وقفات مع زلزال تركيا وسوريا
عبدالرحمن عبدالعزيز القنوت
فُجِع المسلمون في جنوب تركيا وشمال سوريا بزلزال مدمر شاهد آثاره العالم أجمع، زلزال صنف بأنه من أقوى عشرين زلزالًا مرت بالأرض على مدار التاريخ، وتبعه مئات الهزات الارتدادية؛ مما تسبب في مقتل عشرات الآلاف، وإصابة وفقد مئات الآلاف، وتشرد الملايين في جو شديد البرودة، وتساقط للأمطار والثلوج مع صعوبة في التنقل والحركة، وقلة المأوى، وضعف آليات الإنقاذ والمساعدة.
ولا نقول إلا: "إنا لله وإنا إليه راجعون"
عباد الله.. الله جل في علاه له الأمر من قبل ومن بعد، وهو أعلم بنا، وأرحم بالمسلمين من أنفسهم، فالخلق خلقه، والأمر أمره، فيقدر سبحانه ما يشاء في أرضه، إن شاء جعلها ساكنة، وإن شاء تعالى حركها وزلزلها. وله الحكمة البالغة.
والزلازل من أكبر ما يمر بالبشرية من محن؛ مما يستدعى من كل عاقل التأمل والوقوف عندها؛ ليعلم مقدار النعم العظيمة الثابتة التي لا نكاد نشعر بها إلا إذا رأينا نقصها، أو زوالها، أو زوال شيء منها؛ قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ - أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾.
قال ابن القيم -متحدثًا عن الأرض-: ثم تأمل خلق الأرض على ما هي عليه حين خلقها واقفة ساكنة لتكون مهادًا ومستقرًّا للحيوان والنبات والأمتعة، ويتمكن الحيوان والناس من السعي عليها في مآربهم، والجلوس لراحاتهم، والنوم لهدوئهم، والتمكن من أعمالهم، ولو كان رجراجة متكفئة لم يستطيعوا على ظهرها قرارًا ولا هدوا، ولا ثبت لهم عليها بناء، .. واعتبر ذلك بما يصيبهم من الزلازل على قلة مكثها كيف تُصَيرُهم إلى ترك منازلهم والهرب عنها... إلى أن قال:
أذن الله سبحانه لها في الأحيان بالتنفس فتحدث فيها الزلازل العظام؛ فيحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية والإنابة، والإقلاع عن المعاصي، والتضرع إليه، والندم.
أيها الأحبة.. إِنَّ هَذِهِ الفِتَنَ الَّتي تُصِيبُ الأُمَّةَ وَتَتَوَالى عَلَيهَا، وَتِلكُمُ الزَّلازِلَ والقتل والتشريد والاحتلال والاستضعاف، إِنَّهُ وَإِن كَانَ في ظَاهِرِهِ عَذَابًا وَذِلَّةً ومصيبة، إِلاَّ أَنَّهُ في البَاطِنِ رَحمَةٌ مِنَ اللهِ وَلُطفٌ. والله تعالى لا يقدر لعباده شراً محضاً، ولا راجحاً على الخير ولا مساوياً له إلا وهو يؤول إلى خير في عمومه، وقد يرى العباد وجهاً من وجوه التقدير، فيرون بنظرتهم القاصرة شراً محضاً كاملا، أو يرون فيه شرا غالباً، ويخفى عنهم ما لو رأوه أو كشف لهم من الغيب والمستقبل، لعلموا عظيمَ خلق الله وتقديره وحكمته. استمع إلى كلام الله تعالى في كتابه حين يصف لنا الوجه الآخر للمصائب والكوارث التي لا نرى فيها أوجه الخير والحكمة والرحمة، (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وفي قوله تعالى: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) قال الطبري عند قوله:( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ليرجعوا إلى طاعة ربهم وينيبوا إليها، ويتوبوا من معاصيه، وقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ( مَا يَزَالُ البَلاَءُ بِالمُؤْمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ ) سنن الترمذي
وهذا الزلزلة تستدعي الأوبة إلى الله والرجوع إليه. فقد قال الله عزَّ وجلَّ: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا)، فلا ينبغي أن يكون حظنا من هذا الحدث ومن تلك الزلزلة هو المشاهدة والمتابعة والتألم فحسب. بل "السَّعِيدُ مَن وُعِظَ بغَيْرِهِ" كما قال ﷺ، ولا ينتظر أن تحل به الأحداث والمصائب حتى يفيق من غيه، ويرجع إلى ربه.
ذُكر أَنَّ الْكُوفَةَ رُجِفَتْ عَلَى عَهْدِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنْ رَبَّكُمْ يَسْتَعْتِبُكُمْ فَأَعْتِبُوهُ. أي يخوفكم لتتوبوا إليه.
