وصف الجنة وأحكام زكاة الفطر1445
عبدالرحمن سليمان المصري
وصف الجنة وأحكام زكاة الفطر
الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ الذي جَعلَ جَنَّاتِ الفِردوسِ للمُؤمِنينَ نُزُلاً، ونَوَّعَ لهمْ طُرُقَ الخيرِ لِيتَّخذُوا مِنهَا إلى الجنَّةِ سُبُلاً وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أن محمداً عَبدهُ ورسولهُ ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلَّم تسليماً كثيراً ، أما بعد :
أوصيكمْ ونفسي بتقوى اللهِ تعالىَ فهيَ وَصيةُ اللهِ للأَولينَ والآخِرينَ ، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ النساء : 131.
عباد الله : بَادِرُوا حَياتَكُمْ قَبلَ فَنائِها، وأَعْمَارَكُمْ قَبلَ اِنْقِضَائِها ؛ بِفعلِ الخيراتِ والاكثارِ من الطاعاتِ، فإنَّ الفُرصَ لا تَدومُ ، والعوارضُ التي تحولُ بينَ المرءِ وعَملهِ غيرُ مأَمُونَةٍ ، والعبدُ بينَ زمانٍ مضَى لا يَستطيعُ رَدهُ ، ومُستقبلٍ لا يَدري : هلْ يُدركُهُ أو لا ، وحَاضِرٍ إنْ لمْ يَستفدْ مِنهُ ؛ ذَهبَ مِنهُ وَهوَ لا يَشعُرْ ، فَليَستدرِكِ المُسلمُ مَا مضَى بالتَّوبَةِ ممَّا فَرّطَ فِيهِ ، وليَستغلَّ حَاضِرهُ باغتنامِ أَيَّامِهِ ولَيَالِيهِ ، قال تعالى ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ الحديد : 21.
عباد الله : الجنةُ هي دارُ الجزاءِ العظيمِ ، والثوابِ الجزيلِ ، الذي أعدَّهُ اللهُ لأوليائِهِ وأَهلِ طَاعتهِ ، ودخولُ الجنةِ والنَّجاةِ منَ النَّارِ هوَ الفوزُ الكبيرُ والفلاحُ العظيمُ ، قال تعالى: ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ آل عمران: 185.
عباد الله : نَعيمُ الجنَّةِ يَفوقُ الوصفَ ، ويَقْصُرُ دُوْنَهُ الخَيالُ ، ليسَ لِنَعِيمِهَا نَظِيرٌ فِيما يَعلَمُهُ أَهلُ الدُّنيا، ومَهْمَا تَرقَّى النَّاسُ في دُنيَاهُمْ ، فَسَيبقَى ما يَبْلُغُونَهُ أَمراً هيِّناً بِالنِّسبةِ لِنعيمِ الآخرةِ ، فَالجنَّةُ كَمَا وردَ في بعضَ الآثارِ لا مِثْلَ لهَا، " هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ ، وَنَهَرٌ مُطَّرِدٌ ، وَثَمَرَةٌ نَضِيجَةٌ ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ ، وَمَقَامٌ أَبَدًا فِي دَارٍ سَلِيمَةٍ ، وَفَاكِهَةٍ وَخُضْرَةٍ ، وَحِبْرَةٍ وَنِعْمَةٍ ، فِي مَحِلَّةٍ عَالِيَةٍ بَهِيَّةٍ "
وقدْ سَألَ الصحابةُ الرسولَ صلى الله عليه وسلم عنْ بِناءِ الجنةِ ، فقالَ : " لَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ، وَلَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ ، وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ ، وَتُرْبَتُهَا الزَّعْفَرَانُ ، مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ وَلَا يَبْأَسُ ، وَيَخْلُدُ وَلَا يَمُوتُ ، وَلَا يَبْلَى ثِيَابُهُمْ ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ " رواه أحمد بسند صحيح .
والجنَّةُ لهَا ثَمانِيةَ أَبوابٍ ؛ " فِيهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانَ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا الصَّائِمُونَ " ، وهناكَ بابٌ لِأَهلِ الصَّلاةِ ، وبابٌ لِأَهلِ الصدقة ، وبابٌ لِأَهلِ التوبةِ ، وبابٌ لِأَهل الطَّاعةِ .
عباد الله: وسِعةُ أَبوابِ الجَنَّةِ : "كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ ، وَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى" أي بِعَرْضِ الجَزيرةِ العَربيةِ.
وجاءَ مِنْ حَديثِ عُتْبَةُ بنُ غَزْوَانٍ رضي الله عنه قال : " وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ ، مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ " رواه مسلم .
قال ابنُ القيَّمِ رّحِمهُ اللهُ : وَلعلَّ هَذا البابَ الأعظمَ لهَا .
عباد الله : و الجنةُ دَرجَاتٍ بَعضُهَا فَوقَ بَعضٍ ، وأَهلُهَا مُتَفَاضِلونَ فِيها بِحَسبِ مَنازلهِم فِيها ، وأولياءُ اللهِ المؤمنونَ المتقونَ في تلكَ الدرجاتِ بِحسبِ إِيمانِهمْ وتَقوَاهُمْ ، قال تعالى: ﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ﴾ الإسراء : 21.
قال صلى الله عليه وسلم: " سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ، مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً، قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ ، كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ ، وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ ، فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا ؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ ، قَالَ: رَبِّ ، فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي ، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا ، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ "، قَالَ: وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ:﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾السجدة: 17 رواه مسلم .
عباد الله : سَارِعُوا إلى جَنَّةٍ لا يَفْنَى نَعِيمُهَا ولا يَبِيدُ ، وليسَ في نَعِيمِها انقِطاعٌ ، ولا تَنغيصٌ ولا تَنكيدٌ،
«يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ جُرْدًا، مُرْدًا - أيْ لا شَعرَ على أجَسَادِهم ، ولا عَلى أذَقانِهم- ، بِيضًا، جِعَادًا مُكَحَّلِينَ أَبْنَاءَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ، عَلَى طُولِ آدَمَ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي عَرْضِ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ "
" لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَمْتَخِطُونَ وَلَا يَتْفُلُونَ، أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ ، وَمَجَامِرُهُمُ الْأَلُوَّةُ ، وَأَزْوَاجُهُمُ الْحُورُ الْعِينُ ، أَخْلَاقُهُمْ عَلَى خُلُقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ "
لهمْ فِيها أَزواجٌ مُطهرةٌ ، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا *عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴾الواقعة : 35 -37 ، أَنشأهنَّ اللهُ إِنشاءً كاملاً بَدِيعاً، فَجَعَلَهُنَّ أَبكاراً دَائِماً ، عُرباً يَتَحَبَّبْنَ إلى أَزوَاجِهِنَّ بِتَحسِينِ الظَّاهرِ والبَاطنِ ، أَتراباً على سِنٍّ وَاحدةٍ .
" لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا -أي خمارها- خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا " رواه البخاري .
.
عباد الله : وأَعَظَمُ نَعِيمٍ لِلمؤْمِنينَ هُوَ رُؤْيَةُ اللهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى ، ويَتجلَّى لَهُمْ فَيَنْظُرونَ إِليهِ فَلا يَجدُونَ نَعِيماً أَكْمَلَ مِنَ النَّظرِ إلى اللهِ عزَّ وَجَل ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ القيامة: 22 – 23 .
وَمِنْ أَعْظَمِ النَّعيمِ أَيضاً أنَّ اللهَ يُحلُّ عَليْهِمْ رِضْوَانَهُ ، فَلا يَسْخَطْ عَلَيْهمْ أَبداً ، نَسألُ اللهَ مِنْ وَاسِعِ فَضْلهِ.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا . أما بعد :
عباد الله : اعْلَمُوا أنَّ لَكُمْ في خِتَامِ شَهْرِكُمْ عِبَادَاتٍ جَلِيلَةٍ، تَعْمَلُونَ بها شُكْرًا لِرَبِّكُم، فتَزْدَادُونَ مِنهُ قُربًا، ومِنْها : زَكَاةُ الفِطْر، وهِيَ صَاعٌ مِنْ طعام ، عَلَى الصَّغِيرِ والكَبِيرِ، والذَّكَرِ والأُنثَى، شَرَعَهَا اللهُ تعالى شُكْرًا على إكْمَالِ العِدَّة، وطُهْرَةً للصَّائمِ مِنَ اللَّغْوِ والرَّفَث، وإغْنَاءً للفُقَرَاءِ والمَسَاكِين عَنْ ذُلِّ السُّؤَالِ يَوْمَ العِيد ، ووَقْتُ إخْرَاجِهَا مِنْ ليلة العِيدِ إلى صَلاةِ العِيد، ويجوزُ إخرَاجُهَا قبلَ العِيدِ بِيَومٍ أو يومَين ، فَأَخرِجُوها طَيِّبَةً بها نُفُوسُكُم.
عباد الله : صَلاةُ العِيدِ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ ، أَمَرَ بها رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرِّجالَ ، وحَثَّ النِّساءَ على حُضورِهَا غَيرَ مُتطيِّبةً ولا مُتَزيِّنةً .
ومِمَّا يشُرِعَ في خِتَامِ الشهر: التَّكْبِيرَ لَيْلَةَ الْعِيدِ؛ من غُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ إِلَى صَلاَةِ الْعِيدِ ، قال تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾البقرة:185 .
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ الأحزاب : 56 .
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .