وقفات مع قصة قارون
قاسم الهاشمي
الحمد لله ذي القوَّةِ القادرَة والحِكمةِ الباهِرَة، لا يُنفذ إلا أمرُه، ولا يمضِي إلا قدَرُه، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ ختم الله تعالى به النبوة والرسالة، وأوجب على من أدركه من النبيين تصديقه واتباعه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
أما بعد:
أيها المسلمون: رجل فتح الله عليه أبواب النعيم وسبل الرزق وطرق الكسب، فعظمت أمواله، وكثرت كنوزه، وفاضت خزائنه، وأوتي بسطة في الرزق، ورخاءً في العيش، وكثرة في المال، فعاش في ترف وبذخ، وكبرٍ وبطرٍ، وفخر وخيلاء..
طغى وتجبّر، فسق وتمرّد، تطاول وتمادى، حتى ظن أن لن يقدر عليه أحد، عميت بصيرته، وعظم زهوه، وزاد غروره، واغتر به كثير من الناس، ورنت إليه بعض الأبصار، وتمنت مكانه فئام من البشرية، فلما بلغ الأمر مبلغه، والفتنة أشدّها، والتمادي منتهاه، حلت العقوبة، وكانت الفاجعة، ونزلت الكارثة، وعظمت العبرة.
فمن هو هذا الغني؟! ومن يكون ذلك الثري؟! وما هي قصته؟! وكيف كانت نهايته؟! استمع الآن إلى البيان المعجز، والخبر الصادق، والنبع الصافي، ليروي لك القصة، ويسرد لك الحكاية، ويُعلمك بالنهاية: قال الله تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ).
أيها المسلمون: بدأت القصة بتحديد هذا الغني، فالرجل الغني هو: قارون، وحددت الآيات قومه: (مِنْ قَوْمِ مُوسَى)، ويقال: هو ابن عم موسى عليه السلام. وقررت مسلكه مع قومه، فهو مسلك البغي، وقررت سبب ذلك البغي، وهو الثراء وكثرة الأموال.
فقارون كان موجودًا في زمن نبي من أنبياء الله -وهو موسى عليه السلام- وهنا إشارة إلى أمرين مهمين:
الأمر الأول: أن قارون لم يستفد من وجود هذا النبي الكريم، ولم يتعظ بمواعظه، ولم يستجب لدعوته، ولم يتخلق بأخلاقه.
والأمر الثاني: الإشارة إلى أن قرابته لموسى وصِلَتَه به لم تغن عنه شيئًا من عذاب الله تعالى.
قال الله تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ)، لم يحدد نوع ذلك البغي؛ وهذه إشارة على عظمته وشناعته وتنوعه.. بغى عليهم بالكبر، وبغي عليهم باغتصاب أموالهم، وبغى عليهم بمنعهم حقوقهم في هذا المال، وبغى عليهم بالظلم، وبغى عليهم بكل ما تحمله كلمة البغي من معانٍ.
(وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ)، آتيناه؛ فالرزق من عندنا، والمال من لدنا، وليس بمهارة قارون ولا بعلمه ولا بأفضليته؛ فالأرزاق بيد الله، وهو الذي يقسم أرزاقه على عباده، وليس في إعطائه للعبد دلالة على رضاه عنه، وليس في منعه عن العبد دلالة على سخطه عليه، بل قد يكون الأمر على العكس من ذلك.
يقال: إن مفاتيح خزائن قارون إذا انتقل من مكان إلى مكان كانت تُحمل على ستين بعيرًا؛ فقارون رجل من قوم موسى وصل إلى قمة الثراء، لكنه بغى على قومه.
وكان هناك أهل الخير الصلاح، والنصح والإرشاد، والعلم والهدى، قاموا بمسؤولية البلاغ وواجب النصيحة، فحينما رأوا قارون تمادى في طغيانه، وزاد في بغيه، مع غرور واستئثار، وبطر واستكبار، حاولوا أن يثيروا فيه روح الخير، وينبهوه من غفلته، فنصحوه أن لا يغويه المال، ولا يغره الثراء، فيحول بينه وبين الإحسان إلى قومه، والمراقبة لربه، والأخذ من الدنيا بنصيب، ومن الآخرة بنصيب؛ فإن لله حقًّا، وللناس حقًّا، فيجب أن يعطى كل ذي حق حقه. ونهوه عن الفرح الذي يدفع إلى الزهو والغرور، وبينوا له أن الله تعالى يمقت الفساد والمفسدين، وأن هذا المال ظلّ زائل ووديعة مستردة؛ فلا يفرح ولا يغتر، بل يجب أن يتخذه وسيلة لقضاء مآربه في الدنيا، وطريقًا لسعادته في الآخرة.
وقد أوجز القرآن لك الموعظة البليغة التي وُعظ بها قارون، فقال تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)، فماذا كانت ثمرة الموعظة ونتيجة النصيحة؟! أجابهم بجملة واحدة ولكنها تحمل شتى معاني الفساد والإفساد، جملة تحمل في طياتها الكبر والبغي والطغيان: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي): أوتيته بعلمي، بأفضليتي واستحقاقي لهذا المال، فكان متطاولاً في كلامه، جافيًا في رده، جريئًا في مقولته، مقولة المغرور المطموس الذي نسي مصدر النعمة، وتنكر لصاحب الفضل، وكفر بمن يستحق الشكر؛ ولذلك جاء التهديد والإشارة بالوعيد، والرد على مقولته، جاء ذلك قبل تمام الآية ونهاية القصة، فقال تعالى: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ).
انتقلت الآيات بعد ذلك إلى خروج قارون على قومه في زينته، وكأنه بذلك يكيد للذين نصحوه فيخرج في منتهى الزينة وغاية الكبر ونهاية الغرور، فتطير لذلك قلوب فريق من القوم، وتتهاوى أنفسهم لمثل ما أوتي قارون، ويرون أنه صاحب حظ عظيم، وخير عميم؛ وذلك لأنهم أصحاب نظرية مادية وأفكار دنيوية: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
خرج قارون يستعرض قوته وأمواله في موكب زينة، وكأنه يقول بلسان الحال: إذا كان موسى أُعطي التوراة والرسالة، فأنا أملك كل هذه الأموال، وأستطيع أن أفعل بها ما أشاء، خرج يتحدى موسى والصالحين من قومه، ويفتن العامة.
وانقسم الناس أمام هذا الموقف إلى فريقين: فريق ثابت على الحق، لا يتزعزع إيمانه بمثل هذه الأمور، وهؤلاء هم الذين أوتوا العلم، وهؤلاء لم يفتنوا.
ويقابلهم فريق من ضعاف الإيمان والعلم، وهم الذين فُتِنُوا بما عند قارون، وغرَّهم مظهر الزينة الزائلة، وتمنوا أن يكون لهم مثل ما أوتي قارون، وأعلنوا ذلك صراحة بلسان المقال، فحذرهم الذين أوتوا العلم وقالوا لهم: (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ)، وهذا قولٌ يدل على الرسوخ في العلم، واليقين بما عند الله.. ذكّروهم بالرجاء فيما عند الله، والاعتزاز بثوابه، والفرح بعبادته، فيجب أن يكونوا أعلى نفسًا، وأكبر قلبًا؛ (وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ): الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم، الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها، الصابرون على الفقر ومعاناته، الصابرون على شظف العيش ومقاساته، الصابرون على الحرمان من كثير من متع الدنيا؛ لأنهم علموا أن الصابرين يوفّون أجورهم بغير حساب.
أيها المسلمون: ماذا كانت نهاية قارون؟! قال الله تعالى: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ).
وعندما تبلغ الزينة ذروتها يضع الله سبحانه حدًّا للفتنة والعلو والاستكبار في الأرض بغير الحق، قال تعالى: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ).. وهكذا أمر الله الأرض فابتلعته، وابتلعت داره، وذهبت زينتُه في لحظات، وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاءً وفاقًا، وذهب ضعيفًا عاجزًا لا ينصره أحد، ولم ينفعه ماله الذي تكبَّر به.
وهكذا طارت أحلام الذين تمنَّوا مكانه بالأمس، الذين طارت قلوبهم، وتهاوت نفوسهم، وتمنوا لأنفسهم مثل ما أوتي قارون، ويحسبون أنه أوتي حظًّا عظيمًا يشتهيه المحرومون..
