وظيفة الحياة 22/8/1443هـ
يوسف العوض
الخطبة الأولى
إنَّ الْحَمْدَ للهِ نَحْمَدُه ونستعينُه ، ونستغفرُه ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ، ومن سيئاتِ أعمالِنا ، مَن يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومَن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه :( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )،( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) وبعد ،،
أَيُّهَا اَلْمُسْلِمُونَ : يَقُولَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمِنْ اِهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمِنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يُضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } فِي اَلسَّنَةِ اَلسَّادِسَةِ لِلْهِجْرَةِ قَرَّرَ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْعَثَ عَدَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ اَلْكِرَامِ إِلَى مُلُوكِ اَلْأَعَاجِمِ لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى اَلْإِسْلَامِ ، وَاخْتَارَ لِهَذِهِ اَلْمُهِمَّةِ سِتَّةً مِنْ اَلصَّحَابَةِ ، وَكَانَ مِنْ بَيْنِهِمْ عَبْدُ اَللَّهْ بْنْ حُذَافَةَ اَلسَّهْمِي اَلَّذِي حَمَلَ رِسَالَةَ اَلنَّبِيِّ اَلْمُصْطَفَى عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى كِسْرَى مَلِكِ اَلْفُرْسِ اَلَّذِي كَانَ يَحْكُمُ بِلَادًا كَثِيرَةً وَاسِعَةً وجَهَّزَ عَبْدُ اَللَّهْ بْنْ حُذَافَةَ نَاقَتَهُ ، وَوَدَّعَ زَوْجَتَهُ وَوَلَدَهُ ، وَمَضَى إِلَى غَايَتِهِ وَحْدَهُ بَعْدَ أَنْ دَعَا لَهُ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ يَحْمِلُ فِي قَلْبِهِ إِيمَانًا ثَابِتًا ، وَقَطْعَ اَلصَّحَارِي وَعَبَرَ اَلْبَوَادِيَ وَصَعِدَ اَلْجِبَالَ حَتَّى وَصَلَ بِلَادَ فَارِسٍ ، فَقَصَدَ قَصْرَ كِسْرَى وَاسْتَأْذَنَ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ ، وَأَعْلَمَ أَعْوَانَ اَلْمَلِكِ بِالرِّسَالَةِِ اَلَّتِي يَحْمِلُهَا مِنْ اَلنَّبِي مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وأَمَرَ كِسْرَى بِتَزْيِينِ مَكَِانِ جُلُوسِهِ عَلَى عَرْشِهِ وَهُوَ اَلْإِيوَانُ ، وَاسْتَدْعَى وُزَرَاءَهُ وَأُمَرَاءَهُ لِيَحْضُرُوا مَجْلِسَهُ فَأَتَوْا ثُمَّ أَعْطَى اَلْإِذْنَ لَعَبَدِ اَللَّهِ بْنْ حُذَافََةَ فَدَخَلَ مُرْتَدِيًا عَبَاءَةً غَلِيظَةَ اَلنَّسِيجِ ، رَافِعًا رَأْسَهُ مُعْتَزًّا بِإِيمَانِهِ وَإِسْلَامِهِ ، قَدْ اِنْتَصَبَتْ قَامَتُهُ اَلْمَدِيدَةُ ، وَأَدَارَ نَظْرَةً عَلَى اَلْجُمُوعِ ثُمَّ صَوَّبَ نَظَرَهُ إِلَى كِسْرَى اَلْجَالِسِ عَلَى عَرْشِهِ وأَشَارَ كِسْرَى إِلَى أَحَدِ رِجَالِهِ لِيَأْتِيَ بِالرِّسَالَةِ فَقَالَ عَبْدُ اَللَّهْ : لَا ، إِنَّمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَدْفَعَهَا لَكَ يَدًا بِيَدٍ ، وَأَنَا لَا أُخَالِفُ أَمْرًا لِرَسُولِ اَللَّهِ فَلَمَّا تَرْجَمَ مَا قَالَهُ لِكِسْرَى أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَدْعُوهُ يَقْتَرِبُ مِنْهُ ، فَدَنَا مِنْ كِسْرَى حَتَّى نَاوَلَهُ اَلرِّسَالَةَ فَأَعْطَاهَا لِتُرْجُمَانِهِ لِيَقْرَأهَا فَفَتَحَهَا وَبَدَأَ بِقِرَاءَتِهَا فَلَقَدْ أَرْسَلَ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِطَابًا لِكِسْرَى فَارِس وَكَانَ اِسْمُهُ إَبْرِوِيزُ بْنْ هُرْمُزَ يَدْعُوهُ وَقَوْمَهُ بِدَعْوَةِ اَللَّهِ يَدْعُوهُ إِلَى اَلْإِسْلَامِ ، وَقَدْ ظَهَرَ عَدَاؤُهُ لِلْإِسْلَامِ مِنْ أَوَّلِ لَحْظَةٍ قَرَأَ فِيهَا اَلْخِطَابَ ، وَكَانَ يَنْوِي تَدْمِيرَ هَذَا اَلدِّينِ اَلْجَدِيدِ وَحَرْبَ اَلرَّسُولِ اَلْكَرِيمِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ خِطَابُ اَلرَّسُولِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكِسْرَى وقدْ بَدَأَ فِيهِ بِالْبَسْمَلَةِ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ : ( مِنْ مُحَمَّدِ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسٍ ) ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ دَعَا صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِسْرَى إِلَى اَلدُّخُولِ فِي اَلْإِسْلَامِ ، قَالَ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( سَلَامٌ عَلَى مَنْ اِتَّبَعَ اَلْهُدَى وَآمِنْ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَاشْهَدْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهْ وَرَسُولُهُ ، وَأَدْعُوكُ بِدَعَايَةِ اَللَّهِ ، فَإِنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَى اَلنَّاسِ كَافَّةً ، { لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ } فَأَسْلَمْ تَسَلَمُ ، فَإِنْ أَبَيْتَ ، فَإِنَّ إِثْمَ اَلْمَجُوسِ عَلَيْكَ ) خِطَابٌ فِي مُنْتَهَى اَلْقُوَّةِ والأَدَبِ ، فَغَضِبَ كِسْرَى غَضَبًا شَدِيدًا عِنْدَمَا سَمِعَ هَذَا اَلْخِطَابَ ، وَتَعَامَلَ مَعَهُ بِسَطْحِيَّةٍ بَالِغَةٍ ، لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى اَلْمَعَانِي اَلَّتِي فِيهِ ، وَلَا إِلَى اَلرِّسَالَةِ اَلَّتِي يُشِيرُ إِلَيْهَا اَلْخِطَابُ ، لَكِنْ كُلُّ اَلَّذِي نَظَرَ إِلَيْهِ اَلشَّكْلِيَّاتِ اَلَّتِي فِي اَلْخِطَابِ ، فَأَمْسَكَ اَلْخِطَابَ وَمَزَّقَهُ ، وَقَالَ فِي غَطْرَسَةٍ : عَبْدٌ مِنْ رَعِيَّتِي يَكْتُبُ اِسْمَهُ قَبَلِي ، وَسَبَّ اَلرَّسُولَ عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَلَمَّا وَصَلَتْ هَذِهِ اَلْكَلِمَاتُ إِلَى اَلنَّبِيِّ عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، قَالَ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَزَّقَ اَللَّهُ مُلْكَه ) ؛ لِأَنَّهُ مَزَّقَ اَلْكِتَابَ ، وَبِالْفِعْلِ فَفِي غُضُونِ سَنَوَاتٍ قَلِيلَةٍ جِدًّا مِنْ هَذِهِ اَلْأَحْدَاثِ مَزَّقَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَلِكَ كِسْرَى تَمَامًا ، وَامْتَلَكَ اَلْمُسْلِمُونَ كُلَّ اَلْأَرَاضِي اَلْفَارِسِيَّةِ ، وَسَقَطَتْ اَلْإِمْبِرَاطُورِيَّةُ اَلْفَارِسِيَّةُ تَمَامًا ، وَكَانَتْ تُسَيْطِرُ عَلَى مِسَاحَاتٍ هَائِلَةٍ مِنْ اَلْأَرْضِ .
أَيُّهَا اَلْمُسْلِمُونَ : هَذِهِ هِيَ اَلنُّبُوَّةُ فِي مُوَاجَهَةِ اَلْغَطْرَسَةِ اَلْمَجُوسِيَّةِ اَلْكَافِرَةِ ، لَكِنَّ كِسْرَى فَارِسٍ إَبْرِوِيزَ لَمْ يَكْتَفِ بِهَذِهِ اَلْكَلِمَاتِ وَبِتَقْطِيعِ اَلْخِطَابِ ، لَا ، بَلْ إِنَّهُ حَاوَلَ أَنْ يَعْتَقِلَ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُعَاقِبَهُ بِنَفْسِهِ ، فَأَرْسَلَ رِسَالَةً إِلَى عَامِلَهِ اَلْفَارِسِيِّ عَلَى بِلَادِ اَلْيَمَنِ ، وَكَانَتْ اَلْيَمَنُ مُسْتَعْمَرَةً فَارِسِيَّةً ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ اَلْمَدِينَةِ اَلْمُنَوَّرَةِ ، فَأَرْسَلَ رِسَالَةً إِلَى عَامِلِ اَلْيَمَنِ وَاسْمِهِ بِاذَانٍ وَكَانَ فَارِسِيًّا ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَبْعَثَ رَجُلَيْنِ مِنْ رِجَالِهِ لِيَأْتِيَا بِرَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اَلْمَدَائِنِ عَاصِمَةِ فَارِسِ .
فاُنْظُرُوا -أَيُّهَا اَلْمُسْلِمُونَ- يَبْعَثُ اِثْنَيْنِ فَقَطْ مِنْ اَلرِّجَالِ لِيَأْتِيَا بِزَعِيمِ اَلْمَدِينَةِ اَلْمُنَوَّرَةِ ، وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَتْ نَظْرَةُ كِسْرَى فَارِسٍ لِلْعَرَبِ ، بَعَثَ اِثْنَيْنِ مِنْ اَلرِّجَالِ وَلَمْ يَبْعَثْ جَيْشًا لِيَأْتِيَا بِرَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اَلْمَدَائِنِ عَاصِمَةِ اَلدَّوْلَةِ اَلْفَارِسِيَّةِ ، وَقَالَ لَهُمَا : أَخْبَرَاهُ إِنْ هُوَ رَفَضَ فَسَيُقْتَلُ ، وَسَيُهْلِكُ كِسْرَى قَوْمَهُ وَيُخَرِّبُ بِلَادَهُ ، فَذَهَبَ اَلرَّسُولَانِ إِلَى اَلرَّسُولِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَا لَهُ هَذَا اَلْكَلَامَ ، وَدَخَلَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ حَلَقَا لِحَاهُمَا، وَأَعْفَيَا شَوَارِبَهُمَا، فَكَرِهَ النَّظَرَ إِلَيْهِمَا، وَقَالَ: وَيْلَكُمَا مَنْ أَمَرَكُمَا بِهَذَا؟ قَالَا: أَمَرَنَا رَبُّنَا -يَعْنِيَانِ كِسْرَى- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وَلَكِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي بِإِعْفَاءِ لِحْيَتِي وَقَصِّ شَارِبِي، ثُمَّ طَلَبَ اَلرَّسُولُ عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْهُمَا فِي أَدَبٍ جَمٍّ أَنْ يَنْتَظِرَا إِلَى اَلْيَوْمَ اَلتَّالِي وَسَيَرُدُّ عَلَيْهِمَا وقَالَ ارْجِعَا حَتَّى تَأْتِيَانِي غَدًا، وَجَلَسَا فِي اَلْمَدِينَةِ تِلْكَ اَللَّيْلَةَ ، وَفِي هَذِهِ اَللَّيْلَةِ اَلَّتِي جَاءَ فِيهَا رَسُولاً كِسْرَى أَتَى اَلْوَحْيُ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ بِنَبَأٍ عَجِيبٍ ، أَخْبَرَهُ أَنَّ هَذَا اَلزَّعِيمَ اَلْفَارِسِيِّ اَلْمُتَغَطْرِسَ إَبْرِوِيزَ قُتِلَ فِي نَفْسِ اَللَّيْلَةِ ، وَمَنْ اَلَّذِي قَتَلَهُ ؟ قَتْلَهُ اِبْنُهُ شِيرْوِيهْ بْنُ إَبْرِوِيزْ ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَانَ قَتْلُ كِسْرَى عَلَى يَدَيِ ابْنِهِ شِيرَوَيْهِ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِعَشْرِ لَيَالٍ مضين من جمادى الآخرة مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، لِسِتِّ سَاعَاتٍ مَضَتْ مِنْهَا، وَفِي اَلْيَوْمِ اَلتَّالِي أَرْسَلَ اَلرَّسُولُ عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى اَلرَّسُولَيْنِ وَجَلَسَ مَعَهُمَا وَقَالَ لَهُمَا : ( إِنَّ رَبِّي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَتَلَ رَبَّكُمَا اَللَّيْلَةَ ، فَفَزِعَ اَلرَّسُولَانِ وَقَالَا : هَلْ تَدْرِي مَا تَقُولُ ؟ إنَّا قَدْ نَقِمْنَا عَلَيْكَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ ، أَنْكَتُبُ عَنْكَ بِهَذَا وَنُخْبِرُ اَلْمَلِكَ بِاذَانَ اَلَّذِي هُوَ مَلِكُ فَارِسٍ فِي اَلْيَمَنِ ؟ فَقَالَ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُنْتَهَى اَلثِّقَةِ : نَعَمْ أَخْبَرَاهُ ذَاكَ عَنِّي ) ، لَيْسَ هَذَا فَحَسْبَ ، بَلْ قَالَ لَهُمَا فِي يَقِينٍ : ( وَقَوْلاً لَهُ أَيْضًا : أَنَّ دِينِي وَسُلْطَانِيِّ سَيَبْلُغُ مَا بَلَغَ كِسْرَى ، وَيَنْتَهِي إِلَى اَلْخُفِّ وَالْحَافِرِ ، وَقَوْلا لَهُ : إنْ أَسْلَمَتَ - يُخَاطِبُ بِأَذَانَ - أَعْطَيْتُكُ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ وَمُلِّكَتُكُ عَلَى قَوْمِكَ ) ، وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَامِلَهُمَا مُعَامَلَةَ اَلْمَلِكِ اَلْكَرِيمِ وَحَمَّلَهُمَا بِالْهَدَايَا ، وَأَعَادَهُمَا إِلَى بِاذَانَ مَرَّةٍ أُخْرَى ، وَوَصَلَ اَلرَّسُولَانِ إِلَى بِاذَانَ مَلِكِ اَلْيَمَنِ اَلْفَارِسِيِّ ، وَقَالَا لَهُ مَا قَالَهُ اَلرَّسُولُ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ بِاذَانُ رَجُلاً عَاقِلاً ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَمَا سَمِعَ هَذِهِ اَلْكَلِمَاتِ ، قَالَ : ( وَاَللَّهِ مَا هَذَا بِكَلَامِ مَلِكٍ ، وَإِنِّي لِأَرَى اَلرَّجُلَ نَبِيًّا كَمَا يَقُولُ ، وْلِيكُونَّنَّ مَا قَالَ ، فَلَئِنْ كَانَ هَذَا حَقًّا فَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ ) ، يَعْنِي : كَيْفَ عَرَفَ أَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا حَصَلَ فِي اَلْمَدَائِنِ ، وَهِيَ عَلَى بُعْدِ مِئَاتِ اَلْكِيلُو مِتْرَاتٍ فِي ذَلِكَ اَلزَّمَنِ ؟ ثُمَّ قَالَ : ( وَإِن لَمْ يَكُنْ اَلَّذِي قَالَهُ فَسَنَرَى فِيهِ رَأْينَا ) ، وَذَهَبَتْ اَلْأَيَّامُ وَجَاءَ خِطَابٌ مِنْ اَلزَّعِيمِ اَلْجَدِيدِ فِي بِلَادِ فَارِسْ شِيرْوِيهْ بْنِ إَبْرِوِيزَ جَاءَ خِطَابٌ إِلَى بِاذَانَ عَامِلِ اَلْيَمَنِ يَقُولُ لَهُ فِيهِ : إِنَّهُ قَدْ قَتَلَ أَبَاهُ إَبْرِوِيزَ ؛ بِسَبَبَ أَنَّهُ قَتَلَ اَلْكَثِيرَ مِنْ أَشْرَافِ فَارِسِ ، وَكَادَ أَنْ يُودِيَ بِفَارِسٍ إِلَى اَلْهَلَاكِ فَتَأَكَّدَ عِنْدَهَا " بِاذَانُ " مِنْ صِدْقِ اَلنَّبِيِّ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولِ اَللَّهِ ، وَأَسْلَمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ اَلْفَرَسِ فِي بِلَادِ اَلْيَمَنِ، عَمَّ دِينُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اَلْجَزِيرَةَ بَلْه اَلْمَعْمُورَةَ وَهَلَكَ كِسْرَى وَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ فقد جَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ( إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بعده، فوالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لِتُنْفَقَنَّ ) .
الخطبة الثانية
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي بِأَمْرِهِ يَخْضَعُ كُلُّ مَمْلُوكٍ ، وَلِسُلْطَانِهِ تَخْنَعُ اَلْمُلُوكُ ، عَزَّ جَاهُهُ ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ عَرَبًا وَعَجَمًا ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ اَلْفَائِقِينَ كَرَمًا ، وَالسَّابِقِينَ قَدَمَا ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ ، أُمًّا بَعْد :
أَيُّهَا اَلْمُسْلِمُونَ :أَعْظَمُ دَرْسٍ مُسْتَفَادٍ هُنَا هُوَ في قَولِ تَعَالى : ( قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فنَحْنُ وَظِيفَتُنَا فِي هَذِهِ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا هِيَ اَلدَّعْوَةُ إِلَى اَللَّهِ كَمَا كَانَ رَسُولُنَا عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَّلَ اَلدُّعَاةِ وَخَيْرَهُمْ وَهَاهُو اَلرَّسُولُ عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُرْسَلُ رِسَالَةً إِلَى كِسْرَى فَارِسٍ يَبْغِي إِسْلَامَ شَعْبِ فَارِسٍ ، وَفَارِسُ تَقَعُ عَلَى بُعْدِ مِئَاتِ اَلْكِيلُو مِتْرَاتٍ مِنْ اَلْمَدِينَةِ اَلْمُنَوَّرَةِ ، وَلَكِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى يُرِيدُ أَنْ يُسلَمَ بِهَذِهِ اَلرِّسَالَةِ شَعْبُ اَلْيَمَنِ اَلْبَعِيدِ جِدًّا عَنْ مِنْطَقَةِ فَارِسٍ وَهَذَا يَلْفِتُ نَظَرَنَا إِلَى شَيْءٍ مُهِمٍّ جِدًّا ، وَهُوَ أَنَّ جُهْدَ اَلدَّاعِيَةِ لَا يَضِيعُ ، فَيَبْقَى جُهْدُ اَلدَّاعِيَةِ وَيَنْتَشِرُ ، وَلَكِنْ لَيْسَ بِالضَّرُورَةِ أَنْ يَنْتَشِرَ فِي اَلِاتِّجَاهِ اَلَّذِي أَرَادَهُ اَلدَّاعِيَةُ ؛ لِأَنَّ اَللهَ تَعَالَى يُسِيّرُ اَلْكَوْنَ بِنِظَامِ بَدِيعٍْ وَتَنْسِيقٍ مُحْكَمٍ وَحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ ، فَالْقُلُوبُ بَيْنَ أَصَابِعِ اَلرَّحْمَنِ يَصَرِّفُهَا كَيْفَ يَشَاءُ ، فَالْمُسْلِمُ عَلَيْهِ اَلدَّعْوَةُ ، وَاَللَّهُ يَفْتَحُ اَلْقُلُوبَ ، وَأَعْطَى اَلرَّسُولُ عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وِلَايَةَ اَلْيَمَنِ إِلَى بِاذَانَ ، وَكَانَ إِسْلَامُ اَلْيَمَنِ إِضَافَةً كَبِيرَةً جِدًّا لِقُوَّةِ اَلْمُسْلِمِينَ ، وَلَكِنَّ كِسْرَى فَارِسٍ اَلْجَدِيدَ شِيرْوِيهْ بْنَ أَبْرَوِيزَ مَعَ أَنَّهُ تَوَقَّفَ عَنْ سَبِّ رَسُولِ اَللَّهِ عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَتَوَقَّفَ عَنْ اَلتَّفْكِيرِ فِي عِقَابِ رَسُولِ اَللَّهِ عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا يُرِيدُ أَبُوهُ لَمْ يُفَكِّرْ فِي اَلْإِسْلَامِ أَصْلاً ؛ وَبِذَلِكَ تَجَمَّدَتْ اَلْعَلَاقَاتُ تَقْرِيبًا بَيْنَ اَلدَّوْلَةِ اَلْإِسْلَامِيَّةِ وَالدَّوْلَةِ اَلْفَارِسِيَّةِ إِلَى أَنْ تَحَرَّكَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِعِدَّةِ سَنَوَاتٍ فِي عَهْدِ اَلصَّدِيقِ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ ، عِنْدَمَا بَدَأَتْ حَرَكَةُ اَلْفُتُوحِ اَلْإِسْلَامِيَّةِ .
المرفقات
1647936662_رسالة كسرى.pdf
المشاهدات 1260 | التعليقات 2
اللهم آمين وانت يا أخانا الفاضل
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق