وَقَفَاتٌ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الفَاتِحَةِ
مبارك العشوان
1438/04/07 - 2017/01/05 23:40PM
إنَّ الحَمْدَ لِلهِ...أمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ ... مُسْلِمُونَ.
عِبَادَ اللهِ: كَانَ حَدِيثُ الجُمُعَةِ المَاضِيَةِ عَن بَعْضِ فَضَائِلِ سُورَةِ الفَاتِحَةِ؛ وَحَدِيثُ اليَومِ: وَقَفَاتٌ فِي تَفْسِيرِهَا.
( أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) الِاسْتِعَاذَةُ سُنَّةٌ قَبْلَ قِرَاءَةِ القُرْآنِ الكَرِيمِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } النحل 98 أيْ: إذا أَرَدْتَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ.
ولَيْسَتِ الِاسْتِعَاذَةُ آيَةً مِنَ الفَاتِحَةِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا.
وَمَعْنَاهَا كَمَا قَالَ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: أَسْتَجِيرُ بِجَنَابِ اللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ أَنْ يَضُرَّنِي فِي دِينِي أَوْ دُنْيَايَ، أَوْ يَصُدَّنِي عَنْ فِعْلِ مَا أُمِرْتُ بِهِ، أَوْ يَحُثَّنِي عَلَى فِعْلِ مَا نُهِيتُ عَنْهُ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يكفُّه عَنِ الْإِنْسَانِ إِلَّا اللَّهُ... ) الخ.
يَكِيدُ الشَّيْطَانُ لِلنَّاسِ أعْظَمَ الكَيدِ، ويَصُدَّهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وَيَصْرِفَهُمْ عَنْ كِتَابِ اللهِ، الَّذِي فِيهِ خَيرُ دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُم، وبِهِ حِفْظُهُم مِنَ الضَّلَالِ؛ مَتَى تَمَسَّكُــــوا بِهِ، وَوَقَفُوا عِنْدَ حُـــدُودِهِ،: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } يونس 57
يَصُدُّ الشَّيطَانُ النَّاسَ عَنْ قِرَاءَةِ القُرْآنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ، وقَرَأوا؛ أشْغَلَهُم عَن تَدَبُّرِهِ، وَتَفَهُّمِ مَعَانِيهِ؛ فَهُوَ عَدُوٌّ أَلَدٌّ مُتَرَبِصٌ بِبَنِي آدَمَ: { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } الأعراف 16، 17 فَالْجَأ أيُّهَا المُسْلِمُ إلَى رَبِّكَ، وَاسْتَعِذْ بِهِ مِنَ عَدُوِّكَ يُعِذْكَ، وَاسْتَجِرْ بِهِ يُجِرْكَ.
{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } يَقُولُ شَيْخُ الإسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: { إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } النمل 30 وَتَنَازَعُوا فِيهَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ حَيْثُ كُتِبَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا كُتِبَتْ تَبَرُّكًا بِهَا... وَالثَّانِي: أَنَّهَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ، إمَّا آيَةٌ، وَإِمَّا بَعْضُ آيَةٍ... وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، وَلَيْسَتْ مِنْ السُّورَةِ....ثم قال: وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّ كِتَابَتَهَا فِي الْمُصْحَفِ بِقَلَمِ الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ، وَكِتَابَتَهَا مُفْرَدَةً مَفْصُولَةً عَمَّا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ السُّورَةِ... الخ.
( بِسْمِ اللَّهِ ): أَبْتَدِئُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ باسْمِ اللهِ مُسْتَعِينًا بِهِ
( اللهِ ) عَلْمٌ عَلَى الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْمَعْبُودِ بِحقٍّ دُونَ سِوَاه وَهُوَ أَخَصُّ أَسْمَاءِ الهَِ تَعَالَى، وَلَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ سُبْحَانهُ.
وَهَذَا الِاسْمُ هَوَ أصْلُ الأسْمَاءِ؛ وَتَأتِي الأَسْمَاءُ تَابِعَةٌ لَهُ؛ قَالَ تَعَالَى: { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } الحشر 22 - 24
( الرَّحْمَنِ ) ذِي الرَّحمَةِ الْعَامَّةِ الَّذِي وَسِعَتْ رَحمْتُهُ جَمِيعَ الْخَلْقِ
( الرَّحِيمِ ) بِالْمُؤْمِنِينَ، وَهُمَا اسْمَانِ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، يَتَضَمَّنَانِ إِثْبَاتَ صِفَةِ الرَّحمَةِ لِلهِ تَعَالَى كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ.
{ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }: الثَّنَاءُ عَلَى اللهِ بِصِفَاتِهِ الَّتِي كُلُّهَا أَوْصَافُ كَمَالٍ، وَبِنِعَمِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَفِي ضِمْنِهِ أَمْرٌ لِعِبَادِهِ أَنْ يَحْمَدُوهُ، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَهُ وَحْدَهُ، وَهُوَ سُبْحَانهُ الْمُنْشِئُ لِلْخَلْقِ، الْقَائِمُ بِأُمُورِهِمْ، المُرَبِّي لِجَمِيعِ خَلْقِهِ بِنِعَمِهِ، وَلِأَوْلِيَائِهِ بِالْإيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
{ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فَي البَسْمَلَةِ.
{ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وَهُوَ سُبْحَانهُ وَحْدَهُ مَالِكُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ يَوْمُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَفِي قِرَاءَةِ الْمُسْلِمِ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ صَلَوَاتِهِ تَذْكِيرٌ لَهُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَحَثٌّ لَهُ عَلَى الْاِسْتِعْدَادِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ.
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } إنَّا نَخُصُّكَ وَحْدَكَ بِالْعِبَادَةِ، وَنَسْتَعِينُ بِكَ وَحْدَكَ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا، فَالْأَمَرُ كُلُّهُ بِيَدِكَ، لَا يَمْلِكُ مِنهُ أَحَدٌ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ شَيْئًا مِنَ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ كَالْدُّعَاءِ وَالْاِسْتِغَاثَةِ وَالذَّبْحِ وَالطّوَافِ إلا لِلهِ وَحْدَهُ، وَفِيهَا شِفَاءُ الْقُلُوبِ مِنْ دَاءِ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَمِنْ أَمْرَاضِ الرِّياءِ وَالْعُجْبِ، وَالْكِبْرِيَاءِ.
يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ ) رواه الترمذي وصححه الألباني.
فَاللَّهُمَّ أعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ.
باَرَكَ اللهُ لِي وَلَكُم ... وَأقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأستَغْفِرُ اللهَ...
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ... أمَّا بَعْدُ: فَيَقُولُ تَعَالَى: { اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } أيْ: دُلَّنا، وَأَرْشِدْنَا، وَوَفِّقنَا إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَثَبِّتنَا عَلَيهِ حَتَّى نَلْقَاكَ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، الَّذِي هُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ الْمُوْصِلُ إِلَى رِضْوانِ اللهِ وَإِلَى جَنَّتهِ، الَّذِي دَلَّ عَلَيهِ خَاتَمُ رُسُلِهُ وَأنبيَائِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى سَعَادَةِ الْعَبْدِ إلا بِالْاِسْتِقَامَةِ عَلَيهِ.
{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } أيْ: طَرِيقَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِيْنَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَهُمْ أَهَلُ الْهِدَايَةِ وَالْاِسْتِقَامَةِ، وَلَا تَجْعَلنَا مِمَّنْ سَلَكَ طَرِيقَ الْمَغْضُوبِ عَلَيهِمْ، الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ، وَهُمْ الْيَهُودُ، وَمَنْ كَانَ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ، وَالضَّالِّينَ، وَهُمْ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا عَنْ جَهْلٍ مِنهُمْ، فَضَلُّوا الطَّرِيقَ، وَهُمُ النَّصَارَى، وَمَنِ اتَّبَعَ سَنَّتَهُمْ. وَفِي هَذَا الدُّعَاءِ شِفَاءٌ لِقَلْبِ الْمُسْلِمِ مِنْ مَرَضِ الْجُحُودِ وَالْجَهْلِ وَالضّلَالِ، وَدَلَالَةٌ عَلَى أنَّ أَعْظَمَ نِعْمَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ هِيَ نِعْمَةُ الْإِسْلَامِ، فَمَنْ كَانَ أَعْرَفَ لِلْحقِّ وَأَتْبَعَ لَهُ، كَانَ أوْلَى بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَا رَيْبَ أنَّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ هُمْ أوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ بَعْدَ الْأنبيَاءِ عَلَيهِمُ السّلَامُ، فَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى فَضْلِهِمْ، وَعَظِيمِ مَنْزِلَتهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْقَارِئِ أَنْ يَقُولَ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ: آمِينَ . وَمَعْنَاهَا: اللَّهُمُّ اِسْتَجِبْ، وَلَيْسَتْ آيَةً مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ بِاِتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ; وَلِهَذَا أَجْمَعُوا عَلَى عَدَمِ كِتَابَتِهَا فِي الْمَصَاحِفِ.
عِبَادَ اهَِ : احْرِصُوا رَحِمَكُمُ اهُل عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ؛ عَلَى حِفْظِهَا وَإِتْقَانِهَا، وَتَعْلِيمِهَا مَنْ لَا يَعْلَمُهَا، اقْرَءُوا فِي تَفْسِيرِهَا؛ فَهِيَ أعْظَمُ سُوَرِ القُرْآنِ الكَرِيمِ. ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا...
عِبَادَ اللهِ: كَانَ حَدِيثُ الجُمُعَةِ المَاضِيَةِ عَن بَعْضِ فَضَائِلِ سُورَةِ الفَاتِحَةِ؛ وَحَدِيثُ اليَومِ: وَقَفَاتٌ فِي تَفْسِيرِهَا.
( أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) الِاسْتِعَاذَةُ سُنَّةٌ قَبْلَ قِرَاءَةِ القُرْآنِ الكَرِيمِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } النحل 98 أيْ: إذا أَرَدْتَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ.
ولَيْسَتِ الِاسْتِعَاذَةُ آيَةً مِنَ الفَاتِحَةِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا.
وَمَعْنَاهَا كَمَا قَالَ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: أَسْتَجِيرُ بِجَنَابِ اللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ أَنْ يَضُرَّنِي فِي دِينِي أَوْ دُنْيَايَ، أَوْ يَصُدَّنِي عَنْ فِعْلِ مَا أُمِرْتُ بِهِ، أَوْ يَحُثَّنِي عَلَى فِعْلِ مَا نُهِيتُ عَنْهُ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يكفُّه عَنِ الْإِنْسَانِ إِلَّا اللَّهُ... ) الخ.
يَكِيدُ الشَّيْطَانُ لِلنَّاسِ أعْظَمَ الكَيدِ، ويَصُدَّهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وَيَصْرِفَهُمْ عَنْ كِتَابِ اللهِ، الَّذِي فِيهِ خَيرُ دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُم، وبِهِ حِفْظُهُم مِنَ الضَّلَالِ؛ مَتَى تَمَسَّكُــــوا بِهِ، وَوَقَفُوا عِنْدَ حُـــدُودِهِ،: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } يونس 57
يَصُدُّ الشَّيطَانُ النَّاسَ عَنْ قِرَاءَةِ القُرْآنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ، وقَرَأوا؛ أشْغَلَهُم عَن تَدَبُّرِهِ، وَتَفَهُّمِ مَعَانِيهِ؛ فَهُوَ عَدُوٌّ أَلَدٌّ مُتَرَبِصٌ بِبَنِي آدَمَ: { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } الأعراف 16، 17 فَالْجَأ أيُّهَا المُسْلِمُ إلَى رَبِّكَ، وَاسْتَعِذْ بِهِ مِنَ عَدُوِّكَ يُعِذْكَ، وَاسْتَجِرْ بِهِ يُجِرْكَ.
{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } يَقُولُ شَيْخُ الإسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: { إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } النمل 30 وَتَنَازَعُوا فِيهَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ حَيْثُ كُتِبَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا كُتِبَتْ تَبَرُّكًا بِهَا... وَالثَّانِي: أَنَّهَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ، إمَّا آيَةٌ، وَإِمَّا بَعْضُ آيَةٍ... وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، وَلَيْسَتْ مِنْ السُّورَةِ....ثم قال: وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّ كِتَابَتَهَا فِي الْمُصْحَفِ بِقَلَمِ الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ، وَكِتَابَتَهَا مُفْرَدَةً مَفْصُولَةً عَمَّا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ السُّورَةِ... الخ.
( بِسْمِ اللَّهِ ): أَبْتَدِئُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ باسْمِ اللهِ مُسْتَعِينًا بِهِ
( اللهِ ) عَلْمٌ عَلَى الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْمَعْبُودِ بِحقٍّ دُونَ سِوَاه وَهُوَ أَخَصُّ أَسْمَاءِ الهَِ تَعَالَى، وَلَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ سُبْحَانهُ.
وَهَذَا الِاسْمُ هَوَ أصْلُ الأسْمَاءِ؛ وَتَأتِي الأَسْمَاءُ تَابِعَةٌ لَهُ؛ قَالَ تَعَالَى: { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } الحشر 22 - 24
( الرَّحْمَنِ ) ذِي الرَّحمَةِ الْعَامَّةِ الَّذِي وَسِعَتْ رَحمْتُهُ جَمِيعَ الْخَلْقِ
( الرَّحِيمِ ) بِالْمُؤْمِنِينَ، وَهُمَا اسْمَانِ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، يَتَضَمَّنَانِ إِثْبَاتَ صِفَةِ الرَّحمَةِ لِلهِ تَعَالَى كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ.
{ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }: الثَّنَاءُ عَلَى اللهِ بِصِفَاتِهِ الَّتِي كُلُّهَا أَوْصَافُ كَمَالٍ، وَبِنِعَمِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَفِي ضِمْنِهِ أَمْرٌ لِعِبَادِهِ أَنْ يَحْمَدُوهُ، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَهُ وَحْدَهُ، وَهُوَ سُبْحَانهُ الْمُنْشِئُ لِلْخَلْقِ، الْقَائِمُ بِأُمُورِهِمْ، المُرَبِّي لِجَمِيعِ خَلْقِهِ بِنِعَمِهِ، وَلِأَوْلِيَائِهِ بِالْإيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
{ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فَي البَسْمَلَةِ.
{ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وَهُوَ سُبْحَانهُ وَحْدَهُ مَالِكُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ يَوْمُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَفِي قِرَاءَةِ الْمُسْلِمِ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ صَلَوَاتِهِ تَذْكِيرٌ لَهُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَحَثٌّ لَهُ عَلَى الْاِسْتِعْدَادِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ.
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } إنَّا نَخُصُّكَ وَحْدَكَ بِالْعِبَادَةِ، وَنَسْتَعِينُ بِكَ وَحْدَكَ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا، فَالْأَمَرُ كُلُّهُ بِيَدِكَ، لَا يَمْلِكُ مِنهُ أَحَدٌ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ شَيْئًا مِنَ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ كَالْدُّعَاءِ وَالْاِسْتِغَاثَةِ وَالذَّبْحِ وَالطّوَافِ إلا لِلهِ وَحْدَهُ، وَفِيهَا شِفَاءُ الْقُلُوبِ مِنْ دَاءِ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَمِنْ أَمْرَاضِ الرِّياءِ وَالْعُجْبِ، وَالْكِبْرِيَاءِ.
يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ ) رواه الترمذي وصححه الألباني.
فَاللَّهُمَّ أعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ.
باَرَكَ اللهُ لِي وَلَكُم ... وَأقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأستَغْفِرُ اللهَ...
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ... أمَّا بَعْدُ: فَيَقُولُ تَعَالَى: { اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } أيْ: دُلَّنا، وَأَرْشِدْنَا، وَوَفِّقنَا إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَثَبِّتنَا عَلَيهِ حَتَّى نَلْقَاكَ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، الَّذِي هُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ الْمُوْصِلُ إِلَى رِضْوانِ اللهِ وَإِلَى جَنَّتهِ، الَّذِي دَلَّ عَلَيهِ خَاتَمُ رُسُلِهُ وَأنبيَائِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى سَعَادَةِ الْعَبْدِ إلا بِالْاِسْتِقَامَةِ عَلَيهِ.
{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } أيْ: طَرِيقَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِيْنَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَهُمْ أَهَلُ الْهِدَايَةِ وَالْاِسْتِقَامَةِ، وَلَا تَجْعَلنَا مِمَّنْ سَلَكَ طَرِيقَ الْمَغْضُوبِ عَلَيهِمْ، الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ، وَهُمْ الْيَهُودُ، وَمَنْ كَانَ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ، وَالضَّالِّينَ، وَهُمْ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا عَنْ جَهْلٍ مِنهُمْ، فَضَلُّوا الطَّرِيقَ، وَهُمُ النَّصَارَى، وَمَنِ اتَّبَعَ سَنَّتَهُمْ. وَفِي هَذَا الدُّعَاءِ شِفَاءٌ لِقَلْبِ الْمُسْلِمِ مِنْ مَرَضِ الْجُحُودِ وَالْجَهْلِ وَالضّلَالِ، وَدَلَالَةٌ عَلَى أنَّ أَعْظَمَ نِعْمَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ هِيَ نِعْمَةُ الْإِسْلَامِ، فَمَنْ كَانَ أَعْرَفَ لِلْحقِّ وَأَتْبَعَ لَهُ، كَانَ أوْلَى بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَا رَيْبَ أنَّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ هُمْ أوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ بَعْدَ الْأنبيَاءِ عَلَيهِمُ السّلَامُ، فَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى فَضْلِهِمْ، وَعَظِيمِ مَنْزِلَتهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْقَارِئِ أَنْ يَقُولَ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ: آمِينَ . وَمَعْنَاهَا: اللَّهُمُّ اِسْتَجِبْ، وَلَيْسَتْ آيَةً مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ بِاِتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ; وَلِهَذَا أَجْمَعُوا عَلَى عَدَمِ كِتَابَتِهَا فِي الْمَصَاحِفِ.
عِبَادَ اهَِ : احْرِصُوا رَحِمَكُمُ اهُل عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ؛ عَلَى حِفْظِهَا وَإِتْقَانِهَا، وَتَعْلِيمِهَا مَنْ لَا يَعْلَمُهَا، اقْرَءُوا فِي تَفْسِيرِهَا؛ فَهِيَ أعْظَمُ سُوَرِ القُرْآنِ الكَرِيمِ. ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا...