وصيتان ربانيتان في ختام موسم الحج
د. منصور الصقعوب
الخطبة الأولى
أفضال المولى كثيرة, ونعمه وفيرة, وهِباتُه دائمة وغزيرة.
أدركنا بحمد الله موسم الخيرات, وعِشنا العشر المباركات, وتقلَّب مَن حج ومن بقي بين أنواع العبادات, فلك الحمد ربنا على ما أنعمت
أدى الحجاج حجّهم بيسر وسهولة, وانقضى الموسم بأمن وسلامة, وخسئ الروافض والملاحدة, وفرح المؤمنون بسلامة المشاعر وقاطنيها, والحرمِ ووافديه, فلله الحمد على ذلك كثيراً, فلولا ربنا ما تحقق ذلك, والأمر كله بيده.
ثم شكر موصول ومسدى, ودعوات مرفوعة وحرّى لكل من لِخدمة الحجيج سعى, وبِحفظ أمنهم وسلامة أبدانهم اعتنى, حكومةً وأفراداً, وجزاءُ هؤلاء عند ربهم, فَمَنْ أكرمَ أضيافه وَوَفده, فالله يكرمهم بفضله ورِفده.
معشر الكرام: ونحن نودع الموسم, والحجاج يؤمّون ديارهم, فما أحرى الجميع إلى تذكر وصيتين ربانيتين, وكلمتين عظيمتين, ختم الله بهما آيات الحج, قَمِنٌ بكل حاجٍّ أن يختم بتذكرهما رحلته, بل وأن يجعلهما نُصب عينيه طول عمره, ليس هذا للحاجّ فحسب, بل لكل مسلمٍ, فبهما تطيب الدنيا, وبهما تسعد في الأخرى.
قال ربنا سبحانه في آخر آيات الحج (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى) ثم ختم الآية بقوله (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) يا لها من وصيةٍ لو عقلناها, الوصيةُ للحاج وللمقيم بالتقوى, نعم قد حج وتعبد, وطاف ونسك, ويُرجى أنه قد عاد بالمغفرة, ثم ربنا يوصيه بالتقوى, لأن التقوى عنوانُ سعادة الآخرة والأولى, فحياةٌ بلا تقوى خواء, وامرؤٌ بلا تقوى مخذول, وحجٌ لا يورث التقوى ناقص.
يا أيها الحاج ويا أيها المقيم إن ربك يوصيك بالتقوى, فهل تعي معنى هذا؟ أن تجعل بينك وبين عذاب ربك وقايةً بفعل أوامره وترك نواهيه.
التقوى يا مؤمنون قاعدةُ الإسلام، وجماع الخير، والعاصم من كل شرٍّ، والباعث على كل فضيلة وخلق كريم، هي أساس النجاة في الدارين، وسبيل السعادة للمؤمنين، وطريق التوصل إلى الطمأنينة والاستقرار، والشعور بالرضا والارتياح، بل وسبب تيسر الرزق الحلال.
هي وصية الله للأولين والآخرين (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله) ولو كانت في العالم خصلةٌ هي أصلح للعبد وأجمع للخير، وأعظم للأجر، وأجلُّ في العبودية، وأعظم في القدر، وأولى في الحال، وأنجح في المآل من هذه الخصلة التي هي التقوى لكان الله سبحانه أمر بها
ومع هذا يا كرام, فليست التقوى كلمةً تُصَدّرُ بها الخطبُ فحسب, وهي خلية من التطبيق, ليست دعوى يدّعيها المرء فقط, لكنها يا مؤمنون منهج حياة, ودستور أمة, وخارطة طريق, بها نَزِنُ كلّ أعمالنا, فيا من أديت مناسكك, ويا من أقمت في بلدك, فتعبدتما في موسمٍ عبادي استثنائي, هل خرجنا من هذا بالتقوى؟.
التقوى يا من تعبدت تجعلك تبدل حالك السابقة, وتهجر المعاصي وتلازم الطاعة, تتقي الله فتترك مجالس السوء, وأعمال السوء, وقالة السوء, ورفقة السوء.
خلَّ الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرنًّ صغيرةً إن الجبال من الحصى
لا تغشُّ ولا تغدر, لا تكذب ولا تحتال, لا تتكبر ولا تختال, لأنك محققٌ للتقوى.
التقوى تجعلك إذا خلوت في الظلماء, فزين لك الشيطان السوء والفحشاء, تتذكر رب الأرض والسماء, فتهجر المحرم, ولسان حالك:
وإذا خلوت بريبة في ظلمةٍ والنفس داعية إلى العصيان
فاستحيي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
التقوى تجعلك تجوِّد عملك, وتتقن ما أنيط بك من وظيفة, وتحقق الأمانة فيها, تراقب ربك في أداءِها ولو غاب الرقيب, لأن الذي تتقيه, يراك وعلى أي حالٍ تكون فيه.
لأنك محقق للتقوى تُحسِن خلقك مع الناس, وتنصح في تعاملك مع الجميع, القريبِ والبعيد, والزوجةِ والأولاد, والوالدينِ والأقربين, ولذا فمن روائع الوصايا النبوية «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلقٍ حسن» قال ابن القيم: جمع النبي ق بين التقوى وحسن الخلق، لأن تقوى الله يصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته.
إن المتقين يا أهل التقوى يقيمون الصلاة, يأتون بها بأوقاتها, ومع جماعتها, لا تفقدهم أروقة المساجد, ولا ينامون عن المكتوبة, لا يشغلهم تجارة عنها, ولا يصدهم حرّ أو بردٌ عن إتيانها, إذ هي عنوان سعادتهم, وأهم أشغالهم.
ولأنهم أهل تقوى فهم مما رزقهم ربهم ينفقون, ينفقون في السراء والضراء, ينفقون المال على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً, يبذلون من مالهم قدر مُكنتهم, ويعلمون أن أنفع النفقات أوقات المسغبة, وكثرة الإمساك, يمتثلون قول ربهم (هدى للمتقين الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) يبذلون فيزيدهم ربهم, لأنه الغني يبارك من أعطى, ويزيد من أنقص ماله لأجل ربه, وهو الغني الكريم.
المتقون يا أهل التقوى, كاظمين للغيظ, يعفون عن الناس, محسنون لهم, ليس خوفاً ولا خوراً, بل طمعاً في جنة عرضها الأرض والسماوات.
وإذا زلت منهم القدم, وعصوا ربهم, بادروا للتوبة والندم, (ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم) ولم يصروا على العصيان, وإنما استبدلوا الزلل بالإحسان, فاستحقوا قول الرحيم الرحمن (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ)
إذا حققت التقوى يا موفق فأبشر بالكرامات, فالله يتقبل من المتقين, ويشرح صدورهم, ويحبهم, وهو معهم, فمن أربح منهم صفقة, ومن أسعد منهم نفوساً, ومن أبرك منهم حياة, حققوا وصية المولى حين قال (واتقوا الله)
اللهم اجعلنا منهم, اللهم صل على محمد
الحمد لله وحده
وأما الوصية الثانية التي خُتِمت بها آيات الحج فهي قول الحق سبحانه (واعلموا أنكم إليه تحشرون) إن موسم الحج يذكّر بيوم الحشر, اجتمعتم يا مؤمنون في صعيد عرفات, ألوانٌ مختلفة, لغاتٌ شتى, بلدانٌ متنوعة, قد برزتم في الشمس, الكل منكم وَجِل, ينتظر من ربه الغفران, وإن أصحاب القلوب الحية ليذكِّرهم ذلك بموقف الحشر الأكبر.
