وفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عظيم

إبراهيم بن صالح العجلان
1441/12/02 - 2020/07/23 03:40AM

وفديناه بذبح عظيم 3 / 12 / 1441 هـ

معاشر المسلمين:  

اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وبوَّأه ربُّه مَكانًا جَلِيلًا، وَمَكَثَ الخليلُ لم يُرزقْ وَلدًا زَمَنًا طَويلًا، فَاْبْتَهَلَ إلى اللهِ: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)؛ فَجاءَتهُ البُشارةُ مِنَ الكَرِيمِ الرَّحيمِ: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ)

وَلَدَتْ هَاجرُ إسماعيلَ، وأحبَّ إبراهيمُ عليه السلام هذا المولودَ الوَحِيْدَ حُبًّا عَظيماً شَديدًا.

مَضَتْ سُنُونُ إسماعيلَ عليه السلام، تَحُفُّهُ شَفَقَةُ الوالدُ الكَهْلُ وَعَيْنَاهُ، حتى كَبُرَ الغُلَامُ وَتَفَتَّحَ صِبَاهُ، وَبَلَغَ السَّعْيَ مَعَ وَالدِه وَتَلقَّاه، فأَصْبَحَ جَلِيْسَهُ وَرَفِيْقَهُ في الحياة، وَالوَالِدُ حينما يَكْبُرُ في السِّنِ يَزْدَادُ ضَعْفُه، وَيَبْدَأُ في الاعْتِمادِ على وَلَدِهِ، وَيَزْدادُ تَعَلُّقًا به.

وفي ليلةٍ غيرِ مُنْتَظَرَةٍ رَأَى الخليلُ في مَنَامَهَ أنَّه يَذْبَحُ وَلِيْدَهُ وَوَحِيْدَهُ، وَرُؤْيَا الأنْبياءِ حَقٌّ، فَأَدْرَكَ حِيْنَها أنَّها إِشارةٌ مِنْ ربِّه بالتَّضْحِيَةِ.

ما اعْتَرَضَ إبراهيمُ ولا عارضَ، وما تَوقَّفَ ولا نَاهَضَ، وإنَّما لبَّى واستجابَ، وخَضَعَ لِلْأَمْرِ وَأَنَابَ.

 فيا لله تعالى، أيُّ اسْتِسْلامٍ وتَسْلِيْمٍ هذا، لم يُطْلَبْ منه أنْ يُرْسِلَ بابْنِهِ الوَحِيْدِ إلى مَعركة، ولا أنْ يُكَلِّفَهُ بأَمْرٍ تَنْتَهِي به حياتُه، وإنَّما يُطلبُ إليه أن يتولَّى هو بيده.

 يَتولَّى ماذا ؟ يَتولى ذبْحَ ابنَهُ بيديه!!

فيا لله أي قلوب ومهج بشرية تطيق هذا البلاء، (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ).

(حتى إذا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ).

 (يَا بُنَيَّ) هكذا بالتَّصْغيرِ، إنَّها عبارةُ تَحْمِلُ في طيَّاتِها حَنانَ الأُبُوَّةِ المشحونةِ بعاطفةِ الحبِ، لِيَعْرِضَ عَليه هذا المصيرَ المفْجِعَ.

(فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)، أرادَ إبراهيمُ أنْ يُشْرِكَ ولدَهُ معه في هذا الاختبار، وألَّا يأخذَهُ على غِرَّة، حتى لا تتغيرَ نفسُه نحوَ أبيه فيكْرَههُ وهو لا يَعْلَمُ ما حَدَث، وأراد أيضًا ألَّا يحرم ولدَه من الثوابِ والأجْرِ، على الاستجابة للطاعة والصبر.

فماذا أجابَ إسماعيلُ؟ ماذا أجابَ الفتى الصغير، بعد سماع هذا المصير، الذي يَقِفُّ له الشَّعْرُ، وتَنْفَجِرُ منه المشاعِرُ، هل عَبَسَ وَبَسَرَ، واسْتَنْكَفَ وتَضَجَّرَ؟ هل اعترض بأنَّها رؤيا، وليست وحْيَا ؟  كلا.

