وقفاتٌ مع الحديثِ القُدسِي: ( إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي )
مبارك العشوان 1
إنَّ الحَمْدَ لِلهِ... أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ... مُسْلِمُون.
عِبَادَ اللهِ: رَوَى البُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( لَمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي ) .
استَبْشِرُوا عِبادَ اللهِ بِسَعَةِ رحمَةِ اللهِ؛ فَهُوَ { الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ }و { هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }و { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيـمُ } وهوَ { الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } و { هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } وهو { خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } { وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } { وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ } { إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }{ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ }{ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا }
يقولُ جلَّ وعلا عَنْ نَفْسِهِ: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } وتقولُ مَلائِكَتُهُ: { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا } ويقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ للهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ؛ فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) رواه مسلم.
وعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّــــمَ: ( أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ) قُلْنَا: لاَ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: ( لَلهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَــدِهَا ) رواه البخاري ومسلم.
استَبْشِرُوا عبادَ اللهِ بِجَزِيلِ عَطَاءِ اللهِ؛ وَعَظِيمِ إِحْسَانِهِ.
فهوَ الغنيُّ الكريمُ، وهُوَ: { ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيـمِ } وهُـــوَ: { وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } وفي الحديثِ: ( لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ، مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ ) رواه مسلم.
يُعْطِي الجَزِيلَ على العَمَلِ القَلِيلِ، بَلْ إنَّهُ تَعَالى يُعْطِي عَلى النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ؛ كَمَا رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ: ( إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِـدَةً ).
يقولُ ابنُ بَطَّالٍ رحمهُ الله تعالى: وَلَولَا هَذَا التَّفَضُّلُ العَظِيمُ لمْ يَدْخِلْ أحَدٌ الجَنَّةَ؛ لِأنَّ السَّيِّئَاتِ مِنَ العِبَادِ أكْثرُ مِنَ الحَسَنَاتِ، فَلَطَفَ اللهُ بِعِبَادِهِ بِأنْ ضَاعَفَ لهمُ الحَسَنَاتِ، وَلَمْ يُضَاعِفْ عَلَيْهِمُ السَّيِّئاتِ. أهـ
استَبْشِرُوا عِبَادَ اللهِ بِعَظِيمِ عَفْوِ اللهِ؛ فَهُوَ العَفُوُّ يُحٍبُّ العَفْوَ؛ ومَهْمَا كَثُرَتْ مِنَ العَبْدِ الذُّنُوبُ، ثُمَّ تَابَ إلى اللهِ عَفَا عَنْهُ وسَتَرَ ذُنُوبَهُ وَغَفَرَهَا، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } { قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } بَلْ إنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى يُبَدِّلُهَا حَسَنَاتٍ: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا } وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،: ( أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ ) رواه مسلم. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ الله: ( مَعْنَاهُ مَا دُمْتَ تُذْنِبُ ثُمَّ تَتُوبُ غَفَرْتُ لَكَ ) .
وَفِي الحَدِيثِ القُدْسِيِّ أنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يقولُ: ( يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي... ) الحَدِيثُ أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ.
جَعَلَنِي اللهُ وَإيَّاكُمْ مِنَ التَّوَّابِينَ، وَغَفَرَ لِي وَلَكُم؛ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية.
الحَمْدُ للهِ... أمَّا بَعْدُ: فَاجْتَهِدُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ فِي طَاعَةِ اللهِ.
إذَا وُفِّقْتُمْ للعَمَلِ الصَّالِحِ؛ فَاحْمَدُوا اللهَ عَلَى تَوْفِيقِهِ، وَسَلُوهُ القَبُولَ، وَلَا تَغْتَرُّوا بِعَمَلٍ مَهْمَا عَظُمَ.
اجْتَنِبُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ مَعْصِيَةَ اللهِ؛ وَلَا تَحْتَقِرُوا ذَنْباً مَهْمَا صَغُرَ، فَإِنْ غَلَبَكُمُ الشَّيطَانُ وَأَوْقَعَكُمْ فِي العِصْيَانِ فَبَادِرُوا بِالتَّوبَةِ، وَإيَّاكُمْ أنْ تَقْنَطُوا مِنْ الرَّحْمَةِ وَالمَغْفِرةِ.
أحْسِنُوا لِلهِ العَمَلَ، وَأحْسِنُوا بِهِ الظَّنَّ، وَارجُوا فَضْلَهُ تَعَالَى وَكَرَمَهُ؛ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ( أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ) رواه البخاري ومسلم
يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: ( مَا أُحِبُّ أَنَّ حِسَابِي جُعِلَ إِلَى وَالِدِي؛ رَبِّي خَيْرٌ لِي مِنْ وَالِدِي.)
اللهُمَّ وَفِّقْنَا لِفِعْلِ الخَيْرَاتِ، وَتَرْكِ المُنْكَرَاتِ.
ثُمَّ صَلُّوا ... وَسَلِّمُوا ... اللهُمَّ أعِزَّ الإسْلامَ ... اللهُمَّ أصْلِحْ أَئِمَّتَنَا ... عِبَادَ اللهِ: اذْكُرُوا اللهَ... مَا تَصْنَعُونَ.