداً مما كان ، أين نحن من الصحابة ؟ لقد عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا غير منشغلين بالدنيا إلى غير ذلك من الأعذار الواهية المرفوضة التي لا يقام لها وزن عند الله . أيها المسلمون : إن قصتنا اليوم قصة مؤثرة إنها قصة الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك فضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ، آيات وأحداث تذرف منها الدموع وتخشع لها القلوب كان الإمام أحمد رحمه الله لا تبكيه آيات من القرآن كما تبكيه آياتها وسماع أحداثها في حديث كعب رضي الله عنه .
أيها المسلمون : استنفر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين لملاقاة بني الأصفر حين بلغه إعدادهم للعدوان على المسلمين ، إنها دولة الروم إحدى أعظم دولتين في زمنها حين أحست بعلو شأن الإسلام في الجزيرة لما فتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجا ، استنفر النبي المسلمين فكان التهيؤ في أيام قائظة وظروف قاسية ، في جهد مضن ونفقات باهظة ، إنها غزوة العسرة التي استغرق وصفها في كتاب الله آيات طوال في أنباء الطائعين والمثبطين ، والمخلصين والقاعدين ، يجيء المعذِّرون ليؤذن لهم ويتولى البكاؤون بفيض دموعهم حزنا ألا يجدوا ما ينفقون .
أيها المسلمون : اسمعوا إلى الوصف الدقيق لقصة الخطيئة والتوبة من كعب بن مالك أحد المخلفين الثلاثة رضي الله عنهم وهو يحكي قصة الندم والتوبة فيقول " وَكَانَ مِنْ خَبَرِى حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنِّى لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّى حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِى تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُ قَبْلَهَا رَاحِلَتَيْنِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِى تِلْكَ الْغَزْوَةِ فَغَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى حَرٍّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَاسْتَقْبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا فَجَلاَ لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِمُ الَّذِى يُرِيدُ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَثِيرٌ وَلاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابُ حَافِظٍ - يُرِيدُ بِذَلِكَ الدِّيوَانَ - قَالَ كَعْبٌ فَقَلَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْىٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلاَلُ فَأَنَا إِلَيْهَا أَصْعَرُ فَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَىْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا. وَأَقُولُ فِى نَفْسِى أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَرَدْتُ. فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِى حَتَّى اسْتَمَرَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- غَادِيًا وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِى شَيْئًا ثُمَّ غَدَوْتُ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِى حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ فَيَا لَيْتَنِى فَعَلْتُ " ويأخذ الندم من كعب مأخذه وتبلغ المحاسبة مبلغها فتراه يقول " فَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ بِمَ أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ كُلَّ ذِى رَأْىٍ مِنْ أَهْلِى فَلَمَّا قِيلَ لِى إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّى الْبَاطِلُ حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّى لَنْ أَنْجُوَ مِنْهُ بِشَىْءٍ أَبَدًا فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ وَصَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَادِمًا وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلاً فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلاَنِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ حَتَّى جِئْتُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ « تَعَالَ ». فَجِئْتُ أَمْشِى حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِى « مَا خَلَّفَكَ ». أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ ». قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنِّى سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً وَلَكِنِّى وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّى لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَىَّ وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَىَّ فِيهِ إِنِّى لأَرْجُو فِيهِ عُقْبَى اللَّهِ وَاللَّهِ مَا كَانَ لِى عُذْرٌ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّى حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ فَقُمْ حَتَّى يَقْضِىَ اللَّهُ فِيكَ ». فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِى سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِى فَقَالُوا لِى وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا لَقَدْ عَجَزْتَ فِى أَنْ لاَ تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَا اعْتَذَرَ بِهِ إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ فَقَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَكَ. قَالَ فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِى حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأُكَذِّبَ نَفْسِى - قَالَ - ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ هَلْ لَقِىَ هَذَا مَعِى مِنْ أَحَدٍ قَالُوا نَعَمْ لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلاَنِ قَالاَ مِثْلَ مَا قُلْتَ فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ - قَالَ - قُلْتُ مَنْ هُمَا قَالُوا مُرَارَةُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَامِرِىُّ وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِىُّ - قَالَ - فَذَكَرُوا لِى رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شِهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أُسْوَةٌ - قَالَ - فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِى. قَالَ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ - قَالَ - فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ - وَقَالَ - تَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِى فِى نَفْسِىَ الأَرْضُ فَمَا هِىَ بِالأَرْضِ الَّتِى أَعْرِفُ فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً فَأَمَّا صَاحِبَاىَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِى بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاَةَ وَأَطُوفُ فِى الأَسْوَاقِ وَلاَ يُكَلِّمُنِى أَحَدٌ " وطالت على كعب الجفوة وعظم الابتلاء وضاقت المسالك فقصد ابن عمه أبا قتادة وتسور حائط داره يقول كعب ابن مالك " حَتَّى إِذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَىَّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِى قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّى وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَىَّ السَّلاَمَ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَنَّ أَنِّى أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ فَسَكَتَ فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَسَكَتَ فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَفَاضَتْ عَيْنَاىَ وَتَوَلَّيْتُ " وبينما هو في محنته وبلاءه إذا بنبطي يسأل من يدل عل كعب بن مالك ؟ قال كعب " فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَىَّ حَتَّى جَاءَنِى فَدَفَعَ إِلَىَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ وَكُنْتُ كَاتِبًا فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلاَ مَضْيَعَةٍ فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ. قَالَ فَقُلْتُ حِينَ قَرَأْتُهَا وَهَذِهِ أَيْضًا مِنَ الْبَلاَءِ. فَتَيَامَمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهَا " .
أيها المسلمون : هكذا هم أعداء الإسلام وهذا ديدنهم في الماضي والحاضر يتقصون الأنباء ويصطادون في الماء العكر وكم من رجال في مثل هذه الأوحال سقط ؟ وكم من أقدام في مثل هذه الأوقات انزلقت وأما كعب بن مالك فعلم أنها من البلاء وقصد بها التنور فأحرقها وسجرها . وظل كعب في شدته وبلاءه حتى جاءه رسول من عند رسول الله يأمره باعتزال زوجته فاعتزلها واستمر الهجر العام خمسين ليلة حتى كان حاله ومن معه كما يقول كعب " فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نُهِىَ عَنْ كَلاَمِنَا - قَالَ - ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرِ صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِى ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَّا قَدْ ضَاقَتْ عَلَىَّ نَفْسِى وَضَاقَتْ عَلَىَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ " وبعد الخمسين نزلت التوبة وأتت بشرى حسن العاقبة بشرى العودة إلى صف المسلمين بشرى يركض بها الفارس ويهتف بها الراكب وعلى مثلها تكون التهاني ولمثلها تكون الجوائز يقول كعب " سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى سَلْعٍ يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ - قَالَ - فَخَرَرْتُ سَاجِدًا وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ. - قَالَ - فَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- النَّاسَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاَةَ الْفَجْرِ فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَىَّ مُبَشِّرُونَ وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَىَّ فَرَسًا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ قِبَلِى وَأَوْفَى الْجَبَلَ فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ فَلَمَّا جَاءَنِى الَّذِى سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِى فَنَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَىَّ فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ بِبِشَارَتِهِ وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ. فَلَبِسْتُهُمَا فَانْطَلَقْتُ أَتَأَمَّمُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَتَلَقَّانِى النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونِى بِالتَّوْبَةِ وَيَقُولُونَ لِتَهْنِئْكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ. حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَالِسٌ فِى الْمَسْجِدِ وَحَوْلَهُ النَّاسُ فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِى وَهَنَّأَنِى وَاللَّهِ مَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ. قَالَ فَكَانَ كَعْبٌ لاَ يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ. قَالَ كَعْبٌ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ وَيَقُولُ « أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ ». قَالَ فَقُلْتُ أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَقَالَ « لاَ بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ » البخاري مسلم .
أيها المسلمون : هؤلاء هم رجال الصدق رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا رجال خرجوا من مدرسة النبوة صدق في الحديث وصدق المواقف ، صبر عند اللقاء واعتراف بالخطيئة وقبول في حال الرضا والغضب ﭷ ﭸ ﭹ چ چ چ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ چ
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين فتح باب التوبة للمذنبين ووعد بحس العاقبة الصادقين أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد : چيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا چ
أيها المسلمون : لم تنته قصة كعب بن مالك ولم تقف عند البشارة له بالتوبة والتهنئة له بالقبول بل لقد جلس كعب بين يدي رسول الله وقال " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِى أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِى صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَمْسِكْ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ ». قَالَ فَقُلْتُ فَإِنِّى أُمْسِكُ سَهْمِىَ الَّذِى بِخَيْبَرَ - قَالَ - وَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَنْجَانِى بِالصِّدْقِ وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِى أَنْ لاَ أُحَدِّثَ إِلاَّ صِدْقًا مَا بَقِيتُ - قَالَ - فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلاَهُ اللَّهُ فِى صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِى هَذَا أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلاَنِى اللَّهُ بِهِ وَاللَّهِ مَا تَعَمَّدْتُ كَذْبَةً مُنْذُ قُلْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِى هَذَا وَإِنِّى لأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِىَ اللَّهُ فِيمَا بَقِىَ. قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) حَتَّى بَلَغَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) قَالَ كَعْبٌ وَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ إِذْ هَدَانِى اللَّهُ لِلإِسْلاَمِ أَعْظَمَ فِى نَفْسِى مِنْ صِدْقِى رَسُولَ اللَّهُ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ لاَ أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْىَ شَرَّ مَا قَالَ لأَحَدٍ وَقَالَ اللَّهُ ( سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) . أيها المسلمون : هذه هي قصة كعب بن مالك ومن معه رضي الله عنهم :
الوقفة الأولى : توفيق الله لكعب وصاحبيه فيما جاءوا به من الصدق ولم يخذلهم حتى يكذبوا ويعتذروا بغير الحق كما فعل غيرهم من المنافقين فصلحت عاجلتهم وفسدت عاقبتهم بينما هم صدقوا فتعبوا في العاجلة بعض التعب فأعقبهم صلاح العاقبة وأفلحوا كل الفلاح وعلى هذا قامت الدنيا والآخرة فمرارات المبادي حلوات في العواقب وحلوات المبادي مرارات في العواقب وصدق من قال " الصدق منجاة " ومن قال " عليك بالصدق وإن رأيت الهلكة فيه فإن النجاة فيه "
الوقفة الثانية : بيان حال ا لصحابة وكيفية تلقيهم للوحي عن الله لقد هجر أهل المدينة كعبا وصاحبيه حتى أحب الناس إليه وأقربهم منهم استجابة لأمر رسول الله حيث أمرهم بهجرهم بل انظروا إلى استجابة كعب نفسه لأمر رسول الله له حين أمره أن يعتزل امرأته فقال لها الحقي بأهلك چ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ چ. الوقفة الثالثة : كيف يعامل العاصي في المجتمع المسلم لقد عومل الثلاثة بالهجر والمقاطعة بل حتى الكلام ورد السلام بل حتى هجر الزوجات فهل نحن اليوم نعامل العصاة كذلك ؟ والله لو هجر تارك الصلاة ولم يكلم ولم يدعى لأي مناسبة لانصلح حاله ولعمرت بالمتخلفين عن الصلاة بيوت الله وامتلأت بهم ولو هجر المرابي وترك الناس التعامل معه لارتدع عن غيه وثاب إلى الحمى وترك حرب الله ورسوله .
الوقفة الرابعة : في قول كعب بن مالك " حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِى فِى نَفْسِىَ الأَرْضُ فَمَا هِىَ بِالأَرْضِ الَّتِى أَعْرِفُ " إن هذا التنكر يجده الخائف الحزين والمهموم في الأرض وفي الشجر والنبات حتى يجده فيمن لا يعلم حاله من الناس وكذلك يجده العاصي بحسب جرمه ، يجده حتى في خلق زوجته وولده وخادمه ودابته بل يجده حتى في نفسه فتتنكر له حتى ما كأنه هو ولا كأن أهله وأصحابه بالذين يعرفهم قال ابن القيم عن آثار الذنوب " ومنها : وَحْشَةٌ يَجِدُهَا الْعَاصِي فِي قَلْبِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ لَا تُوَازِنُهَا وَلَا تُقَارِنُهَا لَذَّةٌ أَصْلًا ، وَلَوِ اجْتَمَعَتْ لَهُ لَذَّاتُ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لَمْ تَفِ بِتِلْكَ الْوَحْشَةِ ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَحِسُّ بِهِ إِلَّا مَنْ فِي قَلْبِهِ حَيَاةٌ ، وَمَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامٌ ، فَلَوْ لَمْ تُتْرَكِ الذُّنُوبُ إِلَّا حَذَرًا مِنْ وُقُوعِ تِلْكَ الْوَحْشَةِ ، لَكَانَ الْعَاقِلُ حَرِيًّا بِتَرْكِهَا " ...ومنها: الْوَحْشَةُ الَّتِي تَحْصُلُ لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ ، وَلَاسِيَّمَا أَهْلُ الْخَيْرِ مِنْهُمْ ، فَإِنَّهُ يَجِدُ وَحْشَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ، وَكُلَّمَا قَوِيَتْ تِلْكَ الْوَحْشَةُ بَعُدَ مِنْهُمْ وَمِنْ مُجَالَسَتِهِمْ ، وَحُرِمَ بَرَكَةَ الِانْتِفَاعِ بِهِمْ ، وَقَرُبَ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ ، بِقَدْرِ مَا بَعُدَ مِنْ حِزْبِ الرَّحْمَنِ ، وَتَقْوَى هَذِهِ الْوَحْشَةُ حَتَّى تَسْتَحْكِمَ ، فَتَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَوَلَدِهِ وَأَقَارِبِهِ ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ ، فَتَرَاهُ مُسْتَوْحِشًا مِنْ نَفْسِهِ ". وهذا سر من الله لا يخفى إلا على من هو ميت القلب وعلى حساب حياة القلب يكون إدراك هذا التنكر والوحشة وما لجرح بميت إيلام صلوا وسلموا على رسول الله فبذلكم أمركم الله .....