وقفات مع سورة القمر
ناصر محمد الأحمد
وقفات مع سورة القمر
7/6/1439ه
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: إن الله جل وتعالى لماّ أنزل الكتب على رسله، ما أنزله إلا ليُعمل به، وما أرسل جل وتعالى من رسول إلى قوم إلا ليُتّبع، وأية مخالفة لذلك الكتاب أو لذلك الرسول، فإن تلك الأمة ستنال عقابها وستتحمل مخالفتها لشرع ربها. وهذه يا عباد الله سنة ماضية في الأولين والآخرين. ولنستعرض سوياً سورة من سور القرآن الكريم تؤكد هذه الحقيقة، ولنتأمل في نوع المخالفات التي خالفتها تلك الأمم، ثم لنتأمل نوع العقوبات التي حلت بها، لنتعظ ولنعتبر.
قال الله تعالى: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ، وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ، حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ) يخبر جل وتعالى في مقدمة هذه السورة بأن الساعة وهي القيامة قد اقتربت، وأن القمر قد انشق: (اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) وكان انشقاق القمر في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، لما طلب منه كفار قريش أن يريهم من الخوارق ما يدل على صحة ما جاء به. روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقين حتى رأوا حِرَاءَ بينهما. ومع هذا قالوا: سحر مستمر، أي سحرنا محمد وسحر غيرنا فكذبوه ولم يتبعوه، فجاءت الآيات بعدها (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ، خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ، مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ).
ثم بدأت السورة الكريمة بعرض مصارع الأمم التي خالفت رسلها، مبتدئة بقوم نوح عليه الصلاة والسلام: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ، فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ، وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ). نوح عليه السلام، أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، دعا قومه إلى توحيد الله وعبادته، فامتنعوا وقالوا: (لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً) بل وقالوا عن نبي الله بأنه مجنون، عندها دعا نوح ربه عز وجل: (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) أي هذه قوتي وهذه طاقتي وهذا دينك أنت، وهذه دعوتك، فإني مغلوب فانتصر، وما تكاد هذه الكلمة ينطقها نبي الله نوح: (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) وما يكاد الرسول يسلم الأمر لصاحب الأمر إلا وجواب الله جل وتعالى: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أغرقهم الله عز وجل، أغرق أمة كاملة بالتقاء الماءان، ماء السماء وماء الأرض: (فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) وهذه هي نهاية كل أمة تخالف أمر الله، هذه نهاية كل أمة تتنكب الطريق الذي رُسم لها. ويأتي بعده سؤال المولى تبارك وتعالى، لي ولك ولكل أحد ولكل مجتمع: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُر؟) كيف رأيت أيها المخاطب عذاب الله. لا شك أنه كان عذاباً عظيماً مدمراً، كيف لا وقد انفتح أبواب السماء لينـزل ماء منهمر، وتفجر الأرض كله عيوناً: (فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) لكن أين المعتبِر؟!.
الأمةُ التي تليها أمة عاد: وهي القبيلة المعروفة باليمن، أرسل الله لهم نبيه هوداً عليه الصلاة والسلام، يدعوهم إلى شريعة الله ودينه، لكنهم آثروا المخالفة على الطاعة (كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ، إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ، تَنـزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ، فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).
أيها المسلمون: ما أهونُ الخلق على الله، ما أهونُ الخلق على الله، إذا عصوا أمره، وخالفوا شريعته، تأمل في حال هؤلاء، ماذا فعل الله بهم؟ أرسل عليهم ريحاً شديدة استمرت سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، من شدتها أنها كانت ترفع بالرجل إلى جو السماء ثم تدفعه إلى الأرض، فتُدق رقابهم، فتفصل الرأس من الجسد، وقيل أنهم كانوا يتداخلون في الشعاب، ويحفرون الحفر في الأرض ويدخلون فيها، هروباً من هذه الريح، فكانت كما وصفت الآية: (تَنـزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أي تجعل جثثهم بعد هلاكهم مثل جذوع النخل الخاوي، الذي اقتلعته الريح فسقط على الأرض. فما أهونُ الخلق على الله إذا لم يتبعوا دينه، لماذا توصل الأمةُ نفسها إلى هذا المصير، وكان بإمكانها تتوقى ذلك. إنها الشهوات والمخالفات والمحرمات.
