{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}
عبدالله محمد الطوالة
1432/09/12 - 2011/08/12 11:29AM
هذه أول مشاركة لي في هذا المنتدى الأكثر من رائع ، أسأل الله أن ينفع بنا وبه ، وهي خطبتي لهذا اليوم نصرة لإخواننا المضطهدين في سوريا جمعتها من خطبتين أحدهما لشيخنا الفاضل ابراهيم الحقيل والأخرى لشيخنا الكريم عبدالله البصري وفقهما الله وسدد خطاهما ، مع بعض التصرف اليسير:
الحمد لله القوي العزيز؛ ينصر أولياءه، ويكبت أعداءه، (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ) ، نحمده فهو أهل الحمد، ونشكره فنِعَمُهُ تَزِيدُ بالشُّكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ جعل رمضان شهر المواساة والرحمة، والنصر والنصرة، وأوجب على المسلم نصرة أخيه المسلم .. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ جمع الله تعالى به القلوب بعد افتراقها، وهدى به من ضلالها، فأزال شركها، ورفع جهلها، وعلَّمها ما ينفعها، (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) ، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واغتنموا الأوقات الفاضلة فيما يرضيه، وحققوا من الصوم معانيه، فصونوا أنفسكم عن المحرمات، وتسابقوا إلى الطاعات، وأكثِروا من القرُبات؛ لتفوزوا بأعالي الجنات ، (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) ..
أيها الإخوة في الله : جعل الله تعالى رابطة الإيمان أقوى الروابط، تُقطع كل الروابط بسببها، ولا تُقطع هي بسبب أي رابطة أخرى، وبرهان ذلك قول الله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) ، وقوله تعالى: (وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) ، وقوله تعالى: (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) .
وإذا استُضِيم مسلمٌ أو أُهين وجب على جماعة المسلمين بذل النصرة له بما يستطيعون، (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) ، ولا أقل من الدعاء .. أوسع أَبوَابِ الفَرَجِ، وأَوسَعُ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ، بَابٌ مَا طَرَقَهُ مُحتَاجٌ إِلاَّ قُضِيَت حَاجَتُهُ، وَلا وَلَجَهُ مُضطَّرٌّ إِلاَّ نُفِّسَت كُربَتُهُ، ذَكَرَهُ الكَرِيمُ في ثَنَايَا آيَاتِ الصِّيَامِ في سُورَةِ البَقَرَةِ، وَدَعَا إِلَيهِ الرَّحِيمُ عِبَادَهُ: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَستَجِيبُوا لي وَلْيُؤمِنُوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ) .. وَيَقُولُ -عليه الصلاةُ وَالسلامُ-: "أَعجَزُ النَّاسِ مَن عَجَزَ عَنِ الدُّعَاءِ". وقال عليه الصلاة والسلام-: "لا يرد القضاء إلا الدعاء" .. وقال أيضاً : "الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم -عباد الله- بالدعاء" ..
وحينما يحاصر المسلم من كل جهة، ويضيق عليه الخناق، فلا يستطيع الانتصار لنفسه، ولا لإخوانه المظلومين، تفتح له السماء أبوابها، وتأتيه منافذ الفرج، ويتنزل عليه مدد السماء، من رب الأرباب، وخالق الأسباب، مهلك الجبابرة، وقاصم القياصرة، الذي أهلك عاداً الأولى، وثمود فما أبقى، وقوم نوح من قبل، إنهم كانوا هم أظلم وأطغى .. مدد السماء الذي ينادي كل ليلة ((مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ)).
ألا إن رحمة الله تبارك وتعالى تتجلى في هذا السلاح الفتاك الذي منحه الله للمظلومين والمقهورين، والذي ينال به الإنسان المظلوم ممن ظلموه وقهروه وإخوانه، بل والله إن الملوك والزعماء الظلمة مهما بلغوا في الطغيان والتجبر ليسقطون بالدعاء.
هذا فرعون الذي بلغ من الطغيان والجبروت ما بلغ، حتى استعبد شعبه كله، وبلغ به من صلفه وغروره ما قاله الله جل وعلا: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يٰأَيُّهَا ٱلْملاَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يٰهَـٰمَـٰنُ عَلَى ٱلطّينِ فَٱجْعَل لّى صَرْحاً لَّعَلّى أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ * وَٱسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى ٱلأرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَـٰهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـٰهُمْ فِى ٱلْيَمّ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلظَّـٰلِمِينَ * وَجَعَلْنَـٰهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَيَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ لاَ يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَـٰهُم فِى هَذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَـٰمَةِ هُمْ مّنَ ٱلْمَقْبُوحِينَ} ،فدعا عليه نبي الله موسى: {وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوٰلِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلاْلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَٱسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} ..
عباد الله، لقد وردت أحاديث كثيرة تفيد أن دعوة المظلوم من الدعوات المستجابة، منها ما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه، لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن، وأوصاه، قال له في آخر وصيته: ((واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب)) .. وعند الترمذي والإمام أحمد وأبي داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ)).
وعن خزيمة بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اتقوا دعوة المظلوم، فإنها تُحمل على الغمام، يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)) .. وجاء في الأخبار أن أسد بن عبد الله القسري، وهو والي خرسان، مر بدار من دور الخراج، ورجل يعذب في حبسه، وحول أسد هذا مساكين يستجدونه، فأمر لهم بدراهم تقسم فيهم، فقال الرجل الذي يعذب: إن كنت تعطي من ترحم، فارحم من تظلم، إن السموات تنفرج لدعوة المظلوم، فاحذر من ليس له ناصر إلا الله، ولا جنة له إلا الثقة بنزول التغيير، ولا سلاح له إلا الابتهال إلى من لا يعجزه شيء .. يا أسد: إن البغي يصرع أهله، والظلم مصرعه وخيم، فلا تغتر بإبطاء الغياث من ناصر، متى شاء أن يغيث أغاث، وقد أملى لهم كي يزدادوا إثماً. وأورد ابن كثير في البداية والنهاية عن وهب بن منبه أحد أبناء الملوك ركب في جند من قومه وهو شاب فسقط عن فرسه فدقت عنقه فمات في أرض قريبة من قرية من القرى، فغضب أبوه وحلف أن يقتل أهل تلك القرية عن آخرهم وأن يطأهم بالأفيال، فما أبقت الأفيال وطئته الخيل، فما أبقت الخيل وطئته الرجال، فتوجه إليهم بعد أن سقى الأفيال والخيل خمراً، وقال: طؤوهم بالأفيال، فما أبقت الأفيال فلتطأه الخيل، فما أخطأته الخيل فلتطأه الرجال. فلما سمع بذلك أهل تلك القرية وعرفوا أنه قد قصدهم لذلك، خرجوا بأجمعهم فجأروا إلى الله سبحانه وعجّوا إليه وابتهلوا يدعونه تعالى ليكشف عنهم شر هذا الملك الظالم وما قصده من هلاكهم، فبينما الملك وجيشه سائرون على ذلك، وأهل القرية في الابتهال والدعاء والتضرع إلى الله تعالى إذ نزل فارس من السماء فوقع بينهم، فنفرت الأفيال فطغت على الخيل وطغت الخيل على الرجال فقُتل الملك ومن معه وطئاً بالأفيال والخيل، ونجى الله أهل تلك القرية من بأسهم وشرهم .. {أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء ٱلأرْضِ أَءلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}..
وخرج أحد الأمراء الظلمة يوماً .. فانتبه فإذا في جيبه رقعة لم يعرف من أين جاءت، فإذا مكتوب فيها: أما بعد، فإنكم ملكتم، فأسرتم، وقدرتم فأشرتم، ووسع عليكم، فضيقتم، وعلمتم عاقبة الدعاء، فاحذروا سهام السحر، فإنها أنفذ من وخز الإبر، لا سيما وقد جرحتم قلوباً قد أوجعتموها، وأكباداً أجعتموها، وأحشاء أنكيتموها، ومقلاً أبكيتموها، ومن المحال أن يهلك المنتظِِرون ويبقى المنتظَرون، فاعملوا إنا عاملون، وجوروا إنا بالله مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون {وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}
أما والله إن الظلـم شـؤم ومازال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصـوم
بارك الله ..
الحمد لله وكفى ..
وبعد: فيا أيها الأحبة الكرام، اعلموا أن للدعاء على أعداء الدين، فوائد جمة، ومنها:
- أن الدعاء في حد ذاته عبادة عظيمة، فقد ثبت في الحديث الصحيح عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قَالَ: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)) ..
فالداعي الصادق، يدعو وقد انقطع من كل من سوى الله جل وعلا، وتعلق نياط قلبه بالله وحده تعلقاً أشد من أي وقت آخر .. أمن يجيب المضطر ..
وفي الدعاء يتمثل التوحيد في أنقى صوره، وأسمى معانيه، ولذا أخبر القرآن الكريم عن أن الناس جميعاً في النوازل والنوائب لا يدعون إلاّ الله، {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} .. والدعاء على أعداء الدين بشتى أنواعهم ، تعبيرٌ صادقٌ عن عقيدة الولاء والبراء مركز عقيدة التوحيد جاء في الحديث ((أوثق عُرى الإيمان الحبُّ في الله والبغض في الله)) ..
والدعاء يحقّق للعبد استحضار صفاتِ الرب جل وعلا ، وزيادة الإيمان بها والشعور بعظمتها وجلالتها, فهو إقرار من المؤمن بأنّ القوة لله جميعاً، وأنّ العزة لله جميعاً، وأنّ الله خالق كل شيء, وأن الأمر كله لله .. فتصغر في عيونهم كل قوة مهما عظمت، مصداقا لقول الله: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}
ولا يخالجهم تردّدٌ في صدق وعده {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ}، {إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ}..
والدعاء على من اعتدى على أيَ من المسلمين، وبغى عليهم، علامةٌ ظاهرةٌ على إيمان العبد وتضامنه مع إخوانه المسلمين {إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}.. قال عليه الصلاة والسلام: ((مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم, مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمى)).
كما أن الدعاء على من يحارب المسلمين إحياءٌ لمعاني الجهاد في النفس؛ إذ إنّ ((إذ أن من لم يغز ولم يحدّث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية)) فالدعاء على من يحارب أهل السنة نوع من حديث النفس بالغزو ..
وأعظم ثمرات الدعاء، أنه من أقوى أسباب النصر، وهو أمر قد ضمن الله نتيجته {وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ..
ولا يظنن ظان أننا حينما نتحدث عن الدعاء وأثره في الانتصار للمظلومين من الظالمين، أن ذلك يعني أن نكف عن أي عمل آخر غير الدعاء، ولكننا نذكر بالدعاء لأنه أول وآخر ما يلجأ إليه، ولا يترك بحال من الأحوال، ولا يعجز عنه إلا أعجز الناس .. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام)) ..
وَإِذَا لم يَكُنْ رَمَضَانُ هُوَ شَهرَ الدُّعَاءِ وَفُرصَةَ الابتِهَالِ وَالنِّدَاءِ، فَفِي أَيِّ شَهرٍ يَكُونُ ذَلِكَ؟ وَإِذَا لم يَستَغِلَّ العَبدُ مَوسِمَ الرَّحمَةِ لِيَرفَعَ إِلى مَولاهُ حَاجَاتِهِ وَرَغَبَاتِهِ، فَمَتى يَكُونُ ذَلِكَ؟ وَإِذَا كَانَ اللهُ حَيِيًّا كَرِيمًا، يَستَحِي إِذَا رَفَعَ العبد إِلَيهِ يَدَيهِ أَن يَرُدَّهُمَا صِفرًا، فَكَيفَ بِمَن شَفَتَاهُ مِنَ الصَّومِ ذَابِلَتَانِ، وَبَطنُهُ طَاعَةً لِرَبِّهِ فارغ، وَوقته جله ذاكر أو رَاكِع أوَ سَاجِد ؟ فكَيفَ بِهِ إِذَا رَفَعَ كَفَّيهِ وَنَاجَى رَبَّهُ عَلَى تِلكَ الحَالِ؟.
