وقفات مع تتابع الغيث.
عبد الله بن علي الطريف
وقفات مع تتابع الغيث. 1446/4/29هـ
الحمد لله الذي خَلَقَ فَسَوَّى، وقَدَّرَ فَهَدَى، وأَخْرَجَ الْمَرْعَى؛ فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. الكرم صفة من صفاته، والجود من أعظم سماته، والعطاءُ من أجلِّ هباته، يَدُه مَلأَى، لا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ.. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، حبيبُ قلوبنا، وقرةُ عيوننا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد.
أيها الإخوة: اتقوا الله تعالى حق التقوى واشكروه أن منَّ علينا خلال هذه الأيام بمطر مدرار، وخير دار ساق سحابه الولي الحميد إلى أرضٍ شهباء جرداء وأجواءٍ مكفرةٍ غبراء، فجادت بغيثٍ عميم، فما من مشهدٍ يُريحُ الحِسَ والأعصاب، ويندّي القلب والمشاعر، كمشهد الغيث بعد الجفاف.. وما من مشهدٍ ينفض هموم القلب وتعب النفس كمشهد الأرض تتفتح بالنبت بعد الغيث، وتنتشي بالخضرة بعد الموات..
نعم أحبتي: لقد فرحنا بهذه النعمة صغارًا وكبارًا، رجالًا ونساءً.. قد علت البهجة والسرور وجوه الجميع، استبشارًا برحمة ربنا.. فخرج الناس للتنزه فرحين زرافات ووحدنا.. البِشْرُ يعلو وجوهَهم والسعدُ يملأُ قلوبَهم فللهِ الحمدُ ربِ العالمين..
أيها الأحبة: إن هذا الخير العميم يدعونا لأن نقفَ معه عدة وقفات لتذكير أنفسنا بما ينبغي أن نكون عليه:
الوقفة الأولى: أن نعلم علم اليقين أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يصرف الأمطار فيصيب بها من يشاء ويمنعها ممن يشاء، ففي تصريفها بين البلاد، عبرةً وعظة لأولي الأبصار، قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا. لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا. وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا.) [الفرقان:48-50] فاللهُ تعالى وحده هو الذي ينزل الغيث، ويصرفه بين عباده، ولا تجوز نسبة ذلك لغيره سبحانه..
ثم إن في إنزال المطر وإحياء الله للأرض بعد موتها عبرةً، ودلالة على قدرته على إحياء الموتى يوم القيامة، قال سبحانه: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت:39].
الوقفة الثانية: إن علينا عند حصول هذه النعمة أن نكثر من شُكرِهِ تعالى عليها، ذلك أن الإكثارَ من شكره سبحانه سببٌ لزيادة الخير وبركته فهو القائل: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7] والمطر نعمة من نعم الله تستوجب شكره على إنزالها، فلولا فضل الله ورحمته ما سقينا، ولا استمتعنا بما أوتينا، وشكر الله تعالى على نعمه يكون بالثناء عليه بألسنتنا، وبأفعالنا بالقيام بطاعته والإنابة إليه، فهو سبحانه يزيد النعم عند شكرها ويباركها، قال سبحانه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف:96] وقال سبحانه: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ. لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) [الواقعة:68-70]. فاللهم لك الحمد والشكر على آلائك التي لا تعد ولا تحصى، فلو شئت لجعلت ماءنا أُجاجًا، ولكن برحمتك جعلته عذبًا زُلالًا، ولو شئت لجعلته غورًا فمن يأتينا بماء معين..
ومن شكر الله على إنزال المطر أن يبادر المقصرون والمتلبسون بالأخطاء بالتوبة والاستغفار والإقلاع عن الذنوب عمومًا فبعض الذنوب سببٌ لمنع القطر.. فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ» وذكر منها «وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ [أي القحط] وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا». رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
الوقفة الثالثة: أنْ نعلم أنَّهُ أُثِر عن النَّبِيِّ ﷺ أدعيةٌ وأذكارٌ وأعمال كان يقولُها أو يفعلها عندما يرى السحاب وعند المطر، من ذلك: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا رَأَى نَاشِئًا فِي أُفُقٍ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ، تَرَكَ عَمَلَهُ -وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ- ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَشَفَهُ اللَّهُ حَمِدَ اللَّهَ، وَإِنْ مَطَرَتْ قَالَ: «اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا». رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني. وعند البخاري عَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ إِذَا رَأَى المَطَرَ، قَالَ: «اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا».. وعَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا رَأَى نَاشِئًا فِي أُفُقِ السَّمَاءِ تَرَكَ الْعَمَلَ وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ، ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا» فَإِنْ مُطِرَ قَالَ: «اللَّهُمَّ صَيِّبًا هَنِيئًا» رواه أبو داود وصححه الألباني. وفي رواية: كان يقول ﷺ: فَإِنْ أَمْطَرَ قَالَ: «اللَّهُمَّ سَيْبًا نَافِعًا» مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، وَإِنْ كَشَفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ يُمْطِرْ حَمِدَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ." رواه ابن ماجة عنها رضي الله عنها وصححه الألباني. قَالَ النَّوَوِيُّ: فَتُقَدِّرُ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِأَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ صَيِّبًا سَيْبًا، نَافِعًا هَنِيئًا.. ومعنى صَيِّبًا: مطرًا مدرارًا كثيرًا، وسَيْبًا أي: مطرً جارِيًا على وجه الأرض من كثرته، ونَافِعًا أي: لا ضرر فيه من هدم أو عذاب.. هَنِيئًا أي: مباركًا، لا مغرقًا كطوفان نوح، وَقِيلَ: يَأْتِي بِكُلِّ مَرَّةٍ بأَحَدِهِمَا وَهُوَ الصَّوَابُ. وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ﷺ عِنْدَمَا يَتَوَقْفِ الْمَطَرُ: «مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ» رواه البخاري عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَإِنْ زَادَ الْمَطَرُ حَتَّى خِيفَ الضَرَر قَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ، وَبُطُونِ الْوِدِّيَّةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ» رواه البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ تَرَكَ الْحَدِيثَ وَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِى يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ، ثُمَّ يَقُولُ إِنَّ هَذَا الْوَعِيدَ لأَهْلِ الأَرْضِ شَدِيدٌ.. رواه البخاري في الأدب المفرد والبيهقي وصححه الألباني.
ومن السنن كذلك الدعاء عند نزول المطر، وهو من مواطن استجابة الدعاء قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ثِنْتَانِ لَا تُرَدَّانِ، أَوْ قَالَ: قَلَّ مَا تُرَدَّانِ، الدُّعَاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ، أَوْ عِنْدَ الْبَأْسِ حِينَ يُلْحِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَتَحْتَ الْمَطَرِ» رواه الحاكم عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وقال هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وقال الذهبي صحيح، وحسنه الألباني. ومن السنن المأثورة عند نزول المطر، ما رواه أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَطَرٌ، قَالَ: فَحَسَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثَوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ مِنْ الْمَطَرِ. فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا.؟ قَالَ: «لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى». رواه مسلم.
أيها لأحبة: ليحرص كل منا على هذه الأذكار والسنن، وعلينا أن نُعَلِّمَها أهلَنا وأطفالَنا، ونرغبَهم في حفظِها والعملِ بها.. وبارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
أيها الإخوة: ومما يجب التفطن له العناية بمسالك السيول وأماكن تجمعها من الأودية والتلاع والمسايل، والمحافظة عليها نظيفة وخالية من الحواجز والمباني، فما عند الله من الخير وما يرسله من الغيث لا حدود له، وعلى المسؤولين رعاية ذلك والعناية به، ولا تنسينا أيام القحط وقلة الأمطار أيام كثرتها وتداركها، نسأل الله بمنه كرمه أن يدفع عنا والمسلمين الضر إنه جواد كريم.
ومن الأخطاء التي تتكرر مع كثرة التحذير منها التهاون بالنزول إلى الأودية والشعاب وخوض السيول، وهذا فيه خطر وهلاك، ولم تزل وسائل الإعلام تنقل أخبارَ وفياتٍ وقعت بسبب تهاونٍ أو ومغامرات..
ومن المظاهر السيئة التي تصاحب نزول الأمطار، ما يقوم به بعض الناس من سير سريع بسيارته في مياه الأمطار فيؤذون المارة، ويملأ ثيابهم بالأوساخ، ويحجب الرؤية عنهم بسيارتهم.. ألا فلنتق الله في إخواننا، ونعامل الناس بمثل ما نحب أن يعاملوه به.. وفي أذية المسلمين في طرقهم، قَالَ النَّبِيَّ ﷺ: «مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ» رواه الطبراني في الكبير عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وحسنه الألباني ودلّ الحديث على جواز لعن من فعل ذلك إذا لم يكن معينًا، أما إذا كان معينا ففي جواز لعنه خلاف، والأصح عدمه لأن العصاة من المؤمنين لا يجوز لعن أحد منهم على التعيين، وأما على الإطلاق فيجوز..
ومما يحسن التذكير به في مثل هذه المناسبة العناية بالبيئة وعدم حرث البراري بالسيارات والدراجات النارية روحة وجيئة بلا هدف، والتفحيط فيها، مما أذهب الطبقة النباتية في البراري القريبة، وحرم الناسَ من الاستمتاع بجمال الخضرة، وأصحاب المواشي من الرعي فيها، ثم ما يترتب على هذه التصرف غير المسئول وغير المفيد من حوادث راح ضحيتها أنفس، أو إصابات بالغة من كسور أو جروح، وربما فقد بعضهم الوعي وبقي ميتا بين الأحياء، وصار خسارة وعالة على أهله ووطنه..
وعلى الأولياء القيام بمسئولية الرعاية لمن تحت أيديهم ابتداء من الوالي العام بالبلد وانتهاء بالآباء والأمهات، قَالَ النَّبِيَّ ﷺ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».. رواه البخاري ومسلم عَنِ عَبْدِ اللَّهِ، بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.