وقفات مع سورة الفاتحة
عبدالرحمن عبدالعزيز القنوت
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون.. إن كان كلام الله تعالى عظيم، وكان كتاب الله المجيد أعظم سفر حوى تلك الحروف والسور، فإن من بين تلك الآيات والسور سورة هي أعظم ما تكلم الله به وأجل ما نزل، ليس لأجل طولها أو وقت تنزيلها، بل لما اشتملت عليه من الأسرار العظيمة، والمعاني الجليلة، قَالَ عنها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أُمُّ القُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي وَالقُرْآنُ العَظِيمُ» صحيح البخاري ، سورة الفاتحة السورة الجليلة الكريمة، في الحديث: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ، وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلَهَا» موطأ مالك، سورة كلها نور وبركات، وشفاء وهدايات. فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: " هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ " صحيح مسلم
وهذه السورة العظيمة جعلت قراءتها ركن أساس من أركان الصلاة، وواجب على كل مسلم تلاوتها كل يوم سبع عشرة مرة بعدد ركعات الصلوات المفروضة، قال ﷺ «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ» صحيح البخاري، وقال ﷺ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ، فَهِيَ خِدَاجٌ، فَهِيَ خِدَاجٌ» أي: غَيْرُ تَمَامٍ. صحيح مسلم، وكما افتتح الله بها كتابه الكريم، جعلت في فاتحة الصلاة، لمكانتها بين السور وقدرها، فهي سورة جليلة ينبغي للعبد أن يبحر في أسرارها ويستخرج من كنوزها ويتمعن في عجائبها، ولا يحمل كثرة ترديدها كل يوم بأن تصبح عادة وقراءة صماء لا تدبر ولا تأمل في آياتها.
فكيف للمصلي أن يقرأ السورة العظيمة بلسانه ولا يواطأ قلبَه وفكره معاني تلك الكلمات، وهو يؤمّن بعد قراءة الإمام للفاتحة. فلم يوجب الله تكرار هذه السورة كل يوم في صلواتنا إلا لحاجتنا إلى هذه السورة الكريمة. وما كان اختيار سورة الفاتحة من بين سائر سور القرآن وآياته ركنا في الصلوات تُثنّى وتكرر إلا لعظم معانيها وجلالة قدرها، وسعة أسرارها، ولذا سماها النبي ﷺ المثاني؛ أي تثنى وتعاد في كل صلاة.
فعلى المصلي أن يقف مع كل كلمة من سورة الفاتحة مدركا لمعانيها مستحضرا مناجاة الله تعالى في آياتها، ومستشعرا تقسيم الله تعالى ﷺ لموضوعاتها كما جاء في الحديث القدسي، فقد جعل الله تعالى السورة إلى نصفين؛ بينه سبحانه وبين عباده، فالثلاث الآيات الأول لله تعالى، تليها آية بين الله وبين عبده، والآيات الأخيرة للعبد. ففي القسم الأول الخاص بالله تعالى لله كلها حمد لله تعالى وثناء وتمجيد، والقسم الآخر للعبد دعاء لله تعالى وتضرع وافتقار، قال رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي - وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي - فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ " صحيح مسلم.
فعلى المصلي أن يقف عند رأس كل آية كما كان يقرأ رسول الله ﷺ، وعند كل وقفة ورأس آية يستشعر المصلي مناجاة الله تعالى فينتظر جواب الرب تعالى، فإذا قال المصلي "الحمد لله رب العالمين" هذا الثناء الكامل بجميع أنواع المحامد لله وحده دون سواه، فهناك رد وجواب من الله تعالى يرد به سبحانه على عبده كما جاء في الحديث القدسي "حمدني عبدني"، مناجاة بين العبد وربه في كل آيات السورة، وإن النفس المدركة للمعاني لتطير فرحا بهذه المناجاة، يقول ابن تيمية عن المناجاة بين العبد وربه في سورة الفاتحة: فهذا يقوله سبحانه وتعالى لكل مُصَلٍّ قرأ الفاتحة، فلو صلى الرجل ما صلى من الركعات قيل له ذلك. وفي تلك الساعة يصلي من يقرأ الفاتحة من لا يحصى عدده إلا الله، وكل واحد منهم يقول الله له كما يقول لهذا. وإذا قال "الرحمن الرحيم " يثني المصلي على الله بصفة الرحمة التي وسعت كل شيء، وبرحمته الخاصة بالمؤمنين، فيقول الله له أثنى علي عبدي، فما أعظم رد ربنا تعالى على قراءة عباده وما أوسعها، وإذا قال المصلي " مالك يوم الدين" يمجد العبد ربه بأنه المالك ليوم القيامة ويوم الجزاء والحساب؛ فلا مالك يومئذ إلا هو، فيقول الله: " مجدني عبدني".
في هذا القسم والنصف الأول من السورة يستهل المصلي قراءته بحق الله حمده والثناء عليه وتمجيده قبل أن يسأل ربه ويدعوه، وهذا من كمال الأدب مع الله. وكما أن من الأدب عند ملوك الدنيا وسادتها لمن يريد سؤالهم وطلبهم أن يقدم بين يدي سؤاله ذكر شيئا من محاسنهم ومدحهم، فالله سبحانه أحق وأجل وأعلى وله المثل الأعلى.