وإنما قال مُسَلِّمًا ومُسْتَسْلِمًا: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)، هذا جوابُ الابْنِ الصَّابرِ المحتسب البارّ، لقد امْتَلكَ تَوازُنه، ولم يَخْرجْ عن رشْدِه، ولسان حاله:

مرحبا بالقَدَرِ والمنايا، إذا كان الأمرُ منْ ربِّ البرايا.

ولأنَّ الصبر في مثلِ هذه المواطنِ غير مَضْمونٍ احتاجَ إلى الاستعانةِ بالله، فقال: (سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)

استجابَ الابنُ وأَبيه، لأمرٍ عَصِيبٍ وكَرِيْهٍ، طاعةً لله وامتثالًا، وانقيادًا للحكيمِ واسْتِسْلاما.

(فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)، ما أعظمها من لحظةٍ تَنْهارُ فيها الأعْصابُ، وتَنْحَبِسُ معها الأَنْفَاسُ، وَتَتَهاوى حينها القُوَى، وَيَضِيْعُ لحْظَتَها العقلُ والتَّفكيرُ.

(فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)، أضْجَعَهُ على وجهِه لئلا ينظرَ إليه وقتَ الذَّبحِ، ولكَ أن تتخيلَ حالَهما في تلكَ اللَّحظةِ التي لا يُستطاع تصويرها.

إنها مواقف لا يستطيعها إلا الإيمانُ العظيم.

يَمضي إبراهيمً بيمينه السكين، وبشماله الجبين، وإسماعيل يتحيَّنُ لحظةَ الموت، وما أصعبَ انتظارَ الموت.

أرأيتـم قلْـبًا أَبَوِيَّاً  ***  يَتَقَبَّلُ أمْرًا يأباهُ

أَرَأَيْتُم ابْنَاً يَتَلَقَّى ***  أَمْراً بالذَّبْحِ وَيَرْضَاهُ

ويُجيبُ الابنُ بِلَا فَزَعٍ *** اِفْعَلْ مَا تُؤْمَرْ أبتاهُ

لَنْ أَعْصِيَ لِإِلَهِي أمْرًا *** مَنْ يَعْصِيْ يَوْمًا مَوْلَاهُ

واسْتَلَّ الوَالِدُ سِكِّيْنَاً *** وَاسْتَسْلَمَ اِبْنٌ لِرَداهُ

أَلْقَاه بِرِفْقٍ لِـجَبِيْنٍ *** كَيْ لَا تَتلقَّى عيناهُ

وحين بَلَغَ إبراهيمُ وإسماعيلُ هذه الدرجةَ من التَّسْليمِ، وَظَهَرَ صِدْقُهُما، إذا بالنِّداءِ الرَّحيمِ يأتي من ربِّ العالمين: (أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)

نَجْزِيْهِم بِنَجَاحِهِم في الاستجابةِ لأَشَدِّ البلاء، ونَجْزِيْهم بِرَفْعِ ذِكْرهم عند أهل الأرضِ والسماء، وَنَجْزيهم كذلك بإبقاء ذكرهم خالِدَاً مخلَّدًا إلى يوم الجزاء!

(وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)، عظيمٌ لأنَّه كان فداءً لإسماعيل، وعظيمٌ لأنَّه من جملة العبادات الجليلة، وعظيمٌ لأنه بقي قربانا وسُنَّة إلى يوم القيامة.

(وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ)، فبقي بلاءُ إبراهيمَ أعظمَ العِبَر والأمثال، وبقي اسمُه مذكورًا على توالي القرونِ والأجيال، وأصبحَ لوحده قدوة وأُمَّة، ومن نسْلِهِ جاءُ الأنبياء، ومن دعوتِهِ بُعِثَ خيرُ الأصفياءِ، فكان أولى الناس به، وكانت أُمَّتُه الإسلامية المسلمة أولى الناس به، اتَّبعته، ووَرِثَتْ مِلَّتَهُ، (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....