الأمةُ التي تليها أمة ثمود: وهي القبيلة المعروفة في أرض الحِجر، نبيهم صالح عليه الصلاة السلام، دعاهم إلى دين الله، إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأنذرهم العقاب إذا هم خالفوه، فكذبوه واستكبروا عليه: (فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ) استمع إلى آيات الله وهي تصور لك ذلك التمرد على شريعة الله، وذلك الاستخفاف بالنبي المرسل، ثم ما هي النهاية: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ، فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ، أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ، سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنْ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ، إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ، فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ، فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ، إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) هؤلاء القوم، مع تمردهم وعصيانهم لأمر الله وامتناعهم عن الطاعة، اتهموا قبحهم الله نبي الله صالح بالكذِب، فقالوا: بل هو كذّاب أشر، أي كثير الكذب والشر: (سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنْ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) فأرسل الله الناقة، التي كانت من أكبر النعم عليهم، يحلبون منها ما يكفيهم جميعاً، لكنهم ذبحوا الناقة في آخر الأمر، وانبعث لها أشقاهم، فنـزل عليهم عذاب الله عز وجل، عاقبهم الله بالصيحة وهي الرجفة، فأهلكتهم عن آخرهم، ونجى الله نبيه صالحاً عليه السلام ومن آمن معه، أما العصاة فكانوا كهشيم المحتظر، أي كالحشيش اليابس المتكسر الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته. كل هذا بسبب عدم اتباع دين الله، وعدم طاعة كل ما يقوله الرسول الذي أُرسل.
الأمةُ التي تليها أمة لوط: وهؤلاء مخالفتهم معروفة، وهو أنهم مجتمع انتشر بينهم الفاحشة والفجور، ما قنعوا بالحلال، فأسرفوا في الحرام، فعاقب الله عز وجل تلك الأجساد التي تمتعت وتلذذت بالجنس المحرم، عذب الله تلك الأجسام بريح تحمل معها الحجارة: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ، إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ، نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ، وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ، وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ، فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) إن هؤلاء القوم طالما أنذرهم لوط عليه الصلاة والسلام، لكنهم تماروا بالنذر، واستمروا على فعل الفاحشة، وعندما نزل الملائكة ضيوفاً على لوط عليه السلام، جاءوا مسرعين قبحهم الله وراودوه عنهم، فأمر الله جبريل عليه السلام فطمس أعينهم، ثم قلب عليهم ديارهم، وجعل عاليها سافلها، ثم تبعهم بحجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك للمسرفين. هذه هي نهاية ارتكاب الفواحش، وهذه هي نهاية مجتمع يستشري فيها هذا المرض، فيصل إلى مرحلة لا يصلح معه العلاج إلا بخسف القرية وإهلاكهم جميعاً. إن طمس الأعين كان ليلاً (فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ) وفي الصباح (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ) صبحهم ذلك الحاصب الذي طهّر الأرض من تلك اللوثة ومن ذلك الفساد. ونجى الله لوطاً وأهله من الكرب العظيم، جزاءً لهم على شكرهم، وعبادتهم لربهم، وعدم انخراطهم في أوحال ذلك المجتمع النتن. إنه ليس بالأمر الهين أن يمسك الإنسان نفسه عن فعل أمور بإمكانه أن يفعلها، وكل من حوله يفعلها، ثم هو حفاظاً على دينه وخوفاً من ربه يمسك. تخيل رجل يعمل في دائرة وكل من حوله يسرق وينهب من المال العام وهو بإمكانه أن يفعل مثلهم، بل وظروف المعيشة وضغطها عليه قد تضطره أحياناً وتراوده نفسه على ذلك، لكن يمسك ويرضى بشظف العيش حفاظاً على دينه. كذلك الذي يعيش في وسط تنتشر فيه الرذيلة، وقضايا الحرام ميسرة لمن أرادها، ثم هذا الإنسان يضغط على نفسه، ويرغم هذه النفس على سلوك الطريق المستقيم، ويكون من الذين شبههم المصطفى صلى الله عليه وسلم بالذي يقبض على دينه كالقابض على الجمر. أما المجتمع وكل من تلوث بالفاحشة فكما قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا) (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ).
فنسأل الله جل وتعالى أن يطهر مجتمعات المسلمين من الفواحش، ما ظهر منها وما بطن. ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
أقول هذا القول، واستغفر الله لي ولكم ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
أما بعد: أيها المسلمون: الأمةُ التي تليها في سلسلة هذه الأمم كما تعرضها هذه السورة، فرعونُ وقومه: (وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ، كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ). أرسل الله إليهم نبيه موسى عليه الصلاة والسلام، وأيده بالآيات البينات، والمعجزات الباهرات: (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ، قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) وأشهدهم من العبر ما لم يُشهد غيرهم، فكذبوا بآيات الله كلها، وحاربوا دعوة موسى عليه السلام وضيقوا عليه، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فأغرق الله فرعون وجنوده في اليم، ونجى موسى وقومه، وأما آل فرعون فكما قال سبحانه: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ، فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ، وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ، فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ).
أيها المسلمون: ما المراد من ذكر هذه القصص، لماذا عرض الله علينا هذه السلسلة من مواقف أولئك الأقوام من دينه سبحانه ومن الرسل الذين أرسلهم إليهم؟ ولماذا هذا التوضيح وهذا التفصيل في كيفية إنزال العذاب؟ كل ذلك أيها الأحبة لتحذير الناس، وأن لا يسلكوا مسالك أولئك القوم، فيصيبهم ما أصابهم، ولهذا جاءت الآية الفاصلة المانعة بعد سلسلة هذه الآيات عن قوم نوح ثم عاد ثم ثمود ثم لوط ثم فرعون: (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) قال الله بعدها مباشرة: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ) (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ). الكفر ملة واحدة، وأولئك القوم ما أصابهم ما أصابهم إلا بسبب كفرهم، ونحن إذا كفرنا بالله والعياذ بالله، وخالفنا وعصينا الله، حلّ بنا ما حلّ بغيرنا: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ) أبداً والله، فليس كفار العرب أحسنُ حالاً عند الله من كفار أوربا وأمريكا، وليس نصارى العرب أحسنُ حالاً عند الله من نصارى أوربا وأمريكا، وليس يهود العرب أحسنُ حالاً عند الله من يهود غير العرب.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، فليس كفارنا بخيرٍ من كفارِهم، وليست مخالفتنا وعصياننا لشريعة ربنا أهون من مخالفة وعصيان أولئك لشريعة الله. واعلموا أيها الناس، بأن كل ما يصيبنا وكل ما ينـزل بنا إنما هو بسببنا نحن، وعلى سبيل المثال، وهذا شيء يسير من عقوبات الله، ارتفاع الأسعار، شح الوظائف، صعوبة المعيشة، غيرها مما يضج به مجالس الناس، يتحدثون بالساعات الطوال حول هذه القضايا، ويعلقون أسبابها بكذا وكذا، وقد يكون في كلامهم شيء من الصحة، لكن أيضاً هذا السبب لماذا حصل؟ هذه النقطة التي يغفل عنها الكثيرون، ألا وهو معاصينا ومخالفاتنا وتقصيرنا في جنب الله. لماذا نزعت البركة من معيشتنا؟ بسبب تفريط الناس في أوامر الله، بسبب مخالفة الناس لأوامر الله، ثم نريد بعد ذلك يسر العيش ووفرة المال وكثرة البركة، هذا أقل ما يصيبنا إذا تأملنا في واقعنا، ونسأل الله جل وتعالى ألا يكون هذا مقدمةً لسيل من العذاب ينـزل بنا لا ندري ما هو. المنكرات زادت، والفواحش كثرت، والمجاهرة بالمعاصي عمّت وطمّت، والقنوات الفضائية فتحت أبوابها على كل ألوان الشر والفساد، ثم في الجانب الآخر: أين المصلون في صلاة الفجر؟ أين الذين يؤدون زكاة أموالهم كاملة؟ أين الذين يطهّرون بيوتهم مما حرم الله؟ وأين وأين وأين؟ كل هذا نفعله، وكل هذا نرتكبه، ثم نتضايق ونتضجر بعقوبة يسيرة. فاتقوا الله أيها المسلمون: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ، أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ).
ثم ذكر بعدها عز وجل مصير كل المجرمين الذين يحاربون دعوة الله، والذين يضيقون على دين الله: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) قال بعدها سبحانه: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي أهلكنا من الأمم السابقة، الذين عملوا كما عملتم: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) ثم ختم جل وتعالى بمصير المتقين المطيعين المتبعين لشريعة الله فقال: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).
فنسأل الله جل وتعالى أن يجعلنا منهم، وأن يجعلنا وجميع أخواننا المسلمين الأحياء منّا والميتين في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا.
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
اللهم ادفع عنا الغلاء ..