وصية الله
ناصر محمد الأحمد
وصية الله
2/5/1439ه
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: التقوى هي وصية الله تعالى للأولين والآخرين: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا) (النساء : 131).
فليس هناك خُلقاً أشرف من تقوى الله تعالى، ولا زاداً أثمن من زاد التقوى، ولا مكانة أعلى وأرفع من مكانة المتقين عند الله جل جلاله.
ما أكثر ما تكررت كلمة التقوى في كتاب الله تعالى، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وصية بها وأمراً وحثّاً على ما تقتضيه من التزام وطاعة، وخوفاً من الله تعالى وخشية، حتى أنها تكررت في القرآن الكريم أكثر من مئتين وخمسين مرة، وتكرر الأمر بها للعباد أكثر من سبعين مرة.
وإن الحديث عن التقوى في القرآن الكريم يمثل خيوطاً من نور، تربط بين أجزائه من أوله إلى آخره، وتنتظم حقائق الإيمان والدين في كل شأن من شئونه. وهي تدرك المؤمن في كل حركة أو سكون، وتحيط به من كل جانب، وتقول له في كل لحظة وعند كل فكرة أو خطرة: "اتق الله! اتق الله!".
التقوى تسبق كل عمل، وتقترن بكل عمل، ويُختتم بها كل عمل، لتكون خاتم القبول له عند الله ويكتب صاحبه من المتقين قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ) فهي مصابيح نورانية هادية، نورها ليس من نور هذه الأرض، وإنما من نور الله و (اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُور). وحقيقة التقوى أنها حالة قلبية، تقوم على خشية الله ومراقبته، وتعظيم أمره ونهيه، تبعث صاحبها على فعل ما يحب الله ويرضى، والمسارعة فيه، واجتناب ما يسخطه، والبعد عنه، ومحلها القلب، والقلب يضخ آثارها على سائر الجوارح والأعضاء، كما يُضخ الدم من القلب، فينتشر إلى سائر الجسد، فتعمل أجهزته، وتحيا به خلاياه، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "التقوى هاهنا!" ثلاث مرات ويشير إلى صدره!. وسَأل عمر بن الخطاب أبيّ بن كعب رضي الله عنهما عن التقوى؟ فقال له أما سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال: بلى، قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت، قال: فذلك التقوى. فذلك التقوى: حساسية في الضمير وشفافية في الشعور وخشية مستمرة وحذر دائم وتوق لأشواك الطريق.
أيها المسلمون: ومن أجمع وأجمل ما فسرت به التقوى، قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما سُأل عن التقوى فقال:"الخوف من الجليل، والعمل بالتنـزيل، والرضى بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل".
فأولها: الخوف من الجليل، وثانيها: العمل بالتنـزيل، وثالثها: الرضا بالقليل، ورابعها: الاستعداد ليوم الرحيل.
أما الأمر الأول: فهو الخوف من الجليل: الخوف من رب العزة جل جلاله، خشيته جل وعلا في السر والعلانية، والخوف من أليم عقابه، وأفضل الخلق وعقلاؤهم هم الذين يخافون الله جل وعلا، فالأنبياء مقالتهم: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم) (الأنعام : 15)، والملائكة:(يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون) (النحل : 50). وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحُق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله". فالخوف من الله هو الذي يمنع العبد من المحظورات، ويقمع الشهوات، ويكدر اللذات، وتتأدب به الجوارح، وينصلح به القلب، فيذل ويستكين، ويفارقه العُجب والكبر والأفكار الفاسدة والشهوات الآثمة، وينظر في خطر العاقبة ويحذر سوء الخاتمة.
لكن قلوبنا قست وغفلت عن الخوف من الله، وتهاونت في تعظيم حدوده وأوامره ونواهيه، لأنها امتلأت بما يفسدها من الأرجاس والأنجاس والباطل واللغو، فأصبحت مرتعاً لكل ما يجلب لها القسوة والفظاظة، فماذا ننتظر من قلوب أعرضت عن ذكر الله وسماع كلامه وأقبلت على كل مضل وكل تافه؟! ماذا ننتظر من قلوب لا نصيب لها في سماع كلامه جل وعلا وتلاوة كتابه وانكبَّت على سماع الألحان وما يصحبه من الفسق والعصيان؟! ماذا ننتظر من قلوب لا حرص لها على تصفّح كتابه تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وصار هواها الانهماك في تصفح أخبار الفن واللهو؟!. ماذا ننتظر من قلوب لم تطلب صحبة أهل العلم والخير وركنت إلى صحبة أهل اللهو واللغو؟!. ماذا ننتظر من قلوب لم تتوجه لسماع كلام الدعاة والعلماء والمصلحين وراحت تتبع كل ناعق أفّاك وتستمع لكلامه في تشويه العلماء والدعاة والتنفير من الالتزام بالدين الحق؟!: (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِين) (التوبة : 47). ماذا ننتظر من مثل هذه الأفئدة؟! وهل يبقى فيها مجال للخوف من الله واليوم الآخر؟! يقول جل وعلا: (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْه وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُون) (الأنعام : 113).
