وقفات مع سورة البقرة
عبدالرحمن عبدالعزيز القنوت
أيها المؤمنون.. فحديثا اليوم عن أطول سور القرآن وأكثرها آيات، وأشملها موضوعات، وأغزرها أحكام، مع سورة "البقرة" التي أمُرنا بقراءتها، والمداوة عليها، والتي لا يواظب عليها إلا موفق، ولا يحفظها إلا مسدد.
سورة البقرة من أعظم سور القرآن وهي سنامه وذروته، قال رسول الله ﷺ: "إن لكل شيء سنامًا، وسنام القرآن البقرة" رواه الحاكم، والسنام قمة الشيء وأعلاه، وهكذا هي سورة البقرة.
وتسمى سورة البقرة بـ "الزهراء" من الزهر: وهو الصفاء والضياء والنقاء؛ لأنها تضيء لصاحبها في الدنيا وتضيء له يوم القيامة، وتأتي شافعة للعبد في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
قال رسول الله ﷺ " اقْرَؤُوا القُرآنَ؛ فإنَّه يأتي شافِعًا لأصحابِه، اقْرَؤُوا الزَّهْراوَينِ: البَقَرةَ وآلَ عِمرانَ؛ فإنَّهما يأتيانِ يَومَ القيامةِ كأنَّهما غَمامَتانِ أو غَيايَتانِ أو فِرقانِ من طَيرٍ صَوافَّ تُحاجّانِ عن صاحِبِهما " رواه مسلم.
البقرة وآل عمران يدافعان يوم القيامة عمن قرأهما، عمن واظب عليهما، وتدبر آياتهما ونظر في أحكامهما، وتعبد الله عز وجل بهما، الزهراوان هكذا سماهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذه السورة التي عظّم رسول الله ﷺ شأنها، وأعلى قدرها وأمر بقراءتها، هذه السورة إذا قرأها المسلم ازداد يقينًا بأن القرآن كلام الله، وأن الإسلام هو الدين الخاتم الذي ارتضاه الله، واختاره على سائر الأديان .
هذه السورة المباركة عباد الله تصلح عقائدنا، وتصحح عبادتنا، وتقوّم أخلاقنا، وتوجّه سلوكنا، وتنقذنا من ضلالة وتبصرنا من عمى.
هذه السورة المباركة تحدثنا عن عالم الغيب، وعن أركان الإيمان، تحدثنا عن الله وملائكة وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر.
تحدثنا عن الجنة والنار، تحدثنا عن أركان الإسلام وأحكامه، عن الطهارة والصلاة، والصيام والزكاة، وعن العمرة وحج بيت الله، تحدثنا عن الجهاد والقَصاص، تحدثنا عن أحكام الأسرة في الطلاق والنكاح، والرجعة والعدة والنفقة والرَضاعة.
تحدثنا هذه السورة المباركة عن حِل البيع وحرمة الربا، وعن حكم الخمر والميسر، تحدثنا هذه السورة عن أحكام الأموال في الإنفاق والربا والمداينة.
وتحدثت سورة البقرة عن القرون الغابرة والأمم السابقة، حديث عن آدم وحواء، عن الملائكة وإبليس، عن هاروت وماروت، عن إبراهيم وإسماعيل، عن يعقوب وبنيه، عن بني إسرائيل، وحديث عن عزير والنمرود.
قال ابن العربي: سمعت بعض أشياخي يقول: فيها ألف أمر، وألف نهي، وألف حكم، وألف خبر.
عباد الله.. هذه السورة فضلها عظيم، وثوابها جسيم، وذلك لكثرة فضائلها وأحكامها ومواعظها. تعلمها عمر رضي الله عنه وتفقه فيها في اثنتي عشرة سنة، وتعلمها ابنه عبد الله بن عمر في ثماني سنين.
أيها المؤمنون .. وفي سورة البقرة أعظم آية في القرآن، هي آية الكرسي، (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)، هذه الآية العظيمة التي سأل رسول الله ﷺ أبي بن كعب عنها فقال له : "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟". قال: قلت الله ورسوله أعلم قال: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟". قال: قلت (الله لا إله إلا هو الحي القيوم..). قال فضرب في صدري وقال: "والله ليهنك العلم أبا المنذر . رواه مسلم
واستمدت آية الكرسي عظمتها من مضمونها، والتي تحدثت فيها عن الله تعالى وعن عظمته وكماله، وعن توحيده وتفرده، وعن ملكه وعلمه سبحانه.
أيها الأحبة .. وختمت سورة البقرة بآيتين عظيمتين، (ءامن الرسول بما أنزل إليه والمؤمنون ..) فقد أخبر الرسول ﷺ عن جلالة قدرها وعلو مكانتها، فمن قرأها في ليلة كفتاه. قال ابن القيم رحمه الله في معنى (كفتاه) أي : كفتاه من شر ما يؤذيه ، وقيل : كفتاه من قيام الليل .
وجاء في فضلها هاتين الآيتين، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (بينما جبريل قاعد عند النبي ﷺ، اذ سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه فقال : (هذا باب فتح اليوم لم يفتح قط الا اليوم ، فنزل منه ملك فقال : هذا ملك نزل الى الأرض لم ينزل قط الا اليوم فسلم ، و قال ابشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك ، فاتحة الكتاب و خواتيم البقرة ، لن تقرأ بحرف منها الا اعطيته ) رواه مسلم .
أيها الكرام : سورة البقرة سورة حافظة كافية، طاردة للشياطين، مهلكة للسحرة والمبطلين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال "وكلني رسول الله ﷺ بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله ﷺ، فقص الحديث. فقال إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي. لن يزال معك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح. رواه البخاري
كيف تستطيع السحرة والشياطين على من قرأ سورة البقرة، وأنّى لها أن تجد مدخلا عليه، وقد قال رسول الله ﷺ: « اقرؤا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة» رواه مسلم، والبطلة : هم السحرة .
فهي سورة طاردة للشياطين من البيوت والأماكن، وذلك لأن وقعها عليهم شديداً عند سماعها، وقال عليه الصلاة والسلام (لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ) رواه مسلم.
الخطبة الثانية
أيها المؤمنون: يا من يريد البركات والخيرات، ويبحث عن السعادة والمسرات، أقبل على كتاب الله تعالى وعلى كلامه، قراءة وحفظا، وفهما وتدبرا، واستشفاء وتحكيمان فكلام الله تعالى بركة (كتاب أنزلناه إليك مبارك)، وسورة البقرة بركتها خاصة، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام بأن أخذها بركة، ومن تركها فقد أصابتها الحسرة وضياع الأجور والخيرات.
ومن ابتلي بشيء من المس والسحر فعليه بسورة البقرة، فإن السحرة والشياطين أمامها لا تقوى.
وفي كل صباح ومساء عليكم بقراءة آية الكرسي، فمن قرأها حين يصبح وكل الله به ملك يحفظه من الشيطان حتى يمسي، ومن قرأها حين يمسي وكل الله به ملك يحفظه حتى يصبح.
ومن قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة؛ لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت.
وإذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح .
وإذا أقبل الليل فاقرأ خواتيم سورة البقرة، فمن قرأها في ليلة كفتاه من كل شر ومكروه.