وصية جبريل للأمة
فهد عبدالله الصالح
الحمد لله الذي هدانا للإسلام ومنَّ علينا بالقرآن وخصنا بخير رسول أرسل للناس، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا اله إلا الله وحدة لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعلى من سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فأوصيكم أيها المسلمون، ونفسي بتقوى الله فإن تتقوى الله هي جماع الخير كله وهي وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 131].
أيها المسلمون: ما أحوج المسلمين بل ما أحوج البشرية أفراداً ومجتمعات وأمماً إلى وصايا خالقهم ورازقهم سبحانه وتعالى، إنها الهدي والنور، والفلاح والنجاة، والعزة والكرامة، إن الكثير من أفراد المسلمين يعاني إما ضيقاً في الصدر أو عدم رضا بالرزق، أو تعبا من زوج وولد وغيرها من أمراض الدنيا.
ومجتمعات المسلمين تعاني أمراضاً وعللاً عديدة من تفكك في الروابط الاجتماعية، وارتفاع في نسب العنوسة والطلاق، وعدم تفقد أحوال المصابين والمعوزين وغيرها.
وأمة الإسلام تعاني أزمات عدة من سياسية واقتصادية وفكرية وعلمية وذلة وانهزامية، ومكمن هذه العلل جميعاً هو البعد عن منهج الله القويم وسنة نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم، فما أحوج المسلمين إلى وصايا القرآن والسنة.
ومعنا اليوم - أيها الأحبة - وصية من الله تعالى جاء بها جبريل عليه السلام لمحمد صلى الله عليه وسلم وهي وصية ولأمته من بعده، وصية بها خمسة مضامين عظيمة.
فقد روى الحاكم في مستدركه عن سهل بن سعيد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أتاني جبريل فقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، وأعمل ما شئت فإنك مجزى به، وأعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس)، حديث حسن.
الله أكبر يا عباد الله، كم نحن بحاجة إلى التفكير في هذه الوصايا الحسنة التي يوصي بها جبريل عليه الصلاة والسلام والتي يقول في أولها:
يا محمد عش ما شئت فإنك ميت: نعم عش يا عبد الله من السنين فكم يكفيك؟ هل يكفيك ثمانون سنة أو تسعون سنة أو حتى مائة سنة؟ هذا إذا بلغت أيها العبد هذا السن، والأمر ليس بيدك لان الله تعالى يقول ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34].
ويكفي في الدنيا مذمة أيها الإخوة: أن الإنسان ميت وأنه مهما حصل من المال أو الجاه فإنه مفارقه، فجدير بمن كان الموت مصرعه، والتراب مضجعه، والدود أنيسة، والقبر مقره، والقيامة موعده، والجنة أو النار داره، جدير به أن يعلم أن عيشه في الحياة الدنيا لا قيمة له إلا إذا كان يتجهز فيها للآخرة.
واعلموا أيها المسلمون: أن المنهك بالدنيا المتعلق بحطامها الذي ألهته تجارته وأمواله وأولاده ولذاته عن ذكر الله وما ولاه فأمسى عبداً لشهوته وهواه، فصار الشيطان يقلبه، ومن كان هذا حاله لا يريد ذكر الموت ولو ذكر له أو رأى ما يذكره به لتضجر وتأفف فهو من الذين قال الله فيهم ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجمعة: 8].
ولذا أيها الإخوة: فإن تذكر الموت علاج شاف لمن تعلق بالدنيا أو انشغل عن الآخرة، وإن خير نصيحة تقال لمن غره شبابه أو غره ماله أو غرته دنياه هي وصية جبريل عليه السلام (عش ما شئت فإنك ميت).
وأما الوصية الثانية: فهي قول جبريل عليه السلام (وأحبب من شئت فإنك مفارقه)، وهذه الوصية وإن كانت متصلة بالأولى إلا أنها قاعدة عظيمة لكل محبة في هذه الحياة الدنيا، إن الإنسان بطبعه يحب الولد والوالد والزوج والأقارب والصديق والصاحب ويحب الشهوات بأنواعها، إن كل محبة في الدنيا لابد وأن يأتي يوم وتنقطع، بل إن كثيراً من علاقات المحبة والصداقة ستصير عداوة يوم القيامة إلا ما كان منها في الله والله يقول تعالى ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 67].
ولذا واجب علينا أيها الأحبة الكرام: أن نميز بين المحبة التي ستنفعنا يوم تشتد فيه الحاجة ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، وبين غيرها، فكل أحبابك أخي المسلم لن ينفعوك بعد موتك إلا من استغفر لك أو دعا لك، ولهذا فقد يكون الغريب أنفع للميت من أهله وأولاده.
احتُضِرَ بعض الصالحين فبكى والده وبكى ولده فسألهم عن بقائهم فذكر أبواه ما يتعجلانه من فقده ووحشتهم بعده وذكره ولده ما يتعجلانه من فقده ويتمهم بعده، فقال: كلكم قد بكى لدنياي أما منكم من يبكي لآخرتي.
ولذا فإن المسلم العاقل هو من وطن نفسه وعودها على مفارقة أهله وأحبابه ليمتثل وصية جبريل عليه السلام في قوله (وأحبب من شئت فإنك مفارقه).