فَهَلُمَّ -عِبَادَ اللهِ- إِلى اللهِ في هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ المبارك ، فَبَينَ أَيدِيكُم الثُّلُثُ الأَخِيرُ مِنَ كل لَّيلِة، حَيثُ يَنزِلُ رَبُّنا إِلى سَّمَاءِه الدُّنيا نُزُولاً يَلِيقُ بِجلاله ، فَيُنَادِي خَلْقَهُ: هَلْ مِن سَائِلٍ فَأُعطِيَهُ؟ هَل مِن مُستَغفِرٍ فَأَغفِرَ لَهُ؟ هَل مِن تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيهِ؟ هَل مِن دَاعٍ فَأُجِيبَهُ؟. .. يَقُولُ -عليهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "إِنَّ في اللَّيلِ لَسَاعَةً لا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسلِمٌ يَسأَلُ اللهَ خَيرًا مِن أَمرِ الدُّنيَا وَالآخِرَةِ إِلاَّ أَعطَاهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ في كُلِّ لَيلَةٍ" .. وَبَينَ أَيدِيكُم السُّجُودُ في الصَّلَوَاتِ المَكتُوبَةِ، وفي قِيَامِ اللَّيلِ، وَأَقرَبُ مَا يَكُونُ العَبدُ مِن رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ .. وَبَينَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ وَقتٌ لِلدُّعَاءِ مُستَجَابِ، يَقُولُ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا نَادَى المُنَادِي فُتِحَت أَبوَابُ السَّمَاءِ، وَاستُجِيبَ الدُّعَاءُ". وَيَقُولُ عليه الصلاة والسلام: "الدُّعَاءُ بَينَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ مُستَجَابٌ فَادعُوا" .. وللصائم عند فطره دعوة لا ترد ، وَبين أيديكم آخِرِ سَاعَةٍ مِن ساعات يَومِ الجُمُعَةِ ، قَال صلى الله عليه وسلم: "يَومُ الجُمُعَةِ ثِنتَا عَشرَةَ سَاعَةً، مِنهَا سَاعَةٌ لا يُوجَدُ عَبدٌ مُسلِمٌ يَسأَلُ اللهَ فِيهَا شَيئًا إِلاَّ آتَاهُ اللهُ، فَالتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعدَ العَصرِ".
فَيَا أَيُّهَا الصَّائِمُونَ: أَينَ أَنتُم عَن هَذِهِ الفُرَصِ الكَبِيرَةِ لِلدُّخُولِ عَلَى مَلِكِ المُلُوكِ؟ وَاللهِ لَو فَتَحَ مَلِكٌ مِن مُلُوكِ الدُّنيَا لِلنَّاسِ بَابَهُ يَومًا لِيَرفَعُوا إِلَيهِ حَاجَاتِهِم وَيَبُثُّوهُ شَكَاوَاهُم، لَوَجَدتَ الزِّحَامَ عَلَى بَابِهِ كَثِيفًا، فَكَيفَ وَمَلِكُ المُلُوكِ هُوَ الذي يَفتَحُ البَابَ؟.
أَلا فَاتقوا الله مخلصين ، وادعُوا الرحمن مُوقِنِينَ، وَالجَؤُوا إِلى الرَّحِيمِ مُستَسلِمِينَ، وَارغَبُوا إِلى الكَرِيمِ مُخلِصِينَ، اُدعُوه دُعَاءَ المُضطَّرِّينَ، وَأَلِحُّوا عليه إِلحَاحَ المُنقطعين ، فَوَاللهِ لا غِنى لَنا عَن رَبِّنا طَرفَةَ عَينٍ! (أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكشِفُ السُّوءَ وَيَجعَلُكُم خُلَفَاءَ الأَرضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ، قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) ..
ثم صلوا عباد الله ..
الحمد لله القوي العزيز؛ ينصر أولياءه، ويكبت أعداءه، (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ) ، نحمده فهو أهل الحمد، ونشكره فنِعَمُهُ تَزِيدُ بالشُّكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ جعل رمضان شهر المواساة والرحمة، والنصر والنصرة، وأوجب على المسلم نصرة أخيه المسلم .. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ جمع الله تعالى به القلوب بعد افتراقها، وهدى به من ضلالها، فأزال شركها، ورفع جهلها، وعلَّمها ما ينفعها، (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) ، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واغتنموا الأوقات الفاضلة فيما يرضيه، وحققوا من الصوم معانيه، فصونوا أنفسكم عن المحرمات، وتسابقوا إلى الطاعات، وأكثِروا من القرُبات؛ لتفوزوا بأعالي الجنات ، (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) ..
أيها الإخوة في الله : جعل الله تعالى رابطة الإيمان أقوى الروابط، تُقطع كل الروابط بسببها، ولا تُقطع هي بسبب أي رابطة أخرى، وبرهان ذلك قول الله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) ، وقوله تعالى: (وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) ، وقوله تعالى: (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) .
وإذا استُضِيم مسلمٌ أو أُهين وجب على جماعة المسلمين بذل النصرة له بما يستطيعون، (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) ، ولا أقل من الدعاء .. أوسع أَبوَابِ الفَرَجِ، وأَوسَعُ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ، بَابٌ مَا طَرَقَهُ مُحتَاجٌ إِلاَّ قُضِيَت حَاجَتُهُ، وَلا وَلَجَهُ مُضطَّرٌّ إِلاَّ نُفِّسَت كُربَتُهُ، ذَكَرَهُ الكَرِيمُ في ثَنَايَا آيَاتِ الصِّيَامِ في سُورَةِ البَقَرَةِ، وَدَعَا إِلَيهِ الرَّحِيمُ عِبَادَهُ: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَستَجِيبُوا لي وَلْيُؤمِنُوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ) .. وَيَقُولُ -عليه الصلاةُ وَالسلامُ-: "أَعجَزُ النَّاسِ مَن عَجَزَ عَنِ الدُّعَاءِ". وقال عليه الصلاة والسلام-: "لا يرد القضاء إلا الدعاء" .. وقال أيضاً : "الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم -عباد الله- بالدعاء" ..
وحينما يحاصر المسلم من كل جهة، ويضيق عليه الخناق، فلا يستطيع الانتصار لنفسه، ولا لإخوانه المظلومين، تفتح له السماء أبوابها، وتأتيه منافذ الفرج، ويتنزل عليه مدد السماء، من رب الأرباب، وخالق الأسباب، مهلك الجبابرة، وقاصم القياصرة، الذي أهلك عاداً الأولى، وثمود فما أبقى، وقوم نوح من قبل، إنهم كانوا هم أظلم وأطغى .. مدد السماء الذي ينادي كل ليلة ((مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ)).
ألا إن رحمة الله تبارك وتعالى تتجلى في هذا السلاح الفتاك الذي منحه الله للمظلومين والمقهورين، والذي ينال به الإنسان المظلوم ممن ظلموه وقهروه وإخوانه، بل والله إن الملوك والزعماء الظلمة مهما بلغوا في الطغيان والتجبر ليسقطون بالدعاء.
