وصفدت الشياطين
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
الحَمْدُ للهِ العَلِيمِ الحَكِيمِ؛ شَرَعَ مَوَاسِمَ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ لِعِبَادِهِ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمْ فِيهَا مِنْ رَحَمَاتِهِ، وَخَصَّ العَامِلِينَ بِعَظِيمِ هِبَاتِهِ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ فَضَّلَ رَمَضَان عَلَى الشُّهُورِ، وَاخْتَصَّهُ بِفَرِيضَةِ الصَّوْمِ، وَجَعَلَهُ مَيْدَانًا لِلسَّبْقِ وَالفَوْزِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ «كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ، حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ»، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَافْتَتِحُوا الشَّهْرَ المُبَارَكَ بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ، وَعَاهِدُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى لُزُومِ العَمَلِ الصّالِحِ المَبْرُورِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ المَبْرُورَ مِنَ العَمَلِ هُوَ مَا أُقِيمَتْ فُرُوضُهُ وَسُنَنُهُ، وَلَمْ يُخَالِطْهُ شَيْءٌ مِنَ الإِثْمِ؛ فَأَقِيمُوا فُرُوضَ الشَّهْرِ وَسُنَنَهُ، وَاعْمُرُوا أَوْقَاتَهُ بِالطَّاعَةِ، وَاحْذَرُوا آثَامَ الأَلْسُنِ وَالأَسْمَاعِ وَالأَبْصَارِ؛ فَإِنَّهَا تُخْرِجُ الصِّيَام عَنِ البِرِّ، «وَمَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»؛ كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
أَيُّهَا النَّاسُ: مَعْرَكَةُ الإِنْسَانِ مَعَ الشَّيْطَانِ مَعْرَكَةٌ طَوِيلَةٌ عَنِيفَةٌ، حَتَّمَتْ عَلَى بَنِي آدَمَ مُلاَزَمَةَ الجِهَادِ أَعْمَارَهُمْ كُلَّهَا، ابْتَدَأَتْ هَذِهِ المَعْرَكَةُ مُنْذُ إِخْرَاجِ الأَبَوَيْنِ -عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ- مِنَ الجَنَّةِ، وَهُبُوطِهِمَا إِلَى الأَرْضِ، وَابْتِلاءِ الخَلْقِ، وَهِيَ مُسْتَمِرَّةٌ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَابْتَدَأَ تَحْذِيرُ اللهِ تَعَالَى لآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ وَإِغْوَائِهِ مُنْذُ خَلَق آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ؛ وَلِذَا ذَكَّرَهُ اللهُ تَعَالَى وَزَوْجَهُ تَحْذِيرَهُ إِيَّاهُمَا لَمَّا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ المَنْهِيِّ عَنْهَا؛ [وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَان لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ] {الأعراف:22}، وَكَانَ هَذَا التَّحْذِيرُ مَوْصُولاً لِذُرِّيَّةِ آدَمَ مِنْ بَعْدِهِ؛ [يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَان كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنَّة] {الأعراف:27}.
وَحَذَّرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُمُومَ بَنِي آدَمَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَبَيَّنَ عَدَاوَتَهُ لَهُمْ؛ [إِنَّ الشَّيْطَان لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ] {فاطر:6}، وَجَعَلَ سُبْحَانَهُ هَذَا التَّحْذِيرَ عَهْدًا عَهِدَ بِهِ لِبَنِي آدَمَ؛ لِيَكُونَ أَكْثَرَ ثِقَةً، وَأَبْلَغَ مَعْذِرَةً، وَأَشَدَّ مِيثَاقًا؛ [أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] {يس:60}.
إِنَّ عَمَلَ الشَّيْطَانِ مَعَ بَنِي آدَمَ يَكُونُ فِي جَانِبَيْنِ: جَانِبِ الصَّدِّ عَنِ دِينِ اللهِ تَعَالَى، وَجَانِبِ الوُقُوعِ فِيمَا حَرَّمَ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ نَهَانَا اللهُ تَعَالَى عَنِ اتِّباعِ الشَّيْطَانِ فِي كِلَا الجَانِبَيْنِ؛ فَفِي الصَّدِّ عَنْ دِينِ اللهِ تَعَالَى قَالَ سُبْحَانَهُ: [وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] {الزُّخرف:62}، وَفِي تَزْيِينِ ارْتِكَابِ المُحَرَّمِ قَالَ سُبْحَانَهُ: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَان وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَان فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ] {النور:21}، وَيَنْتَهِجُ الشَّيْطَانُ فِي إِغْوَائِهِ لِبَنِي آدَمَ أُسْلُوبَ الوُعُودِ الكَاذِبَةِ، وَالأَمَانِي البَاطِلَةِ؛ [يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَان إِلَّا غُرُورًا] {النساء:120}.
وَمِنْ سِيَاسَةِ الشَّيْطَانِ مَعَ بَنِي آدَمَ فِي تَرْكِ الطَّاعَةِ وَفِعْلِ المَعْصِيَةِ أَنَّهُ يَأْخُذُهُمْ بِالتَّدَرُّجِ، وَيَنْتَقِلُ بِهِمْ مِنْ خُطْوَةٍ إِلَى أُخْرَى أَكْبَرَ مِنْهَا حَتَّى يَتَفَلَّتَ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الدِّينِ تَدْرِيجِيًّا، وَرُبَّمَا خَرَجَ مِنْهُ بِالكُلِّيَّةِ؛ وَلِذَا حَذَّرَ اللهُ تَعَالَى بَنِي آدَمَ مِنْ هَذَا الأُسْلُوبِ الشَّيْطَانِيِّ المَاكِرِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ الكَرِيمِ: [وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] {البقرة:208}.
وَبِسَبَبِ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وَالتَّسَاهُلِ بِالخُطْوَةِ الأُولَى يَقَعُ الارْتِدَادُ الجُزْئِيُّ أَوِ الكُلِّيُّ عَنِ الدِّينِ؛ [إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيْطَان سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ] {محمد:25}.
وَلاَ يَقْتَصِرُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الزَّيْغِ وَالانْحِرَافِ، أَوِ المَوْصُوفِينَ بِالجَهْلِ وَالحُمْقِ، بَلْ قَدْ يَتَجَاوَزُهُمْ إِلَى أَهْلِ العِلْمِ وَالفَضْلِ إِذَا مَا اسْتَسْلَمُوا لِنَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ، وَتَسَاهَلُوا بِخُطُوَاتِهِ؛ [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَان فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ] {الأعراف:175}. وَهَذَا عَمَلُ الشَّيْطَانِ فِي الأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَلَوْلاَ غِوَايَتُهُ لَبَقِيَ الدِّينُ مِنْ عَهْدِ آدَمَ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَلَمْ يُحَرَّفْ؛ وَلِذَا أَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى الرُّسُلَ لِإِحْيَاءِ مَا مَاتَ مِنْهُ وَضَاعَ، فَيَسْعَى الشَّيْطَانُ لِبَقَاءِ النَّاسِ عَلَى الكُفْرِ وَالمَعْصِيَةِ، وَيُزَيِّنُ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ؛ [تَالله لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَان أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] {النحل:63} [وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ] {سبأ:20}.
وَرَمَضَانُ مَوْسِمٌ يُبْغِضُهُ الشَّيْطَانُ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الصِّيَامِ يَنْشَطُونَ فِيهِ بِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، وَيَجْتَهِدُونَ فِي أَعْمَالِ البِرِّ، وَيَقِلُّ مِنْهُمْ وُقُوعُ العِصْيَانِ، وَتُوثَقُ فِيهِ الشَّيَاطِينُ عَنْ إِغْوَاءِ الصَّائِمِينَ؛ وَقَدْ جَاءَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«إِذَا دَخَلَ شَهرُ رَمَضَان فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَغُلِّقَتْ أَبوَابُ جَهَنَّمَ، وسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ»؛ رَوَاهُ الشَّيخَان، وَفِي رِوَايَةٍ :«إِذَا كَانَ أَوَّلُ ليْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّياطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ».
فَهَذَا الحَدِيثُ يُفِيدُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تُصَفَّدُ فِي رَمَضَانَ، وَالمُتَأَمِّلُ فِي آيَاتِ القُرْآنِ الَّتِي تَنَاوَلَتْ أَعْمَالَ الشَّيْطَانِ فِي الإِنْسَانِ يَجِدُ فِيهَا مَا يُؤَيِّدُ مَنْطُوقَ الأَحَادِيثِ فِي تَصْفِيدِ الشَّيَاطِين فِي رَمَضَانَ؛ فَإِنَّ لِلشَّيَاطِينِ أَعْمَالاً كَثِيرَةً تَضْعُفُ فِي رَمَضَانَ، فَيُقْبِلُ النَّاسُ عَلَى الخَيْرِ، وَيَبْتَعِدُونَ عَنِ الشَّرِّ:
فَمِنْ أَعْمَالِ الشَّيْطَانِ فِي النَّاسِ دَعْوَتُهُمْ إِلَى الشُّحِّ وَالبُخْلِ وَالفَوَاحِشِ؛ [الشَّيْطَان يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ] {البقرة:268}، وَرَمَضَانُ شَهْرُ الإِنْفَاقِ، وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ، وَبَذْلِ الإِحْسَانِ، وَهَذَا يَتَنَافَى مَعَ عَمَلِ الشَّيْطَانِ؛ فَإِنَّ نُفُوسَ الصَّائِمِينَ أَسْخَى فِي رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِهِ.
وَمِنْ أَعْمَالِ الشَّيْطَانِ فِي الإِنْسَانِ مَا ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: [إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَان أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ] {المائدة:91}، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الحَدِيثِ أَنَّ الصِّيَامَ يُذْهِبُ مغَلَّةَ الصَّدْرِ، فَتُصْبِحُ قُلُوبُ المُؤْمِنِينَ سَلِيمَةً بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَكَمْ مِنْ نُفُوسٍ مَشْحُونَةٍ مُثْقَلَةٍ طَهُرَتْ قُلُوبُهَا فِي رَمَضَانَ، وَأَلْقَتْ غِلَّهَا وَحِقْدَهَا فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ؟ وَكَمْ مِنْ مُتَخَاصِمِينَ العَامَّ كُلَّهُ اصْطَلَحُوا عِنْدَ إِهْلاَلِ الشَّهْرِ؟!
وَلِكَيْ يَتَّضِحَ لَكُمْ مَا فِي الصِّيَامِ مِنْ إِغَاظَةٍ لِلشَّيْطَانِ فِي هَذَا الجَانِبِ، وَأَثَرِهِ فِي سَلَامَةِ القُلُوبِ؛ قَارِنُوا قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: [وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَان يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَان كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا] {الإسراء:53}، بِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلاَ يَرْفُثْ ولا يَجْهَلْ، وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَفِي رَمَضَانَ يَنْشَطُ كَثِيرٌ مِنَ الكُسَالَى فِي الصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ القُرْآنِ، مِمَّا يُغِيظُ الشَّيْطَانَ، وَيُعَطِّلُ مُهِمَّتَهُ فِي الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعِنِ الصَّلاةِ.
وَرَمَضَانُ شَهْرُ التَّوْبَةِ، وَالتَّوْبَةُ يُبْغِضُهَا الشَّيْطَانُ؛ لِأَنَّهَا تَهْدِمُ بُنْيَانَهُ، وَتَكْسِرُ جُنْدَهُ، وَتُقَلِّلُ أَعْوَانَهُ، وَتَنْقُلُ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُلُمَاتِ الكُفْرِ وَالمَعَاصِي إِلَى نُورِ الإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ؛ [إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَان تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ] {الأعراف:201}، [وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَان نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ] {فصِّلت:36}، وَكَثِيرٌ مِنَ العُصَاةِ كَانَ رَمَضَانُ مِيلادًا لِتَوْبَتِهِمْ.
وَيَكْفِي فِي كَرَاهِيَةِ الشَّيْطَانِ لِرَمَضَانَ أَنَّهُ شَهْرٌ تَنْتَصِرُ فِيهِ النُّفُوسُ عَلَى أَهْوَائِهَا، وَتَقْهَرُ شَهَوَاتِهَا، فَتَتَأَهَّلُ لِلنَّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهَا فِي مَيَادِينِ النِّزَالِ الكُبْرَى، وَأَوَّلُ فُرْقَانٍ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ فُرِضَ عَلَى الأُمَّةِ؛ إِيذَانًا بِأَنَّ رَمَضَانَ سَيَكُونُ مَوْقِعًا لانْتِصَارَاتِ الأُمَّةِ وَعِزِّهَا وَعُلُوِّهَا، وَهُوَ يَوْمُ انْدِحَارِ الشَّيْطَانِ وَإِصْغَارِهِ؛ كَمَا رَوَى طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ كَرِيزٍ أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:«مَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلاَ ادْحَرُ وَلاَ أَحْقَرُ وَلاَ أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ... إِلاَّ مَا أُرِى يَوْمَ بَدْرٍ، قِيلَ: وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلاَئِكَةَ»؛ رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا.
وَكَثِيرٌ مِنْ مَعَارِكِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ تُوِّجَتْ بِالنَّصْرِ المُبِينِ، وَهَذَا مَا يُغِيظُ الشَّيْطَانَ وَيَدْحَرُهُ، وَفِي رَمَضَانَ المَاضِي انْكَسَرَ العُبَيْدِيُّ القَذَّافِيُّ بَعْدَ أَرْبَعَةِ عُقُودٍ مِنَ البَطْشِ وَالظُّلْمِ وَالقَهْرِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَبَوَادِرُ رَمَضَانِنَا هَذَا تَشِي بِكَسرِ القِرْمَطِيِّ الشَّامِيِّ، وَانْتِصَارِ أَبْطَالِ الشَّامِ عَلَى القَرَامِطَةِ النُّصَيْرِيِّينَ؛ فَإِنَّ الخَلْخَلَةَ العَظِيمَةَ لِلنِّظَامِ النُّصَيْرِيِّ البَعْثِيِّ جَاءَتْ قُبَيْلَ رَمَضَانَ بِشَارَةً بِانْتِصَارٍ عَظِيمٍ لِهَذِهِ الأُمَّةِ المُبَارَكَةِ عَلَى البَاطِنِيَّةِ الَّتِي نَكَّلَتْ بِالمُسْلِمِينَ، وَأَذَاقَتْهُمْ سُوءَ العَذَابِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الدِّيَارِ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ..