انتبَهَ الذين تمنّوا مكانه بالأمس على المشهد الرهيب الذي تنخلع من هوله القلوب، ووقفوا يحمدون الله -سبحانه وتعالى- أن منَّ عليهم ونجَّاهم من الخسف، وعلموا كذلك أن الكافرين لا يفلحون أبدًا، وإن بدا ظاهرهم في الدنيا يأخذ بألباب ضعاف الإيمان؛ لذا ناسب أن التعقيب من رب العزة والجلال: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
هكذا كانت النهاية بعد أن عظمت الفتنة واشتدت المحنة.. هذه نتيجة الكبر والبطر والغرور والخيلاء، والجحود والإصرار، والتألي على عباد الله، ابتلعته الأرض، وساخت فيها أمواله وقصوره. قال -صلى الله عليه وسلم-: "بينا رجل فيمن كان قبلكم خرج في بردين أخضرين يختال فيهما، أمر الله الأرض فأخذته، فإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة".
فلا إله إلا الله، ما أعظم الله، وما أشد نقمته، وما أهون الدنيا وأسرعها إلى الزوال، ما أحقر المكذبين وما أضعفهم!! (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ).ساعة نزول سخط الله صمت ضجيج الطغاة وخمدت أنفاسهم، وساحت شخوصهم وممالكهم في الأرض، عاد تلك التي ملأت الأرض عربدة وفخرًا وقالت: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت: 15] ذهبت بريح عاتية.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وبعد:
أيها المسلمون: في هذه القصة من العبر والدروس الشيء الكثير، من ذلك: أنها جاءت تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم- والذين آمنوا معه، الذين كانوا يواجهون طغيان المشركين من أهل مكة أصحاب الجاه والسلطان والمال، جاءت الآيات تهديدًا ووعيدًا لهؤلاء المستكبرين -إنْ أصروا على كُفرهم واستكبارهم- أن يصيبهم من العذاب مثل ما أصاب قارون ومن سبقه من أهل الظلم والبغي، وحينئذ لا يجدون لهم وليًّا ولا نصيرًا، وهذه سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
ومن العبر: أن نسب الإنسان وحسبه لا يغني عنه من الله شيئًا، وأن الرزق من عند الله تعالى؛ فهو مقدر الأقدار، ومقسم الأرزاق.
وأيضًا من العبر: عدم الفرح بالدنيا، فرح زهو وكبر وغرور، فإن هذه هي المهلكة الكبرى، والداهية العظمى، فالكبر والغرور عاقبتها وخيمة.
ثم إن مقياس السعادة والسرور في الدنيا هو بطاعة الله تعالى والإحسان إلى عباده، وليست السعادة ولا الريادة بكثرة الغنى.
ومن الفوائد: أن الإسلام يدعو إلى إعمار الأرض والسير في مناكبها، والأخذ بنصيب من الدنيا، ولكن يجعل ذلك كله طريقًا إلى الدار الآخرة، ويحسن الإنسان كما أحسن الله إليه.
واعلم أن الفساد وأهله ممقوتون بعيدون من محبة الله، فويل لمن سخّروا أموالهم لإفساد عباد الله، أين يذهب أصحاب الأموال الطائلة من ربهم، وقد سخروا أموالهم في إفساد الناس، ونشر الفاحشة، والدعوة إلى الرذيلة؟! والله المستعان.
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللّهمَّ عن خلفائه الأربعة، وعن سائر الآلِ والصحابة والتابعين، ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوِك وكرمك وإحسانك يا أكرمَ الأكرمين.
اللهمَّ أعِزَّ الإسلام وانصر المسلمين، وأذِلَّ الشرك واخذل المشركين، وانتصر لعبادك المظلومين، واجعل الدائرة على الظالمين يا رب العالمين.
اللهمَّ آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق وليَّ أمرنا، واجعله هاديا مهديا، واهدِ اللهم ولاة المسلمين، واجمعهم على كلمة الحق والدين، واجعلهم رحمة على رعاياهم يا رب العالمين.
اللهم كن لنا ولا تكن علينا، وأعِنَّا ولا تُعِنْ علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، واهدنا ويسر الهدى إلينا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، ونعوذ بمعافاتك من عقوبتك، ونعوذ بك منك، لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
المرفقات
مع-قصة-قارون-21-2-1439هـ
مع-قصة-قارون-21-2-1439هـ