وعاء الدين والثقافة (نص + وورد + بي دي إف).

عاصم بن محمد الغامدي
1439/04/03 - 2017/12/21 21:35PM
الخطبة الأولى:
الحمد لله أنزل الذِّكر بلسان عربي وحفظه، ودَلَّ عبده على طريق الهدى وبَشَّرَه وأنذره ووعظه، له الملكُ وله الحمد، بسط الآمال ونشرها، وطوى الآجال وسترها، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أنَّ سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، بَلَّغَ الرسالة، وأَوْضَحَ الدَّلالة، صَلَّى الله وسلم وباركَ عليه وعلى آله المُكَرَّمينَ الأطهار، وأصحابه السَّادة الأبرار، والتَّابعين ومَنْ تبعهم بإحسانٍ ما تعاقَبَ اللَّيل والنَّهار، وسَلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فتقوى الله عليها المُعوَّل، وعليكم بما كان عليه السلفُ الصالحُ والصدرُ الأول، سارِعوا إلى مغفرة ربِّكم ومرضاته، وأجيبُوا داعِي ربِّكم إلى دار كرامتِه وجنَّاته.
عباد الله:
من رحمة الله بخلقه، ما وهبه لهم من أساليب النطق، ومكنهم منه من طرق البيان، {الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، واقتران هذه النعمة بنعمة الخلق، وتعليمِ القرآن، يدل على مكانتها، وعظم شأنها.
واختلاف الناس في طبائعهم وأفكارهم، ألقى بظلاله على لغاتهم وكلامهم، حتى بلغت اللغاتُ الحيةُ اليومَ أكثرَ من مئة لغة، [https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%82%D8%A7%D8%A6%D9%85%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D8%A7%D8%AA_%D8%AD%D8%B3%D8%A8_%D8%B9%D8%AF%D8%AF_%D9%85%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D8%AB%D9%8A%D9%87%D8%A7_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B5%D9%84%D9%8A%D9%8A%D9%86].
قال الله جل جلاله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}، هذا غير اللهجات المتعددة، واللغات المندثرة، التي استخدمت وعاءً للدين والثقافة، ووسيلةً لنقل العلوم والمعارف.
عباد الله:
أجلُّ اللغات وأكبرُها قدرًا ومكانة، هي اللغة التي اختارها ربُّ العالمين، لتكون حاوية لكتابه المبين، {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}.
وبها تحدث خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، وحثَّ الأمة على تعلُّمها، قال عليه الصلاة والسلام: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ». [رواه البخاري].
وفي مصنف ابن أبي شيبة أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى رضي الله عنه: "أَمَّا بَعْدُ فَتَفَقَّهُوا فِي السُّنَّةِ، وَتَفَقَّهُوا فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَأَعْرِبُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ". [رواه ابن أبي شيبة في مصنفه برقم 30534].
وكانَ رضي الله عنه يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ مرةً فسَمِعَ رَجُلَيْنِ خَلْفَهُ يَرْطُنَانِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمَا فَقَالَ لَهُمَا: «ابْتَغِيَا إِلَى الْعَرَبِيَّةِ سَبِيلًا». [رواه عبدالرزاق في مصنفه برقم 9793].
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ} فَسَكَتَ النَّاسُ، فَقَالَ شَيْخٌ مِنْ بَنِي هُذَيْلٍ: هِيَ لُغَتُنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، التَّخَوُّفُ التَّنَقُّصُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَتَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ شَاعِرُنَا أَبُو كَبِيرٍ الْهُذَلِيُّ يَصِفُ نَاقَةً:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا *** كَمَا تَخَوَّفَ عودَ النبعةِ السَفَنُ.
فَقَالَ عُمَرُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِدِيوَانِكُمْ شِعْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ فِيهِ تَفْسِيرَ كِتَابِكُمْ وَمَعَانِيَ كَلَامِكُمْ. [تفسير القرطبي 10/110].
أيها المسلمون:
شعار الأمة لغتها، فهي الرابطُ بين تاريخها وحاضرها، الناقلُ لفكرها وثقافتها، الحافظ لتراثها وأصالتها، ومكانة اللغة العربية مرتبطة بالقرآن الكريم، الذي نزل بها، وتكفل الله تعالى بحفظها من خلال حفظه، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
والعربيُّ اليوم يقرأ قصيدة العربي قبل أكثر من ألف عام فيفهمها، ويعرف مقاصده فيها، بينما يعجز المتحدث ببعض اللغات الأعجمية، عن فهم ما قاله بعض أجداده القريبين.
ومع هذه المكانة للُّغة العربية، إلا أن بعض أبنائها أهملوها، ولم يعرفوا قدرها، لأسباب شخصية، أو مآربَ مخفية، فأهملوا تعليمها لأولادهم، وبذلوا كل ما يستطيعون لتعليمهم غيرها، غافلين عن آثار ذلك على حاضرهم ومستقبلهم، حتى أصبحنا نرى من شباب المسلمين العرب من يتقن غير العربية أكثر مما يتقنها، ولا يحسن الحديث بها بغير لحن.
وتعضَّدت هذه الغفلةُ بجهود الأعداء، الذين ما فتئوا يحاولون طمس هوية المسلمين، بطمس فهمهم للغة القرآن، عن طريق مزاحمتها بغيرها، مما لا يصل إلى عشر معشار فضلها، وبالتهوينِ من شأنها، والسخريةِ من المشتغلين بها، والتهكمِ بها في وسائل الإعلام، والقَصص، والروايات، والمسرحيات، في سياسات مرسومة، وحملات مكثفة.
حتى اضطربت في بعض المجتمعات الإسلامية لغة التخاطب، وتحولت سوقُ العمل فيها إلى بيئات أجنبية، في كلامها وإعلاناتها ولوحاتها وقوائم سلعها، وأصبحت لا تمثل أهل البلد، ولا ثقافتهم.
بينما يشهد التاريخ والحاضر، أن أي أمةٍ تروم التقدمَ والقوةَ والعزةَ والاعتمادَ بعدَ اللهِ على نفسِها لا يمكن أن تحصل على ذلك بلغة غيرها.
وزعَم البعض أن اللغة العربية غير قادرة على مواكبة العصر، وذلك أمر عجيب، فقد استطاعت لغة القرآن على مر العصور تحقيق متطلبات المجتمع الدينية والعلمية، والاقتصادية والاجتماعية، والسياسية والعسكرية، في عصر النبوة، ثم الخلافة الراشدة، ثم في حكم بني أمية، وما وافقه من تعريب الدواوين، ونظم الإدارة للمجتمعات المختلفة، كما استجابت اللغة لحاجات الحضارة أيام بني العباس، وما واكبها من حركة الترجمة، بل كانت لغة العلم والبحث العلمي، في الطب، والعلوم، والرياضيات، والفلك، والهندسة، وغيرها.
وسعتُ كتابَ اللهِ لفظًا وغايةً *** وما ضِقْتُ عَنْ آيٍ بهِ وعِظاتِ
فكيفَ أضيقُ اليومَ عَنْ وَصْفِ آلةٍ *** وتَنسيقِ أسماءٍ لمخترعاتِ؟
عباد الله:
لم تضعف اللغة العربية ولم تعجز، ولكنْ ضَعُفَ أبناؤها، وقصَّر حماتها، والعودة إلى ميادين الحضارة، ودروب العزة، تبدأ من ميدان اللغة التي تربط الأمة بدستورها الخالد القرآن العظيم.
جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين.
 
الخطبة الثانية:
الحمدلله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن السبيل لمن أراد تعلم معاني القرآن، هو الغوص في معاني اللغة العربية، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
ولا يعني هذا الحديثُ تركَ تعلم ما يحتاجه الإنسان من اللغات الأخرى، فعن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه، قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتَعَلَّمَ لَهُ كَلِمَاتٍ مِنْ كِتَابِ يَهُودَ قَالَ: "إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابٍ"، قَالَ: فَمَا مَرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُهُ لَهُ قَالَ: فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ كَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ، وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ. [رواه الترمذي وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ].
والتواصل مع الناس بلغاتهم أقوى من التواصل بغيرها، ولهذا يسعى المتنفذون في كل الدول إلى ترجمة أخبارهم وعقائدهم إلى لغات غيرهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ» وَقُولُوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا}. [رواه البخاري].
عباد الله:
ليست القضية في المعرفة النظرية لقواعد اللغة وأصولها، بل في جعل الفصحى الميسرة لغةَ الحياة في كل ميادينها، نطقًا وكتابةً وتعبيرًا.
ألا فاتقوا الله في أولادكم وأهليكم، واعلموا أنكم مسؤولون عنهم أمام ربكم، فاغرسوا في قلوبهم حب لغة القرآن، والاهتمام بها، وحاربوا كل ما يؤثر عليها، وكونوا في كل خير كهمزة الاستفهام لا تأتي إلا متقدمة، ولا تكونوا كنون النسوة تأتي دائمًا في الأخير.
ثم صلوا وسلموا رحمكم الله على سيد الأولين والآخرين، وصاحب الشفاعة في يوم الدين، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
المرفقات

الدين-والثقافة

الدين-والثقافة

الدين-والثقافة-2

الدين-والثقافة-2

المشاهدات 749 | التعليقات 0