وقفات مع شهر محرم
عبدالله اليابس
محرم الجمعة 2/1/1439هـ
الحمد لله الواحد، العزيزِ العظيم الشاهد، سامعِ ذكرِ الذَّاكر وحمدِ الحامد، لعظمته خضع الراكع وذلَّ الساجد، رفع السماء فعلاها ولم يَحتج إلى مُساعِد، وألقى في الأرض رواسيَ راسخاتِ القواعد، ﴿وَالصَّافَّاتِ صَفاّ * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ﴾.
يا فَاطِرَ الخَلْقِ البَدِيْعِ وكَافِلاً ** رِزْقَ الجَمِيْعِ سَحَابُ جُوْدِكَ هَاطِلُ
يا مُسْبغَ البرِّ الجَزِيْلِ ومُسَبِلَ الـ ** سِّتْرِ الجَمِيْلِ عَمِيْمُ طَوْلِكَ طَائِلُ
يا عَالِمَ السِّرِ الخَفِيّ ومُنْجِزَ الْـ ** وَعْدِ الوَفِيّ قَضَاءُ حُكْمِكَ عَادِلُ
عَظُمَتْ صِفَاتُكِ يَاعَظِيْمُ فَجَلَّ أَنْ**يُحْصِي الثَّنَاءَ عَلَيْكَ فِيْهَا قَائِلُ
وصلى الله وسلم وبارك على الرحمة المهداة, والنعمة المسداة, محمد بن عبدالله, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ: {ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. يمضي الزمان ويجري, وتتعاقب أيامه ولياليه, واليوم هو الثاني من شهر الله المحرم للعام التاسع والثلاثين بعد الأربعمائة والألف, عامٌ هجري جديد أطل, نسأل الله أن يرزقنا من خير ما فيه, وأن يكفينا شر كل شر, واسمحوا لي أن أتوقف مع بداية هذا العام الهجري عدة وقفات.
الوقفة الأولى: اعلموا أيها المباركون أن بدأ السنة في الأساس لا يتعلق بشهر محرم, وإنما كل شخص تبدأ سنته من تاريخ ميلاده, والاتفاق على مبدأ السنة الهجرية في شهر محرم من كل عام تم في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه, روى ابن سيرين رحمه الله قال: قدم رجل من اليمن ــ يعني زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ــ فقال: رأيت باليمن شيئًا يسمونه التاريخ يكتبونه من عام كذا وشهر كذا، فقال عمر: هذا حسن فأرِّخوا، فلما جمع على ذلك قال قوم: أرِّخوا للمولد. وقال قائل: للمبعث، وقال قائل: من حينِ خرج صلى الله عليه وسلم مهاجرًا، وقال قائل: من حين توفي. فقال عمر: أرِّخوا من خروجه من مكة إلى المدينة. ثم قال: بأي شهر نبدأ؟ فقال قوم: من رجب. وقال قائل: من رمضان. فقال عثمان: أرِّخوا المحرم فإنه شهر حرام وهو أول السنة ومنصرف الناس من الحج. قال: وكان ذلك سنة سبع عشرة.
الوقفة الثانية: هاقد أظلنا شهر محرم, وهو من أعظم شهور العام وأفضلِها، وأحد الأشهر الحُرُم التي ذكرها الله عز وجل في كتابه بقوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}.
وإذا قرأنا قوله تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}. علمنا أن الظلم محرم في هذه الأشهر الحرم ــ كما هو محرم في غيرها ــ, إلا أنه في هذه الأشهر المحرمة يكون التحريم والتغليظ آكد وأبلغ من غيرها, ولا شك أن من أعظم الظلم: ظلم العبد نفسه بالمعاصي والسيئات, فليجتنب المسلم المعاصي والظلم في سائر أيام حياته, وليحرص على ذلك أكثر خلال الأشهر الحرم فإن الإثم فيها أغلظ من غيرها.
الوقفة الثالثة: من أعظم أعمال هذا الشهر المحرم والتي جاءت الأحاديث بالحث عليها: الإكثار من صيام النافلة فيه, فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ).
ويتأكد الصيام في يوم عاشوراء, وهو اليوم العاشر من شهر محرم, أخرج مسلم في صحيحه عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عاشوراء، فقال: (إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ما رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يتحرّى صيام يوم فَضَّلَه على غيره إلا هذا اليوم ــ يعني يوم عاشوراء ــ، وهذا الشهر ــ يعني شهر رمضان ــ).
ويستحب صيام يوم قبله لحديث ابن عباس رضي الله عنهما في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ).
فأكثروا رحمكم الله من صيام أيام هذا الشهر المحرم, خصوصًا وقد بدأت الأجواء تتحسن عما مضى, وانكسر قدر كبير من حدة الحر السابقة, وبدأ النهار يقصر, {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
الوقفة الرابعة: مع بداية هذا العام الهجري الجديد فإن في رصيد الإنسان إلى نهاية العام ــ إن أمد الله في حياته ــ ثلاثَمائة وخمسة وخمسين (355) يومًا تقريباً, ,ومن المؤسف حقًا أن تمر هذه الأيام الكثيرة هباء منثورًا.
هذه الأيام هي عمرك, وستجد غدًا ما زرعت فيها من خير أو شر.
كل عمل ناجح يبدأ بالتخطيط, فنصيحتي لك أيها المحب أن تخطط لعامك الهجري الجديد.
ضع أهدافًا عامة .. تعتزم على تحقيقها خلال العام .. أهداف عبادية .. أخلاقية .. سلوكية .. علمية .. مهنية .. اجتماعية.
ثم دَوِّن هذه الأهداف .. واكتب وسائل وطرق تنفيذها وتحقيقها.
بعد ذلك قسم هذه الوسائل على أشهر العام, وسترى في نهاية العام ما يسرك بإذن الله.
ليكن من أهدافك العبادية على سبيل المثال: ختمة شهرية للقرآن.. صيام ثلاثة أيام من كل شهر.. صلاة خمس ركعات في كل ليلة.
وليكن من أهدافك العلمية مثلاً: حفظ ثلاثة أجزاء من القرآن الكريم, قراءة كتاب شهري في تخصصك, حفظ ثلاثمائة كلمة إنجليزية جديدة, وهكذا.
صدقني .. ستجد هذا العام مختلفًا إن نفذت ذلك .. وستحمد النتيجة في نهايته إن شاء الله تعالى.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَه إِلَّا اللهُ رَبُّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَقَيَّومُ السَّمَاوَات وَالأَرَضِين، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ, وَأَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين، وَعَلَى مَنْ سَارَ عَلَى هَدْيِهِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
أَمَّا بَعْدُ : {ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم .. فما زلنا مع الوقفات المتعلقة بشهر الله المحرم.
الوقفة الخامسة: عند تقلب الأيام والليالي, ومرور اللحظات والساعات, ينبغي للإنسان أن يتوقف مع نفسه وقفة محاسبة, يتذكر فيها كم مضى من عمره؟ ويتذكر أيضًا أنه مقبل على الله تعالى, وليضع نصب عينيه أن هذا اليوم الذي يعيشه هو أول أيام عمره المتبقي, وأن ما مضى من أيامه لن يعود, {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "زِنوا أنفسكم قبل أن توزنوا, وحاسبوها قبل أن تحاسبوا, فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم, وتَزَينوا للعرض الأكبر, {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}.
حدَّث سلمة بن منصور عن مولى لهم كان يصحب الأحنف بن قيس رحمهم الله, قال: كنت أصحبه, فكان عامةُ صلاته بالليل الدعاء, وكان يجيء إلى المصباح فيضع أصبعه فيه ثم يقول: يا حُنيف؛ ما حملك على ما صنعتَ يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعتَ يوم كذا؟
وكان رجل يتبع سفيان الثوري رحمه الله, فيجده أبدًا يُخرج من لَبِنةٍ رقعة ينظر فيها, فأحب أن يعلم ما فيها, فوقعت في يده الرقعة, فإذا فيها مكتوب: يا سفيان .. اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل.
روى أحمد والترمذي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الكَيّس من دان نفسه، وعَمِل لما بعد الموت, والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني).
العمر ينقص والذنوب تزيد *** وتُقال عثْراتُ الفتى فيعود
هل يستطيع جحودَ ذنب واحد *** رجلٌ جوارحه عليه شهود
فاللهم إنا نسألك أن تعيننا على أنفسنا والشيطان, وأن تجعل هذا العام عام سعادة وعز ونصر وتمكين لأمة الإسلام والمسلمين.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.