وَهَكَذَا رُوي أَنَّ الْمَدِينَةَ زُلزلت عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَرَّاتٍ، فَقَالَ عُمَرُ: أَحْدَثْتُمْ. وَاللَّهِ لَئِنْ عَادَتْ لَأَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ. وَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، يُرْسِلُهُمَا يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ".
والزلازل إذا نزلت بأمة الإسلام فهي من عذابها في الدنيا، وهي الأمة المرحومة برفع العذاب عنها في الآخرة؛ قال رسول ﷺ: «أمتى هذه أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة. عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل». صححه الألباني
فبالزلازل والمصائب والكوارث يُكفِّر الله عزَّ وجلَّ كثيرًا من ذنوب العباد ومعاصيهم.
أما من يموت تحت الهدم من المسلمين فهو شهيد؛ وهل هناك أعظم ممن يصطفيه الله ويختاره ليكون شهيدا، قال تعالى (ويتخذ منكم شهداء)، أَيْ يُكْرِمُكُمْ بِالشَّهَادَةِ، وَالشَّهَادَةُ فَضْلُهَا عَظِيمٌ، وهي عند الله من أرفع المنازل وقال ﷺ: «الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله». رواه البخاري ومسلم
أيها المؤمنون.. وأما كثرة الزلازل فهي من علامات الساعة؛ في صحيح البخاري يقول النبي ﷺ: «لا تقوم الساعة حتى يُقبَض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، وهو القتل القتل، حتى يكثر فيكم المال فيفيض».
وقد سمعنا عن مئات الهزات الارتدادية التي أعقبت الزلزال، فاللهم لطفك بالمسلمين..
وهذه الزَّلاَزِلُ واضطراب الأرض تُذَكِّرُنا بِيَومِ القيامَةِ وأهوالِها، قال تعالى (إذا زلزلة الأرض زلازالها- وأخرجت الأرض أثقالها) ، فالأرض يوم القيامة تتزلزل وترجف وترتج، حتى يسقط ما عليها من بناء؛ فتندك جبالها، وتسوى تلالها، وتكون قاعًا صفصفًا لا عوج فيه ولا أمت.
عباد الله.. إن هذه الكارثة لم تفجع أهل تلك البلاد وحدهم؛ بل فجعت كل مسلم يستشعر رابطة الأخوة الإيمانية؛ فالمسلمون يتألم بعضهم لبعض كالجسد الواحد؛ قال رسول الله ﷺ: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى». رواه مسلم
فهذا الحدث هو ابتلاء لكل مسلم، وليس لمن أصابه فحسب، فنحن نبتلى ببعض، لترى أعمالنا ومواقفنا وأحوالنا تجاه المصاب. فهل تألمت القلوب لتألم المسلمين وفقدهم وجراحهم، وهل تفطرت القلوب لصراخ وأنين واستغاثة الأطفال والشيوخ، هل رفعت الأيدي داعية الله تعالى أن يخفف الآلم، ويكشف البلاء، ويجبر المصاب، ويرحم الموتى، ويشفى الجرحى، ويعين المنقذين والمسعفين، وأن يصرف عن المسلمين الشرور والبلايا والمحن.
ولنعلم أن من أعظم ما يقدمه المسلم لأخيه المسلم هو الدعم المالي والعيني، وتقديم المساعدات عبر الجهات الموثوقة كلٌّ بقدر استطاعته.
نسأل الله تعالى أن يرفع البلاء عنَّا وعن إخواننا المنكوبين، إنه سميع قريب.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشُّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحابته وسلَّم تسليمًا كثيرًا
وبعد أيها الكرام.. الدنيا حقيرة هينة، وهي في يوم زائلة بأكملها وفانية، وهي أهون عند الله من جناح بعوض. ومن عرف أن الحياة الحقيقية ليس في هذه الدار، بل كما قال ربنا (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان. لو كانوا يعلمون) فلن يغتر بزخرف الدنيا ونظارتها. وسيجتهد لآخرته الباقية، فإن كان من أهل الجنة ففيها الخلود الأبدي، والنعيم السرمدي.
وأما الدنيا فاسألوا من حلت بهم الكارثة، ووقع عليهم الزلزال، الذين بنوها عشرات السنين، وعمروها وزخرفوها. فقد كان من هوانها سرعة زولها وانقضائها في لحظات. أسر بكامل أفرادها مع مساكنهم ومراكبهم وأمتعتهم وأموالهم أصبحت في ثوان معدودة ترابا وركاما، والأَرض تَصَدَّعَت، وَالمَبَاني سَقَطَت وَتَهَدَّمَت، والناس بين مَوتَى وجرحى ومفقودين.
فعلى العاقل أن يجتهد في بناء وإعمار آخرته، وإصلاح مستقبله، وعدم الانخداع بزخرف الدنيا، والانغماس فيها والتفريط في مصيره الأخروي الأبدي قبل فوات الأمور
، (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا).