وقفات حول مرض كورونا

خالد الباتلي
1436/12/04 - 2015/09/17 18:23PM
وقفات حول مرض كورونا
إن الحمد لله .. اتقوا الله ..
عباد الله .. إن لله تعالى في خلقه آيات وعبرا، وله الأمر والتدبير، وبيده التصريف والتقدير، خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، وَعَافَى وَابْتَلَى، نَحْمَدُهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالْعَافِيَةِ وَالْبَلَاءِ. وإن مما قضاه وأمضاه ظهور هذا المرض الذي صار حديث الناس، وسبب قلق وخوف عند كثير منهم، أعني مرض (كورونا), واسمه العلمي (متلازمة الجهاز التنفسي الشرق أوسطي), ظهر هذا الفيروس في أكثر من خمس عشرة دولة حول العالم, لكن النصيب الأكبر منه في بلدنا نسأل الله العافية منه.
وهو مرض يكتنفه كثير من الغموض؛ فلا يعرف إلى الآن مصدر هذه السلالة الفيروسية يقينا, ولا يعرف على التحديد طريقة انتقاله، ولا يوجد إلى الآن لقاح لعلاجه.
ولعلي أقف معكم حول هذا المرض بعض الوقفات:
o الوقفة الأولى: حقيقة الأوبئة
الْأَوْبِئَةُ وَالطَّوَاعِينُ ابْتِلَاءٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَعُقُوبَةٌ؛ فَإِنْ أَصَابَتْ مُؤْمِنِينَ قَائِمِينَ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ ابْتِلَاءٌ، فَإِنْ صَبَرُوا وَاحْتَسَبُوا أُجِرُوا أَجْرًا عَظِيمًا، فَمَنْ مَاتَ فِي الْوَبَاءِ يرجى أن ينال أجر الشهادة.
عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ  عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَنِي «أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَأَنَّ اللهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وعن أنس  مرفوعا: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
والطاعون أخص من الوباء، فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونا.
o الوقفة الثانية: وقفة مراجعة
أخبر الرب تعالى أن ما يحصل للعباد من محن وكوارث ومصائب، فبما كسبت أيديهم، قال تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير). (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون).
وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْفَوَاحِشَ وَالْبَغْيَ سَبَبَانِ لِلْوَبَاءِ، فَفِي الْحَدِيثِ: «لم تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ في قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: مَا ظَهَرَ الْبَغْيُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا ظَهَرَ فِيهِمُ المُوتَانُ.
والمُوتَانُ هُوَ المَوْتُ الْكَثِيرِ الْوُقُوع.
إن هذا الحدث مؤشر يجب الوقوف معه وأن نكون من أولي الألباب الذين يتعظون ويعتبرون بما يصيبهم، فما أكثر العبر وما أقل المعتبر، قال عز وجل (وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ) أي لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. وما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.
وَفِي عَصْرِنَا هَذَا ظَهَرَتْ أَوْبِئَةٌ مَا كَانَتْ تُعْرَفُ مِنْ قَبْلُ؛ كَالْإِيدْزِ وَالسَّارِسِ وَجُنُونِ الْبَقَرِ وَأنْفِلُوَنْزَا الطُّيُورِ وَالْخَنَازِيرِ وَأَيبُولَا وَكُورُونَا وَغَيْرِهَا، حَتَّى إِنَّ مُنَظَّمَةَ الصِّحَّةِ الْعَالَمِيَّةِ سَجَّلَتْ فِي خَمْسَةِ أَعْوَامٍ فَقَطْ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَمِئَةِ وَبَاءٍ فِي مَنَاطِقِ الْعَالَمِ المُخْتَلِفَةِ، وَيَأْذَنُ اللهُ تَعَالَى بِالسَّيْطَرَةِ عَلَيْهَا، وَاكْتِشَافِ اللِّقَاحَاتِ لَهَا، وكأن هذه إشارات وإنذارات من الله لعباده أن ينتبهوا ويتيقظوا، ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.
o الوقفة الثالثة: حقيقة العدوى
العدوى بالمرض ثابتة، كما قال : (فر من المجذوم كما تفر من الأسد) رواه البخاري، وقال  أيضا: (لا يوردن ممرض على مصح) رواه مسلم
وأما قوله  (لا عدوى) فهو رَدٌّ لِمُعْتَقَدِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الْأَوْبِئَةَ تُعْدِي بِطَبْعِهَا وقوتها، وَالواقع أَنَّهَا إِنَّمَا تُعْدِي بِقَدَرِ اللهِ تَعَالَى، وَلِذَا قَدْ تَتَخَلَّفُ الْعَدْوَى فَيُورَدُ مُصِحٌّ عَلَى مُمْرِضٍ وَلَا يَتَأَثَّرُ. وَقَدْ يَحْتَاطُ صَحِيحٌ فَيَبْتَعِدُ عَنْ كُلِّ أَسْبَابِ المَرَضِ فَتُصِيبُهُ الْعَدْوَى.
ولذا قال  في الطاعون: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه) متفق عليه
وَهَذَا التَّوْجِيهُ الْعَظِيمُ فِيهِ مُحَاصَرَةٌ لِلْوَبَاءِ، وَعَدَمُ نَشْرِهِ فِي النَّاسِ؛ فَإِنَّ الْفَارَّ مِنْهُ قَدْ يَحْمِلُهُ وَلَوْ لَمْ تَظْهَرْ عَلَيْهِ أَعْرَاضُهُ فَيَنْشُرُهُ فِي بُلْدَانٍ أُخْرَى، وَلمَّا وَقَعَ الطَّاعُونُ فِي الشَّامِ وَكَانَ عُمَرُ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَيْهَا رَجَعَ بِالنَّاسِ، فعوتب وقيل له: أتفر من قدر الله؟ فقال : «نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ تَعَالَى». ثم جاء عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وكان غائبا، فحدثهم بحديث النبي  في ذلك أنه قال: "إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها ، و إذا وقع بأرض و أنتم بها فلا تخرجوا منها فرارا منه" ، وَكَانَ عُمَرُ لَا يَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ فحَمِدَ اللهَ تَعَالَى أَنَّهُ وَافَقَ السُّنَّةَ وَهُوَ لَا يَعْلَم.
وَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ وَمِنْ فِعْلِ عُمَرَ : الأخذ بالأسباب، وعَدَمُ إِلْقَاءِ النَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَأَنَّ أَخْذَ اللِّقَاحَاتِ، ولبس الكمامات، وَعَمَلَ الْوِقَايَةِ مِنَ الْوَبَاءِ، وَعَدَمَ مُخَالَطَةِ المَرْضَى، ونحوها من الأسباب؛ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ.
o الوقفة الرابعة: وصايا لكل مسلم
ونحن أمام هذا المرض الذي أخاف الدول والمنظمات الصحية والأفراد ، نوصي كل مسلم ومسلمة بوصايا:
1. الاعتصام بالله والتوكل عليه وتفويض الأمر إليه والرضا بقضائه.
(ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله، ومن يؤمن بالله يهد قلبه) (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) (قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة)، وقال : (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة).
2. عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَتُوبُوا إِلَى اللهِ تَعَالَى وَيُنِيبُوا إِلَيْهِ، فَيَتْرُكُوا ظُلْمَ أَنْفُسِهِمْ بِالمَعَاصِي وَالْفَوَاحِشِ، وَظُلْمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالِاعْتِدَاءِ وَأَكْلِ الْحُقُوقِ؛ فَإِنَّهُ مَا نَزَلَ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا رُفِعَ إِلَّا بِتَوْبَةٍ، وَإِنَّ المَوْتَ بِالْقَتْلِ فِي الْفِتَنِ وَالْحَرْبِ كَثِيرٌ فِي هَذَا الزَّمَنِ، كَمَا أَنَّ المَوْتَ بِالْأَوْبِئَةِ وَالْأَمْرَاضِ كَثِيرٌ.
فلنتواص عباد الله بمحاسبة أنفسنا ومراجعتها، ولننظر إلى هذه المعاصي المنتشرة، تضييع الصلوات، وأكل الربا والحرام، وقطيعة الأرحام، وإطلاق البصر في الحرام، وغيرها، ثم نصلح الحال بالتوبة النصوح. ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}.
3. التحصن بذكر الله تبارك وتعالى, فيحرص الإنسان على أذكار الصباح والمساء, قال : (ما من عبدٍ يقولُ في صباحِ كلِّ يومٍ ومساءِ كلِّ ليلةٍ بسمِ اللَّهِ الَّذي لا يضرُّ معَ اسمِهِ شيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ وَهوَ السَّميعُ العليمُ ثلاثَ مرَّاتٍ إلا لم يضرَّهُ شيء) رواه الترمذي وصححه الألباني
وقال : (من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) متفق عليه، أي كفتاه من كل آفة وشر.
وعن عبد الله بن خبيب  قال: خرجنا في ليلة مطر وظلمة شديدة نطلب رسول الله  ليصلي بنا فأدركناه، فقال: قل، فلم أقل شيئا، ثم قال: قل فلم أقل شيئا، ثم قال: قل، قلت: يا رسول الله ما أقول؟ قال: (قل هو الله أحد) و(المعوذتين) حين تصبح وحين تمسي ثلاث مرات تكفيك من كل شيء. رواه أبو داود بسند حسن
ومن الأذكار المأثورة أن يقول العبد: أعوذُ بكلماتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِن شرِّ ما خلَق.
بارك الله ..

الخطبة الثانية:
4. الدعاء،
ومن ذلك:
عن ابن عمر قال: لم يكن رسول الله  يدع هؤلاء الكلمات حين يمسي وحين يصبح: اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي. رواه أبو داود بسند صحيح
عن أنس أن رسول الله  كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من البرص والجذام والجنون ومن سيئ الأسقام " رواه أبو داود بسند صحيح
ومن الأدعية المأثورة: اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق و الأعمال و الأهواء والأدواء. والأدواء جمع داء.
5. التصبح بالتمر
عن سعد بن أبي وقاص  قال: سمعت رسول الله  يقول: "من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر" متفق عليه
فإن تيسر تمر العجوة فهو أحسن، وإلا فذكر بعض أهل العلم أن غيره من أنواع التمر يقوم مقامه.
6. فعل الأسباب النافعة المشروعة، كالاعتناء بالنظافة العامة، وتغطية الفم والأنف عند السعال والعطاس، ونحو ذلك.
7. الحذر الحذر من التسرع في نشر الأخبار, وإشاعة الإشاعات, ونقل الرسائل التي تصلك دون التثبت منها, فكثير من تلك الرسائل والأخبار كذب لا أصل له, ولها أثر في بث الرعب في قلوب الناس.
والعاقل اللبيب لا يتكلم في شيء إلا إذا تثبَّت من صحته؛ فإذا ثبت لديه ذلك نَظَرَ في جدوى نشره؛ فإن كان في نشره حفز للخير، واجتماعٌ عليه نَشَره ، وإن كان خلاف ذلك أعرض عنه وطواه. وكفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن

المشاهدات 4414 | التعليقات 0