وعاد رمضان …

د محمد بن حمد الهاجري
1445/08/27 - 2024/03/08 10:31AM
ساعات قليلة ويحل علينا صاحب الأيادي البيضاء، الذي إذا أعطى لم ينتظر الجزاء، يغمرنا خيره ونواله طوال أيام السنة، ونتقلب في نعمائه وشحناته الإيمانية العالية بين الحين والآخر، يربي الضمائر، ويهذب النفوس، وينسج بمنواله لباس الخشية فيتدرع به القلب عن مقارفة الموبقات أو مجاورة الفواحش والسيئات 
مناسبة قريبة أرَّق انتظارها عيون العُبَّاد وطارت شوقا إليها قلوب الأمجاد، وما ذلك إلا لما تحمله في طياتها من البشائر وما تأتي به من العطايا والبركات والذخائر؛ أعرفتموها -معشر المؤمنين-؛ إنها المناسبة التي تسمو بها الأرواح ويتقرب العبد فيها من ربه الفتاح ويسعى فيها الصادقون للتغيير والإصلاح والسباق في ميادين الخير والفلاح؛ محطة التزود بالطاعات والتوبة من الخطيئات، وهي -كذلك- نزهة المؤمنين وجنة العاشقين؛ إنها مناسبة حلول شهر رمضان الفضيل وموسم اغتنام نفحات الواحد الجليل. 
عباد الله: يدخل علينا هذا الضيف الكريم وهو أحد مكرمات الكريم الرؤوف؛ فما هو حجم استعدانا لهذا الضيف الكريم؟ وما هو طموحنا مع خيره العميم؟ هل سنحسن استقباله؟ وهل خططنا لاستغلال ساعاته وأوقاته؟ وهل عزمنا على الاجتهاد فيه؟ أسئلة كثير مع قدوم شهر رمضان المبارك؛ نسأل الله أن يبلغنا شهوده وأن يجعلنا من وفوده؛ إن ربي جواد كريم. 
إنه رمضان، خير زائر يتخولنا بالزيارة بين الحين والحين، فيلقى أناسًا ويودع آخرين، فبالله مَنْ يستقبل مَنْ؟! أنحن الذين نستقبل شهرًا لا محالة آتٍ في كل عام، أم هو الذي يستقبل الأحياء منا ويودع الأموات؟! أنحن المقبلون عليها بمعاصينا وذنوبنا وآفاتنا وحوبتنا، أم هو الذي يقبل علينا بخيره وإيمانياته وتقواه التي تصلح خلل القلوب وعيب النفوس؟! وليت شعري هل يأتينا رمضان القادم ونحن في قوة وشباب وقدرة على العمل فنحسن استقباله، أم في ضعف وهرم وقعود فنسيء استقبال الزائر الكريم؟! إنها فرصة لاغتنام موسم من مواسم الخير ومدارج الطاعة، يرتقي فيه العبد إلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين، ليلقى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
أيُّهَا الكِرَام: الكونُ كلُّه يتأهبُ لرمضان، نعمْ فهذه أبوابُ السماءِ تُفتَح، وأبوابُ الجنةِ تُفتَح، وأبوابُ النارِ تُغلَق، وتسلسلُ مردةُ الشياطين، إنها فرحةُ الكونِ كله، إنَّ الكونَ كلَّه لينتشي بهجةً بسيدِ الشهور.
 
وكيفَ لَا يشتاقُ المسلمُ إلى رمضانَ وقد جفتِ الأرواح، وتصحرتِ القلوب؟ فغدا رمضانُ للقلوبِ الأملَ في ريِّها بالقرآن، والمنبعَ الذي تتزودُ فيه النفوسُ من زادِ التقوى. 
رَمَضَانُ فِي قَلْبِي هَمَاهِمُ نَشْوَةٍ *** مِنْ قَبْلِ رُؤْيَةِ وَجْهِكَ الوَضَّاء
قَالُوا بِأَنَّكَ قَادِمٌ فَتَهَلَّلَتْ *** بِالبِشْر أَوْجُهُنَا وَبِالخُيَلاءِ
وَتَطَلَّعَتْ نَحْوَ السَّمَاءِ نَوَاظِر *** لِهِلالِ شَهْرِ نَضَارَةٍ وَرُوَاءِ
تَهْفُو إِلَيْه وَفِي القُلُوبِ وَفي النُّهَى *** شَوْقٌ لِمَقدَمِهِ وحُسنُ رجاءِ
 إننا مدعوون لحفل نستقبل فيه قلوبنا ونفوسنا الزكية التي يلفها نسيم رمضان، فيتخلل بأشعته المنسابة الرقراقة أعماق القلب فينقيه، وأغوار الروح فيعليها ويرفعها، وجذور النفس فيرويها بماء الحياة، لتنبت شجرة إيمان أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. 
وبهذه المناسبة الغالية المباركة : أدعوكم -أحبتي في الله،ونفسي- لأن نفتح صفحةً جديدةً مع الله، ولتكن صفحةً بيضاء مشرقة، نبدؤها بتوبةٍ صادقة، ونيةٍ جادةٍ عازمة، أن لا نتهاون في استثمار هذه الفرصة كما تهاونَّا في غيرها من الفرص السابقة، فرمضان شهرٌ عظيمٌ، وموسمٌ كريمٌ، شهرٌ مبارك، تضاعفُ فيه الحسنات، وتمحى فيه السيئات، وتقبلُ فيه التوبات. أخرج ابن ماجه بسندحسن عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلةٌ خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولايُحرم خيرها إلا محروم". 
 
فرحم الله عبداً سارع إلى طاعة مولاه، واطرح شهوته وغلب هواه؛ فكان له من عظيم الأجر ما تقر به عيناه،(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:30]. 
               والأمر جدٌ وهو غير مزاحِ *** فاعمل لنفسك صالحًا يا صاحِ
 
ولنكن صرحاء مع أنفسنا يا عباد الله، فطالما حدثْنا أنفسنا باغتنام فرصة رمضان، ولطالما عاهدنا أنفسنا قبل دخوله بأَوْبةٍ حَقّةٍ، وتوبةٍ صادقةٍ، ولكم وكم سوفنا بذلك! وما إن تأتي الفرصة العظيمة، حتى يقضي الشيطانُ على الأمنية، وتنكثُ النفسُ الأمارةُ بالسوءعهدها!.
 
فحري بكل مسلم يقْدِر لرمضان قدْرَه، ويعرف شرفه وفضله، أن يستقبله أحسن استقبال، وأن يفرحَ بقدومه غاية الفرح، وأن يستعد له أحسن استعداد، وأن يُقبل عليه أفضل إقبال
 
الخطبة 2
 
عن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "أتاني جبريل فقال: يا محمد،مَن أدرك شهر رمضان فمات ولم يغفر له فأُدخل النارفأبعده الله، قل: آمين. فقلت: آمين".
 
رمضان أحبتي في الله- فرصةٌ، وأيّ فرصة، زمانٌ لايضاهيه زمان، وموسم لا يدانيه موسم، وهو يدعونا للجدوالعمل، وترك التواني والكسل، إنه -كما قال الله تعالى-: (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) [البقرة:184]. فجدوا في اغتنامها بالخيرات، وسارعوا في عمارتها بالصالحات، واحذروا أن تضيعوا شيئاً منها في التفاهات والترهات. 
 
وهيا، لنأخذ عهداً على أنفسنا: فــــ لا لِلّغو والرفث في رمضان، و لا لقنوات اللهو والعبث في رمضان، و لالضياع الأوقات سدى في رمضان
وَأَخِيرًا -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- فَإِنَّ ثَمَّةَ مِيزَانًا دَقِيقًا لِضَبطِ النَّفسِ في رَمَضَانَ، وَمِفتَاحًا مُهِمًّا لِلتَّغيِيرِ، وَبَابًا عَظِيمًا إِلى إِصلاحِ النَّفسِ، وَإِلزَامِهَا التَّزَوَّدَ مِنَ الخَيرِ وَالكَفَّ عَنِ الشَّرِّ، ذَلِكُم هُوَ الصَّلاةُ، نَعَم -أَيُّهَا الإِخوَةُ- إِنَّهَا الصَّلاةُ؛فَمَن أَرَادَ ضَبطَ نَفسِهِ، وَعَزَمَ صَادِقًا عَلَى الاستِفَادَةِ مِن شَهرهِ؛ فَلْيَضبِطْ أَمرَ صَلاتِهِ، وَلْيُحَافِظْ عَلَيهَا في وَقتِهَا وَمَعَ جَمَاعَةِ المُسلِمِينَ في المَسَاجِدِ، وَلْيَحرِصْ عَلَى أَلاَّ تَفُوتَهُ تَكبِيرَةُ الإِحرَامِ وَقتًا وَاحِدًا، وَإِنِّي -وَاللهِ- لَضَامِنٌ لِمَن كَانَ هَذَا شَأنَهُ، أَن يُبَارَكَ لَهُ في شَهرِهِ وَوَقتِهِ، وَأَن يُحَبَّبَ إِلَيهِ سَائِرُ الخَيرِ وَتَخِفَّ إِلَيهِ نَفسُهُ، وَأَن يَجِدَ مِنهَا إِقبالاً عَلَى قِرَاءَةِ القُرآنِ وَالقِيَامِ، وَرَغبَةً في الصَّدقَةِ وَتَفطِيرِ الصُّوَّامِ، وَسَيَكُونُ عَلَى حَسَنَاتِهِ حَرِيصًا، وَبِأَوقَاتِهِ شَحِيحًا أَلا تَضِيعَ في مُتَابَعَةِ القَنَوَاتِ وَمُحبِطَاتِ الأَعمَالِ مِنَ المُسَلسَلاتِ، وَسَيَجِدُ في نَفسِهِ عُزُوفًا عَنِ الشَّهَوَاتِ وَالتِفَاتًا عَنِ المُلهِيَاتِ، وَتَلَذُّذًا بِالطَّاعَاتِ، مِصدَاقُ ذَلِكَ في كِتَابِ اللهِ، حَيثُ قَالَ -سُبحَانَهُ-: (فَخَلَفَ مِن بَعدِهِم خَلفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ)
 
عباد الله: إنه قد مرّ علينا أحد عشر شهرًا، الله أعلم ما أسلفنا فيها -وكلنا ذو خطأ-، والله وحده أعلم بالذنوب التي تراكمت على أظهرنا، وبالخطايا التي سوّدت صحائفنا، وبالتقصير والإهمال الذي انتاب أيامنا وليالينا، وهذا شهر عظيم مبارك قد أظلنا، شهر البركة وشهر التوبة، فلنكن من عباد الله الربانيين التائبين المستغفرين، فلنستقبل شهر الله المعظم هذا بالتوبة إلى الله العظيم؛ استجابة لنداء الله لنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) [التحريم: 8]. 
ولنقبل على الاستغفار إقبال العطشى والحائرين، يقول التواب الرحيم، واسع المغفرة والإحسان، في الحديث القدسي الصحيح: "يا ابن آدم: إنّك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم: لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثمّ استغفرتني غفرت لك ولا أبالي"
 
يا من إليه جميع الخلق يبتهـلُ *** وكل حيّ على رحماه يتكّـلُ
أنت المنادى به في كلّ حادثة *** أنت الإله وأنت الذخر والأملُ
أنت الرجاء لمن سدّت مذاهبه *** أنت الدليل لمن ضلت به السبلُ
إنا قصدناك والآمال واقعـة *** عليك والكل ملهوف ومبتهـلُ
 
الكلّ من عباد الله ملهوف إلى الله، مبتهل إلى الله، ملهوف إلى رحمة الله في رمضان، مبتهل إلى الله أنْ يعتقه في رمضان، ملهوف إلى نفحات الله في رمضان، مبتهل إلى الله أن يعفو عنه في رمضان
 
المشاهدات 693 | التعليقات 0