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الشَّهْرَ الكَرِيمَ عِزًّا لِلْإِسْلامِ وَالمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَكَسْرًا لِأَعْدَاءِ المُسْلِمِينَ مِنَ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ، وَأَنْ يَسْتَعْمِلَنَا فِيهِ بِطَاعَتِهِ، وَيُعِينَنَا عَلَى مَا يُرْضِيهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
[وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ الله العَزِيزِ الحَكِيمِ] {آل عمران:126}.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ...
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:183}.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: خَلِيقٌ بِرَمَضَانَ وَقَدْ صُفِّدَتْ فِيهِ الشَّيَاطِينُ أَنْ يَكُونَ شَهْرَ التَّقْوَى؛ فَإِنَّ التَّقْوَى فِعْلُ الأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي، والشَّيْطَانُ هُوَ مَنْ يُزَيِّنُ لِلنَّاسِ التَّمَرُّدَ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَالوُقُوعَ فِي مَعْصِيَتِهِ.
وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ مَا اخْتُصَّ بِهِ رَمَضَانُ مِنْ تَصْفِيدِ الشَّيَاطِينِ يَنَالُهُ المؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَظَّمُوا رَمَضَانَ، وَقَامُوا بِحَقِّ اللهِ تَعَالَى فِيهِ، وَأَمَّا الكُفَّارُ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ الإِفْطَارَ فِيهِ، وَلاَ يَرَوْنَ لَهُ حُرْمَةً، فَلا تُصَفَّدُ شَيَاطِينُهُمْ فِي رَمَضَانَ.
ومَنْ شَابَهَ الكُفَّارَ مِنَ المسْلِمِينَ فِي انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ، وَإِتْيَانِ المفْطِرَاتِ، أَوْ فِعْلِ مَا يُبْطِلُ الصِّيَامَ، أَوْ يُنْقِصُ أَجْرَهُ مِنَ الغِيبَةِ والنَّمِيمَةِ، وَقَولِ الزُّورِ وَشُهُودِ مَجالِسِهِ، وَالعُكُوفِ عَلَى المُسَلْسَلاَتِ فِي الفَضَائِيَّاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الإِثْمِ؛ فَيُخْشَى عَلَيْهِمْ مِنْ فَوَاتِ هَذَا الفَضْلِ العَظِيمِ فِي رَمَضَانَ، وَأَنْ تُطْلَقَ شَيَاطِينُهُمْ، فَتَعِيثُ فِيهِمْ فَسَادًا وَإِفْسَادًا، فَيَخْرُجُونَ مِنْ رَمَضَانَ بِآثَامٍ أَمْثَالَ الجِبَالِ..
فَأَحْسِنُوا بِدَايَةَ هَذَا الشَّهْرِ الكَرِيمِ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالإِنَابَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَالإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِقُلُوبٍ سَلِيمَةٍ مِنْ فِتَنِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، سَالِمَةٍ مِنَ الغِشِّ وَالدَّغَلِ وَالأَحْقَادِ؛ فَإِنَّ مَنْ بَدَأَ شَهْرَهُ بِالتَّوْبَةِ وَالتَّقْوَى فَحَرِيٌّ أَنْ يَرْتَقِيَ فِي سُلَّمِ الإِيمَانِ، فَلاَ يَخْتُمُ شَهْرَهُ إِلاَّ وَقَدْ بَلَغَ دَرَجَةَ الإِحْسَانِ، وَمَنْ حَقَّقَ الإِحْسَانَ نَالَ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ [فَآَتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] {آل عمران:148} [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] {العنكبوت:69}.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا..
المرفقات
وصفدت الشياطين.doc
وصفدت الشياطين.doc
م وصفدت الشياطين.doc
م وصفدت الشياطين.doc
المشاهدات 4127 | التعليقات 6
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا وبلغنا جميعا شهر الخير والقرآن وأعاننا عليه بمزيد الطاعة والإحسان
جزاك الله خيرا
بارك الله لك وللجميع بالشهر الفضيل وكل عام وأنتم بخير
اللهم أعذنا من نزغات الشيطان،وانصر إخواننا المسلمين في كل مكان.
جزى الله الشيخ إبراهيم خير الجزاء،ونفع الله بهذه الخطبة المفيدة.
شكر الله تعالى لكم إخواني الكرام مروركم وتعليقكم على الخطبة سائلا المولى سبحانة أن ينفع بكم ويجزيكم خير الجزاء.. اللهم آمين.
قلبي دليلي
جزاك ربي الجنة
ومبارك عليك شهر رمضان
تعديل التعليق