هذا فرعون الذي بلغ من الطغيان والجبروت ما بلغ، حتى استعبد شعبه كله، وبلغ به من صلفه وغروره ما قاله الله جل وعلا: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يٰأَيُّهَا ٱلْملاَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يٰهَـٰمَـٰنُ عَلَى ٱلطّينِ فَٱجْعَل لّى صَرْحاً لَّعَلّى أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ * وَٱسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى ٱلأرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَـٰهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـٰهُمْ فِى ٱلْيَمّ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلظَّـٰلِمِينَ * وَجَعَلْنَـٰهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَيَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ لاَ يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَـٰهُم فِى هَذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَـٰمَةِ هُمْ مّنَ ٱلْمَقْبُوحِينَ} ،فدعا عليه نبي الله موسى: {وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوٰلِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلاْلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَٱسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} ..
عباد الله، لقد وردت أحاديث كثيرة تفيد أن دعوة المظلوم من الدعوات المستجابة، منها ما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه، لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن، وأوصاه، قال له في آخر وصيته: ((واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب)) .. وعند الترمذي والإمام أحمد وأبي داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ)).
وعن خزيمة بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اتقوا دعوة المظلوم، فإنها تُحمل على الغمام، يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)) .. وجاء في الأخبار أن أسد بن عبد الله القسري، وهو والي خرسان، مر بدار من دور الخراج، ورجل يعذب في حبسه، وحول أسد هذا مساكين يستجدونه، فأمر لهم بدراهم تقسم فيهم، فقال الرجل الذي يعذب: إن كنت تعطي من ترحم، فارحم من تظلم، إن السموات تنفرج لدعوة المظلوم، فاحذر من ليس له ناصر إلا الله، ولا جنة له إلا الثقة بنزول التغيير، ولا سلاح له إلا الابتهال إلى من لا يعجزه شيء .. يا أسد: إن البغي يصرع أهله، والظلم مصرعه وخيم، فلا تغتر بإبطاء الغياث من ناصر، متى شاء أن يغيث أغاث، وقد أملى لهم كي يزدادوا إثماً. وأورد ابن كثير في البداية والنهاية عن وهب بن منبه أحد أبناء الملوك ركب في جند من قومه وهو شاب فسقط عن فرسه فدقت عنقه فمات في أرض قريبة من قرية من القرى، فغضب أبوه وحلف أن يقتل أهل تلك القرية عن آخرهم وأن يطأهم بالأفيال، فما أبقت الأفيال وطئته الخيل، فما أبقت الخيل وطئته الرجال، فتوجه إليهم بعد أن سقى الأفيال والخيل خمراً، وقال: طؤوهم بالأفيال، فما أبقت الأفيال فلتطأه الخيل، فما أخطأته الخيل فلتطأه الرجال. فلما سمع بذلك أهل تلك القرية وعرفوا أنه قد قصدهم لذلك، خرجوا بأجمعهم فجأروا إلى الله سبحانه وعجّوا إليه وابتهلوا يدعونه تعالى ليكشف عنهم شر هذا الملك الظالم وما قصده من هلاكهم، فبينما الملك وجيشه سائرون على ذلك، وأهل القرية في الابتهال والدعاء والتضرع إلى الله تعالى إذ نزل فارس من السماء فوقع بينهم، فنفرت الأفيال فطغت على الخيل وطغت الخيل على الرجال فقُتل الملك ومن معه وطئاً بالأفيال والخيل، ونجى الله أهل تلك القرية من بأسهم وشرهم .. {أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء ٱلأرْضِ أَءلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}..
وخرج أحد الأمراء الظلمة يوماً .. فانتبه فإذا في جيبه رقعة لم يعرف من أين جاءت، فإذا مكتوب فيها: أما بعد، فإنكم ملكتم، فأسرتم، وقدرتم فأشرتم، ووسع عليكم، فضيقتم، وعلمتم عاقبة الدعاء، فاحذروا سهام السحر، فإنها أنفذ من وخز الإبر، لا سيما وقد جرحتم قلوباً قد أوجعتموها، وأكباداً أجعتموها، وأحشاء أنكيتموها، ومقلاً أبكيتموها، ومن المحال أن يهلك المنتظِِرون ويبقى المنتظَرون، فاعملوا إنا عاملون، وجوروا إنا بالله مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون {وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}
أما والله إن الظلـم شـؤم ومازال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصـوم
بارك الله ..
الحمد لله وكفى ..
وبعد: فيا أيها الأحبة الكرام، اعلموا أن للدعاء على أعداء الدين، فوائد جمة، ومنها:
- أن الدعاء في حد ذاته عبادة عظيمة، فقد ثبت في الحديث الصحيح عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قَالَ: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)) ..
فالداعي الصادق، يدعو وقد انقطع من كل من سوى الله جل وعلا، وتعلق نياط قلبه بالله وحده تعلقاً أشد من أي وقت آخر .. أمن يجيب المضطر ..
وفي الدعاء يتمثل التوحيد في أنقى صوره، وأسمى معانيه، ولذا أخبر القرآن الكريم عن أن الناس جميعاً في النوازل والنوائب لا يدعون إلاّ الله، {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} .. والدعاء على أعداء الدين بشتى أنواعهم ، تعبيرٌ صادقٌ عن عقيدة الولاء والبراء مركز عقيدة التوحيد جاء في الحديث ((أوثق عُرى الإيمان الحبُّ في الله والبغض في الله)) ..
والدعاء يحقّق للعبد استحضار صفاتِ الرب جل وعلا ، وزيادة الإيمان بها والشعور بعظمتها وجلالتها, فهو إقرار من المؤمن بأنّ القوة لله جميعاً، وأنّ العزة لله جميعاً، وأنّ الله خالق كل شيء, وأن الأمر كله لله .. فتصغر في عيونهم كل قوة مهما عظمت، مصداقا لقول الله: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}
ولا يخالجهم تردّدٌ في صدق وعده {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ}، {إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ}..
والدعاء على من اعتدى على أيَ من المسلمين، وبغى عليهم، علامةٌ ظاهرةٌ على إيمان العبد وتضامنه مع إخوانه المسلمين {إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}.. قال عليه الصلاة والسلام: ((مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم, مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمى)).
كما أن الدعاء على من يحارب المسلمين إحياءٌ لمعاني الجهاد في النفس؛ إذ إنّ ((إذ أن من لم يغز ولم يحدّث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية)) فالدعاء على من يحارب أهل السنة نوع من حديث النفس بالغزو ..
وأعظم ثمرات الدعاء، أنه من أقوى أسباب النصر، وهو أمر قد ضمن الله نتيجته {وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ..
ولا يظنن ظان أننا حينما نتحدث عن الدعاء وأثره في الانتصار للمظلومين من الظالمين، أن ذلك يعني أن نكف عن أي عمل آخر غير الدعاء، ولكننا نذكر بالدعاء لأنه أول وآخر ما يلجأ إليه، ولا يترك بحال من الأحوال، ولا يعجز عنه إلا أعجز الناس .. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام)) ..
وَإِذَا لم يَكُنْ رَمَضَانُ هُوَ شَهرَ الدُّعَاءِ وَفُرصَةَ الابتِهَالِ وَالنِّدَاءِ، فَفِي أَيِّ شَهرٍ يَكُونُ ذَلِكَ؟ وَإِذَا لم يَستَغِلَّ العَبدُ مَوسِمَ الرَّحمَةِ لِيَرفَعَ إِلى مَولاهُ حَاجَاتِهِ وَرَغَبَاتِهِ، فَمَتى يَكُونُ ذَلِكَ؟ وَإِذَا كَانَ اللهُ حَيِيًّا كَرِيمًا، يَستَحِي إِذَا رَفَعَ العبد إِلَيهِ يَدَيهِ أَن يَرُدَّهُمَا صِفرًا، فَكَيفَ بِمَن شَفَتَاهُ مِنَ الصَّومِ ذَابِلَتَانِ، وَبَطنُهُ طَاعَةً لِرَبِّهِ فارغ، وَوقته جله ذاكر أو رَاكِع أوَ سَاجِد ؟ فكَيفَ بِهِ إِذَا رَفَعَ كَفَّيهِ وَنَاجَى رَبَّهُ عَلَى تِلكَ الحَالِ؟.
فَهَلُمَّ -عِبَادَ اللهِ- إِلى اللهِ في هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ المبارك ، فَبَينَ أَيدِيكُم الثُّلُثُ الأَخِيرُ مِنَ كل لَّيلِة، حَيثُ يَنزِلُ رَبُّنا إِلى سَّمَاءِه الدُّنيا نُزُولاً يَلِيقُ بِجلاله ، فَيُنَادِي خَلْقَهُ: هَلْ مِن سَائِلٍ فَأُعطِيَهُ؟ هَل مِن مُستَغفِرٍ فَأَغفِرَ لَهُ؟ هَل مِن تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيهِ؟ هَل مِن دَاعٍ فَأُجِيبَهُ؟. .. يَقُولُ -عليهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "إِنَّ في اللَّيلِ لَسَاعَةً لا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسلِمٌ يَسأَلُ اللهَ خَيرًا مِن أَمرِ الدُّنيَا وَالآخِرَةِ إِلاَّ أَعطَاهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ في كُلِّ لَيلَةٍ" .. وَبَينَ أَيدِيكُم السُّجُودُ في الصَّلَوَاتِ المَكتُوبَةِ، وفي قِيَامِ اللَّيلِ، وَأَقرَبُ مَا يَكُونُ العَبدُ مِن رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ .. وَبَينَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ وَقتٌ لِلدُّعَاءِ مُستَجَابِ، يَقُولُ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا نَادَى المُنَادِي فُتِحَت أَبوَابُ السَّمَاءِ، وَاستُجِيبَ الدُّعَاءُ". وَيَقُولُ عليه الصلاة والسلام: "الدُّعَاءُ بَينَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ مُستَجَابٌ فَادعُوا" .. وللصائم عند فطره دعوة لا ترد ، وَبين أيديكم آخِرِ سَاعَةٍ مِن ساعات يَومِ الجُمُعَةِ ، قَال صلى الله عليه وسلم: "يَومُ الجُمُعَةِ ثِنتَا عَشرَةَ سَاعَةً، مِنهَا سَاعَةٌ لا يُوجَدُ عَبدٌ مُسلِمٌ يَسأَلُ اللهَ فِيهَا شَيئًا إِلاَّ آتَاهُ اللهُ، فَالتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعدَ العَصرِ".
فَيَا أَيُّهَا الصَّائِمُونَ: أَينَ أَنتُم عَن هَذِهِ الفُرَصِ الكَبِيرَةِ لِلدُّخُولِ عَلَى مَلِكِ المُلُوكِ؟ وَاللهِ لَو فَتَحَ مَلِكٌ مِن مُلُوكِ الدُّنيَا لِلنَّاسِ بَابَهُ يَومًا لِيَرفَعُوا إِلَيهِ حَاجَاتِهِم وَيَبُثُّوهُ شَكَاوَاهُم، لَوَجَدتَ الزِّحَامَ عَلَى بَابِهِ كَثِيفًا، فَكَيفَ وَمَلِكُ المُلُوكِ هُوَ الذي يَفتَحُ البَابَ؟.
أَلا فَاتقوا الله مخلصين ، وادعُوا الرحمن مُوقِنِينَ، وَالجَؤُوا إِلى الرَّحِيمِ مُستَسلِمِينَ، وَارغَبُوا إِلى الكَرِيمِ مُخلِصِينَ، اُدعُوه دُعَاءَ المُضطَّرِّينَ، وَأَلِحُّوا عليه إِلحَاحَ المُنقطعين ، فَوَاللهِ لا غِنى لَنا عَن رَبِّنا طَرفَةَ عَينٍ! (أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكشِفُ السُّوءَ وَيَجعَلُكُم خُلَفَاءَ الأَرضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ، قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) ..
ثم صلوا عباد الله ..