إذن: فنحن الذين نجلب بأنفسنا لقلوبنا ما يفسدها ويصيبها بالقسوة والجمود، وما يزيل عنها خوفها من خالقها جل وعلا.
أما الأمر الثاني: فهو العمل بالتنـزيل: أي العمل بالقرآن والشرع الذي أنزله الله جل وعلا، وتلك هي القضية الكبرى التي دارت حولها الخصومة العظيمة بيننا وبين من يعادينا أو يخالفنا من أهل الباطل، حيث اجتمعت كلمة الكفر والنفاق في مشارق الأرض ومغاربها على منع أهل الإسلام من العمل بالتنـزيل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
كبر عليهم أن نحيا بالإسلام ونعمل بالقرآن، كبر ذلك وعظم على الملحدين وعلى الوثنيين وعلى المشركين وعلى العلمانيين وعلى المفسدين المائعين.
كبر عليهم أن نقول نريد أن نعمل بالإسلام الذي أنزله الله جل وعلا، نريد أن نحيا بديننا الإسلام كما أراده الله عز وجل لا كما يريده الغرب ولا كما تريده أوروبا ولا كما يريده العلمانيون الذين يفصلونه عن الحياة، ولا كما يريده المفسدون المائعون الذين يجرّدونه من كل معنى ومن كل تشريع وكل أمر وكل نهي، إنما نريد أن نحيا بالإسلام الذي أراده الله ورسوله، وأن نعمل بالقرآن الذي أنزله الله عز وجل على رسوله، تلك هي قضيتنا، وذاك مطلبنا، وتلك هي بغيتنا، وهذا هو مقصودنا.
وواهمٌ من يظن أن العمل بالتنـزيل يمكن أن يتحقق بصورة فردية، فيعمل كل إنسان في نفسه بالتنـزيل بعيداً عن الآخرين، كلا!، ففي الإسلام شرائع وأحكام ذات علاقة بأكثر من طرف لا يتحكم فيها طرف بمفرده، شرائع لمجتمع ونظام لا لشخص بمفرده، ومن ثم فلا بد أن يقرر المجتمع جملة العمل بالتنـزيل.
إن العمل بالتنزيل هي القضية التي من أجلها أُريقت دماء وبُذلت في سبيلها الجهود والتضحيات، والعمل بالتنـزيل في ذلك كله هو محور الصراع، ومبعث التضحيات: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيد) (البروج : 8). وتحاك المؤامرات وتستمر ولا تنتهي لتركيع المسلمين لأعدائهم ومحو أي أثر للعمل بالتنـزيل في أي بقعة من الأرض.
ومع ثقتنا العميقة بأن هذا الإسلام العظيم الذي أراد الله جل وعلا أن يحرر به الإنسان، كل الإنسان في كل زمان وفي كل مكان، مع ثقتنا بأنه سينتصر بإذن الله وستعلو كلمة الله، إلا أن ذلك لا يعفينا من المسؤولية تجاه هذا الدين، من العمل لنصرته والذود عن شريعته، فقضية الإسلام وشريعته ليست قضية فلان من الدعاة أو سين من المجتمعات، إنما هي قضيتكم جميعاً يا أهل الإسلام.
فالخطب أكبر من لهو نقارفه والأمر أكبر من دعوى نناديها
ماذا نقول لربي حين يسألنا عن الشريعة لم نحمي معاليها
ومن يجيب إذا قال الحبيب لنا أذهبتم سنتي والله محييها
إن لم نردها لدين الله عاصفة سيذهب العرض بعد الأرض نعطيها
إذاً لا تتحقق التقوى عباد الله التي هي وصية الله للأولين والآخرين، إلا بالعمل بالتنـزيل، وأن نتبنى جميعاً كل واحد منا هذه القضية ونفكر من أجلها ونسعى في سبيلها.
بارك الله ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: أما الأمر الثالث الذي تقوم عليه تقوى الله جل وعلا فهو: الرضا بالقليل: وإنه والله لأمر يصعب علينا حتى لا يكاد يتحقق به أحد، حتى العالم الفاضل والداعية الناصح إلا من رحم الله.
فالقلوب مع الأسف يغلب عليها الطمع في المزيد والاستكثار من حطام الدنيا، لا لإنفاقه في سبيل الله ونصرة دينه، لكن لمجرد تحقيق شهوة امتلاك الكثير ولعدم الرضا بالقليل، وإن تطلعنا إلى الكثير لهو الذي يقعدنا عن كثير من البذل والتضحية ومواصلة الطريق، ويفقدنا كثيراً من الصبر والثبات، فالدنيا فتنة وبلاء، والسعيد القوي من زهّده الله فيها، وإذا أردت أن لا تغتم فلا تملك ما به تهتم، فالمؤمن لا يأبه أن تكون الدنيا لغيره إن حصلت له الآخرة.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير، فجلست، فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثَّر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير قال: فابتدرت عيناي أي بالبكاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك يا ابن الخطاب؟". قال: يا نبي الله وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خِزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوته وهذه خِزانتك. فقال: "يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟" قلت: بلى.
وهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه يبكي عند موته ويُسأل عن ذلك فيقول: عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون زاد أحدنا كزاد الراكب. وحولي كل هذه الأزواد. وإنما كان حوله جفنة وإجانة ومطهرة.
فإذا كان هذا حال نبيك وحال صحابته، فمن أنت حتى تريد أن تعيش كالملوك أو الأكاسرة والقياصرة؟ وإذا كان التطلع للكثير وعدم الرضا بالقليل قبيحاً في حق المسلمين عامة، فهو أقبح وأرذل في حق الدعاة وطلاب العلم، نسأل الله السلامة والعافية من فتنة السراء والضراء، ورحم الله الإمام أحمد بن حنبل إذ يقول: من علامة إخلاص العالم في علمه أنه كلما ازداد علماً ازداد في الدنيا زهداً وقلَّت أمتعة داره.
ولما مرض الإمام النووي رحمه الله مرضه الذي مات فيه ورجع من الشام إلى نوى بلده، لم يجدوا له متاعاً يحملونه إلى أمه سوى العكاز والإبريق.
أما اليوم فتجد أحدنا لا يريد الاجتهاد في عبادة ولا علم ولا طاعة ولا دعوة إلا بعد أن يحصل له من الدنيا كذا ويجد من وسائل الراحة ونعومة العيش كذا وكذا، وكل ذلك من فساد القلوب وقلة التقوى، وأذكر نفسي وإياك أخا الإسلام بقوله صلى الله عليه وسلم: "من بات معافى في بدنه آمناً في سربه عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها".
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على شكره والرضا بما يقسمه لنا.
وأما الأمر الأخير الذي تقوم عليه التقوى: فهو الاستعداد ليوم الرحيل عن الدنيا إلى الآخرة: يوم مفارقة هذه الدار والقدوم على الواحد القهار: (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُون، إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم) (الشعراء : 88-89)، (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى، وَبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِمَن يَرَى) (النازعات : 35-36). (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَة) (الحاقة : 18).
إنه الاستعداد لهذا اليوم، نقبل عليه من خلال الموت: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُور) (آل عمران : 185).
ثم بماذا تستعد ومتى تستعد؟ هل تستعد بالتفريط في جنب الله؟ هل تستعد بجمع حطام الدنيا؟ بماذا تستعد؟. الجواب معروف لكننا نراوغ ونخدع أنفسنا ونتبع أهواءنا.
ومتى تستعد؟ والله لا يضمن أحدنا إذا خرج من بيته أن يرجع إليه، وإذا طلع عليه نهار يوم أن يجنّ عليه ليله. فكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعُدَّ نفسك من أهل القبور، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك، فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غداً.
نسير إلى الآجال في كل لحظة وأيامنا تُطوى وهنّ مراحلُ
ولم أر مثل الموت حقاً كأنه إذا ما تخطّته الأمانيُّ باطل
وما أقبح التفريط في زمن الصبا فكيف به والشيب للرأس شامل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيام وهنّ قلائل
فكم من مُستقبِل يوماً لا يستكمله، وكم من مؤملٍ لغدٍ لا يدركه، إنكم لو رأيتم الأجل وسيره لأبغضتم الأمل وغروره، ورحم الله عون بن عبد الله إذ يقول: إن من أنفع أيام المؤمن في الدنيا ما ظن أنه لا يدرك آخره.
تلك عباد الله الأمور العظام التي تجمع معنى التقوى: الخوف من الجليل، والعمل بالتنـزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
هذه هي التقوى، جعلني الله وإياكم من المتقين.
اللهم ..