الخطبة الثانية:

أما بعدُ فيا أخي المضحي: اسْتَشْعِرْ هذه النيةَ الطيبةَ وأنتَ تضحي، أنكَ تسير على درب إبراهيم، واستشعر تضحية الخليل الخالدة الوحيدة.

لا يكن ذَبْحُنا للأضحيةِ مجردَ عادة، أو طلبَ ثواب، دون أن يكون لها معنى إيماني نتربَّى عليه، فالأضحيةُ اقتداءٌ بالأنبياء وإيمان، وتوسعةٌ وإحسان، وشكرٌ للرحمن.

والأضحيةُ في أصلِها سنةٌ مؤكَّدة، ومن أرادَ أنْ يُضحيَ فليُمْسِكَ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ، فَلَا يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا؛ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : (إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ)؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمَنْ أَخَذَ مِنْ شَعْرِهِ وَظُفْرِهِ لِحَاجَةٍ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَصَّ مِنْ شَعْرِهِ وَظُفْرِهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ وَعَدَمُ الْعَوْدَةِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.

وَهَذَا الْحُكْمُ فِي الْمَنْعِ مِنْ أَخْذِ الشَّعْرِ وَالْأَظْفَارِ خَاصٌّ بِصَاحِبِ الْأُضْحِيَةِ، أَمَّا الْأَهْلُ وَالْأَوْلَادُ وَمَنْ يُضَحَّى عَنْهُمْ، فَلَا يَلزَمُهُمْ ذَلِكَ.

ويُشْرَعُ لِلْمُضَحِّي أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَتِهِ، وَيُهْدِي وَيَتَصَدَّقُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}، وَقَالَ أَيْضًا: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}، وَالْقَانِعُ: هُوَ السَّائِلُ الْمُتَذَلِّلُ، الْمُعْتَرُّ: هُوَ الْمُتَعَرِّضُ لِلْعَطِيَّةِ دُونَ سُؤَالٍ.

ووَقْتُ ذبْحِ الأضحية مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَيَمْتَدُّ وَقْتُهَا إِلَى غُرُوبِ شَمْسِ يَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ.

وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْأُضْحِيَةُ صَحِيحَةً سَلِيمَةً، خَالِيَةً مِنَ الْعُيُوبِ، وَخَيْرُ الْأَضَاحِي أَغْلَاهَا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ: "وَالْأَجْرُ فِي الْأُضْحِيَةِ عَلَى قَدْرِ الْقِيمَةِ مُطْلَقًا".

هَذَا وَإِنَّ ذَبْحَ الْأُضْحِيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ هُوَ مِنْ تَعْظِيمِ الشَعَائِرِ ، وَسَبِيلٌ لِحُصُولِ التَّقْوَى في الضَّمائر {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}، {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}.

صلوا بعد ذلك على خير البرية، وأزكى البشرية.

المشاهدات 3272 | التعليقات 2

شكر الله لكم .

خطبة راائعة كعادتكم.

أقترح إرفاق الخطب دوما في ملف ( وورد ) ليسهل النسخ [ كطريقة الشيخ إبراهيم الحقيل ].

وشكر الله لكم 


مرحبا بالشيخ أحمد ... وشكر الله لكم تشجيعكم 

أرفقت الخطبة بملف وورد، ولا أدري لماذا لم تظهر !!

سأعيد إرفاقها ثانية .. 

المرفقات

https://khutabaa.com/forums/رد/361357/attachment/%d9%88%d9%81%d8%af%d9%8a%d9%86%d8%a7%d9%87-%d8%a8%d8%b0%d8%a8%d8%ad-%d8%b9%d8%b8%d9%8a%d9%85-4

https://khutabaa.com/forums/رد/361357/attachment/%d9%88%d9%81%d8%af%d9%8a%d9%86%d8%a7%d9%87-%d8%a8%d8%b0%d8%a8%d8%ad-%d8%b9%d8%b8%d9%8a%d9%85-4