أما الوصية الثالثة: أيها المسلمون فهي قول جبريل عليه السلام (وأعمل ما شئت فإنك مجزى به)، ونحن نقول أيها الإخوة: للمذنبين وكلنا ذاك الرجل، اعمل ما شئت فإنك مجزى به، فليس عليك رقيب من الناس إنما الرقيب هو الله، ونقول لمن نذر نفسه لنشر الفساد في الأرض، اعمل ما شئت فإنك مجزى به، ونقول لدعاة تحرير المرأة وللساعين لإضلال شباب الأمة ولمن يسوؤهم انتشار الخير اعملوا ما شئتم فإنكم مجزيون به ونقول أيضاً لمن اعتاد الذهاب إلى المسجد وقرأ كتاب ربه وهلل واستغفر اعمل ما شئت فإنك مجزى به، ونقول لمن سخر وقته وماله وجهده أو جزءاً منها في الدعوة إلى الله وبيان الحق للناس والسعي في قضاء حوائج المسلمين نقول: اعمل ما شئت فإنك مجزى به، ونقول لمن أساءه واقع المسلمين وحمل هم الإسلام وأحب الخير وأهله اعمل ما شئت فإنك مجزى به، والله لا يضيع أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، وهو القائل ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، ويقول جلا ذكره ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49]، ويقول أيضاً ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30].
هذه أيها الأحبة: ثلاث من الوصايا الخمس التي وصانا بها الله تعالى.. وأقول قولي......
الخطبة الثانية
أما بعد: وأما وصية جبريل الرابعة: فهي قوله عليه السلام (وأعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل)، إنها شهادة الشرف من الله لا ينالها إلا الذين - ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ [السجدة: 16]، وكان جزاؤهم أن قال الله تبارك وتعالى ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17].
أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل)، وأفضل قيام الليل أن يستيقظ الإنسان في منتصف الليل ليصلي ما كتب الله له ثم يرتاح قبيل الفجر، ومن لم يفعل ذلك فعليه لو استيقظ قبل الفجر بنصف ساعة ليصلي ما كتب الله له، ومن عرف من نفسه أنه لن يستيقظ فلا أقل من أن يصلي ركعات مثني مثني ثم يصلي الوتر قبل أن ينام، وأقل الأمور هو أن يصلي الإنسان ركعات ثم يختمها بوتر بعد صلاة العشاء.
ثم انظروا أيها الإخوة: كيف سمى الله قيام الليل شرفاً لأنه تشرف بلقاء المولي عز وجل، فالشرف الحقيقي هو ما كان لله وفي الله، ولذا فلا يستطيع قيام الليل إلا من كف نفسه عن المعاصي وطهرها بالطاعات وحفظ جوارحه عن كل ما يغضب الله.
جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: فشكي له عدم قدرته على قيام الليل فقال له: لا تعصي الله تعالى بالنهار يقيمك بين يديه في الليل، فإن قيام الليل شرف لا يناله من عصى الله.
وقال بعضهم لابن مسعود رضي الله عنه، لا نستطيع قيام الليل فقال: أبعدتكم الذنوب.
أما الوصية الخامسة: فهي قول جبريل عليه السلام (وعزه استغناؤه عن الناس).
نعم أيها الإخوة: إن عز المؤمن أن يستغني عن الناس، ولنعلم جميعاً وإن من نعم الله علينا بعد الإسلام والصحة والأمن أن يستغني المسلم عما في أيدي الناس وأن يأكل بعرق جبينه وألا يكون عالة على غيره أعطوه أو منعوه، ولهذا كان الكثير من علماء السلف يتعففون عن أخذ الأعطيات وغيرها، وكانوا يخصصون بعض الأوقات للتجارة والعمل حتى يستغنوا عن غيرهم.
ما أحسن - أيها الإخوة - وما أقوى إيمان من يعتمد على نفسه فلا يمد يده إلى أحد أبداً، ومن أعظم ما يعين المسلم على الاستغناء عن الخلق أن يقوي علاقته بخالق الخلق جلا جلاله، فلا يترق إلا بابه ولا يسأل إلا سواه ولا يعتمد إلا عليه ولا يتوكل إلا عليه سبحانه، وقد قال الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي (يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، وقال تعالى (ومن يتوكل على الله فهو حسبه).
وما يقال في حق الفرد المسلم يقال في حق الأمة الإسلامية، فإن عزها التي كتب الله لها فهو في استغنائها عن الأمم الأخرى، ولقد فطنت اليهود والنصارى لهذا الأمر فاستعمروا ديار الإسلام إلا القليل، ودمروا اقتصادها وتعليمها وبنيتها الأساسية واشغلوها بالشهوات والشبهات والتوافه والمسليات وما ذاك إلا حتى تكون عالة عليهم في كل شيء فلا يتذوقوا طعم العزة التي خصهم الله تعالى بها في قوله ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: 8]، فسبيل العزة للأمة أيها الإخوة بعد تحكيمها للإسلام هو استغناؤها عن الناس.
هذه أيها الأحبة: بعض الوقفات السريعة مع وصية جبريل عليه السلام للأمة أنها وصايا خمس لكنها عظيمة القدر واسعة الدلالة موقظة من سنة الغفلة.
نسأل الله تعالى أن ينفعنا بالوحي المنزل وأن يفقهنا في دينه، اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداه الله وأولئك أولي الألباب، هذا وصلوا وسلموا....