ثم في وسط السورة وبين القسمين يقرأ العبد قول الله "إياك نعبد وإياك نستعين"، وفيها تخصيص الله وحده بسائر أنواع العبادة والطاعة؛ فلا شريك له في العبادة، وفيها طلب العون من الله واستمداده منه في كل أحوالنا. فهذا توحيد لله وإخلاص في القصد له وتجديد للنية وحصر العبادة والتوجه مع الاستعانة بالله وحده تعالى. فيقول الله تعالى بعد قول المصلي (إياك نعبد وإياك نستعين) " هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل".
فبعد تلك المقدمة من السورة من العبد بحمد الله والثناء عليه وتمجيده مع توحيده وإخلاص التوجه والعبادة والاستعانة به، يشرع حينها ويحسن أن يقدم المصلي طلبه وسؤله بين يدي الله، فيأتي القسم الثاني من السورة بحظ العبد ونصيبه وقسمه بطلبه من الله ودعائه، فيطلب العبد من الله أعظم المطالب، وحاجات العباد وطلباتهم لا حصر لها؛ إلا أن أعظمها وأجلها هداية الله عبده للطريق الموصل لأعلى الجنان، وتوفيقه لسلوك الصراط المستقيم، الذي وصفه ربنا بأعظم وأبين الصفات؛ الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف، الذي سلكه أنبياء الله وأولياؤه من الصديقين والشهداء والصالحين، فهو طريق لا وحشة فيه، سلكه خير البشر من الأنبياء والصديقين والصالحين، ثم يعقب الدعاء بطلب الله تعالى بأن يصرف عنه طرق أهل الظلال والغواية والانحراف، طريق المغضوب عليهم وهو الذين عوفوا الحق ولم يتبعوه كحال اليهود؛ وطريق الضالين عن الحق الذين لم يهتدوا إليه لتفريطهم في طلب الحق والاهتداء كحال النصارى أعاذنا الله من سبل أهل الضلال.
فإذا وصل المصلي لختامها فسيؤمن تأمينا قد استشعر عظمة الدعاء الذي دعا به، وجلالة طلبه من الله تعالى، قائلا "آمين"، فلا تسأل عن الثبات الذي سيكتبه الله لمن صدق في قراءته ودعائـه، وعن التوفيق والهداية والرشاد، يقول عَطَاءٍ: " لَقَدْ كَانَ لَنَا دَوِيٌّ فِي مَسْجِدِنَا بِآمِينَ. مصنف ابن أبي شيبة.
أقول قولي هذا..
الخطبة الثانية
روى البخاري في صحيحه أنه انْطَلَقَ نَفَر مِن أَصْحَابِ النَّبيِّ ﷺ في سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حتَّى نَزَلُوا علَى حَيٍّ مِن أَحْيَاءِ العَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ فأبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذلكَ الحَيِّ، فَسَعَوْا له بكُلِّ شَيءٍ، لا يَنْفَعُهُ شَيءٌ، فَقالَ بَعْضُهُمْ: لو أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا؛ لَعَلَّهُ أَنْ يَكونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيءٌ، فأتَوْهُمْ، فَقالوا: يا أَيُّهَا الرَّهْطُ، إنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَسَعَيْنَا له بكُلِّ شَيءٍ، لا يَنْفَعُهُ؛ فَهلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنكُم مِن شَيءٍ؟ فَقالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ، وَاللَّهِ إنِّي لَأَرْقِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَما أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، أي -يُعْطوهم أُجرةً على عِلاجِه- فَصَالَحُوهُمْ علَى قَطِيعٍ مِنَ الغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عليه، وَيَقْرَأُ: (الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ)، فَكَأنَّما نُشِطَ مِن عِقَالٍ، أي – نقطَعَتْ آلامُه فَورًا كأنَّما كان مَربوطًا بحَبْلٍ وأُطلِقَ منه- فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَما به قَلَبَةٌ، -أي: داءٌ وعِلَّةٌ- قالَ: فأوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذي صَالَحُوهُمْ عليه، فَقالَ بَعْضُهُمْ: اقْسِمُوا، فَقالَ الَّذي رَقَى: لا تَفْعَلُوا حتَّى نَأْتِيَ النَّبيَّ ﷺ فَنَذْكُرَ له الَّذي كَانَ، فَنَنْظُرَ ما يَأْمُرُنَا، فَقَدِمُوا علَى رَسولِ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرُوا له، فَقالَ: وَما يُدْرِيكَ أنَّهَا رُقْيَةٌ؟ ثُمَّ قالَ: قدْ أَصَبْتُمْ، اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لي معكُمْ سَهْمًا. فَضَحِكَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ.
أيها الأحبة.. ما أعظم سورة الفاتحة وما أقوى شفاؤها وما أسرعه، هذا الرجل سيد هذا الحي الذي لدغ لم ينفعه طب البشر وأدويتهم، وحينما رقي بآيات الفاتحة فسرعان ما برئ ونشط، وكان هذا الرجل مصاب بلدغة وسم؛ أي أنه مرض عضوي ليس روحي ولا نفسي، فليس به مس ولا سحر ولا حسد، بل سم نفذ لجسمه، وهذا في عرف الطب لا ينفعه إلا الأدوية الحسية وإيقاف انتشار السم وتطهير الجسم. لكن هذا السورة كان لها أثر أعظم من أدوية البشر. والسر العظيم في هذا الشفاء والعلاج يتمثل في قوة إيمان الراقي وفهمه لمعاني آيات الفاتحة مع قوة يقينه بالله تعالى وبشفائه، فقد رقاه بعزيمة وصدق وليس للتجربة والمحاولة، مع أن هذا الصحابي لا يعرف اسمه لكن حاله مع الرقية ينبئ عن إيمان ويقين وفهم لآيات القرآن ومعانيه.