ذلكم اليوم سنمر به جميعاً فلا متخلف, سنعاين أهواله فلا مفرّ, يوم يقوم الناس لرب العالمين, يُبعَثون من القبور, بعد النفخ في الصور, فيخرجون عراة حفاة غرلاً, لا مُلك, لا ثياب, لا أصحاب, لا حِجاب, بارزون لا تخفون, فيا حجاج بيت الله اعلموا أنكم إليه تحشرون.
ذلك اليوم سيتغير فيه الكون, فالشمس تُكوّر, والنجوم تنكدر وتتناثر, والجبال نسفت وسيّرت فأصبحت كالعهن المنفوش, العشار عطلت, الأموال تُركت, التجارات نُسيت, السماء كشطت ومُسِحت وأزيلت, البحار سجّرت, وإلى نارٍ تحولت, الجحيم سعرت وأوقدت، والجنة أزلفت وقُرِّبت, فيا أهل الحج اعلموا أنكم إليه تحشرون.
نعم هو يوم القيامة ، يومُ الصاخةِ والقارعةِ والطامةِ ، ويومُ الزلزلةِ والآزفةِ والحاقة، يومَ يقومُ الناس لرب العالمين, يومٌ عظيم وخَطْبٌ جَسِيم، يومٌ مقداره خمسون ألف سنة، يجمع الله فيه الخلائق أجمعين، من آدم عليه السلام إلى قيام الساعة؛ ليفصل بينهم ويحاسبَهم .
الزلزلة حينها عظيمة, من جرائها تُسقِط الحبالى لو وُجِدت, وتشيب الولدان (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) فيا أهل الموسم اعلموا أنكم إليه تحشرون.
الحر شديد, والشمس على مقدار ميل, والعرق يلجم البعض إلجاماً, والمقام طويل, لا يتكلم حينها إلا الرسل, ولا يقولون إلا اللهم سلم سلم, يبحث الناس عن شفيع, فيتنقلون بين الأنبياء فكلٌ يعتذر, حتى يتولى ذلك رسولنا عليه السلام, فيشفع عند ربه في تعجيل القضاء, فيا أيها الناس أعدوا ليوم فيه تحشرون.
ثم يجيء الله للقضاء, فيؤتى بالعبد ويوقف بين يدي الرب, فيُسأل عن كل صغيرة وكبيرة, وتَبرز له أعمالٌ نسيها, وأقوال ما ثمّنها, ويقول حينها (ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) يمينه حسناتُه, وشماله سيئاته, والنار تلقاء وجهه, فأين يفر, الملائِكُ من حوله, والناس ينظرون إليه, والحاكم هو الله, فما أشده من موقف, علّام الغيوب الذي لا تخفى عليه الخوافي يقول لعبده ما حملك على معصيتي, ألم أكرمك وأسود, وأُسخر لك النعم, وأذرَك ترأس وتربع, عندها لا تسل عن حياء المسلم من ربه الذي أنعم عليه, ثم هو على المعاصي يوقِفه, ولا تسل عن العاصي الذي يناقشه ربه الحساب ثم يعذبه, لذا يا مؤمنون اعلموا أنكم إليه تحشرون.
وبعد طول المكوث, وشدائد وأهوال, ميزان وصراط, وأحوال شداد, يستقر الناس في دارين, ويمكثون فيها أبد الآبدين, في جنة عرضها الأرض والسماوات, أو نار تلظى, عصمنا الله منها, لأجل كل هذا لزامٌ كل مسلم حاج أو مقيم أن يتهيأ لغده, ويتذكر أحوال آخرته, وأن يعلم أنه إلى ربه يحشر.
وبعد: هما وصيتان, أوصى بهما رب العالمين, أوصى فأوجز, ونصح فأبلغ, فموفق من حققها, ومغبون من عمل بمقتضاها, (واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون)
اللهم اجعلنا من أهل التقوى, وأحي قلوبنا للأهبة ليوم الحشر, اللهم صل وسلم على محمد