وصايا للطالب والمعلم بمناسبة عودة الدراسة

د. منصور الصقعوب
1440/12/26 - 2019/08/27 17:19PM

الخطبة الأولى                

منظر رائع ذلكم الذي تزدان به الطرقات مع عودة الطلاب لرياض التعليم, مشهدٌ جميل يوم أن ترى الآلاف من الطلاب خرجوا يتأبطون كتبهم ويؤمون مدارسهم, إنه منظرٌ يسرُ الناظرَ لمجدِ أمتهِ الطموحَ لعزِ دينه ومجتمعه، عندما يرى العلمَ يسري في دماء شبابِ الأمةِ، والجهلَ يتَضَعْضَعُ أمامَ نورِ العلمِ، والأميةَ تتراجعُ أمامَ إشراقةِ الفكرِ, وهل أمةٌ سادت بغيرِ التعلمِ؟! وأعلى من ذلكَ وأحسن ((من سلكَ طريقًا يلتمسُ فيه علمًا سهّلَ اللهُ به طريقًا إلى الجنةِ)) رواه مسلم.

بعد يومين تعود المدارس من جديد لتستقبل أفواجها, بعد إجازة مرّت وانتهت, قضى الجميع فيها أشهراً متتابعة, منهم من اكتسب فيها معارف, وتقرب فيها لمولاه, ومنهم من مضت عليه بلا استثمار, ومنهم من عاد ولم يجنِ من ثمار الإجازة إلا الكسل والخمول, ومنهم من عاد أقرانه لفصولهم وهو قد ثوى في قبره, فالمنايا تخطف والأرواح تُقبض, والآجال لا تفرق بين طالب وأستاذ, وصغير وكبير

معشر الكرام: الطلاب هم أمل الغد ورجال المستقبل, والأمم إنما تعتمد في نهضتها بعد توفيق الله على سواعد شبابها, فهم العُدة في البلاء والزينة في الرخاء, وكم كان الشباب مشاعلَ نور وخير, وكم كان لهم الدور في الرفعة ورفع الذلّة, وهنا فكلمات تذكير لكم أيها الطلاب ضعوها في الحسبان.

أيها الشاب: ليس بينك وبين أن تكون الدراسةُ قربةً وعبادةً, أو تكون حملاً ثقيلاً وعناءَ, إلا حسنَ القصد, لذا   وأنت تتجه لمقاعد الدراسة أخلص القصد لعالم الخفايا, وانوِ بهذا الوقت الذي يُمضى, والخطواتِ التي تُخطى وما تناله من علمٍ النية الطيبة, إنو به نفع النفس ورفع الجهل عنها ونفع الناس بعد ذلك, وكم ينال العبدُ من البركات بعلم يطلبه وقد أخلص في ذلك النيات, أو يوبَقُ في الدركات بعلمٍ شرعي ينوي به غير رب البريات .

لتكن همتك أوسع وعزيمتك أرفع, من أن تتعلم لأجل نيل شهادة أو تَحَصُّلِ على وظيفة, أو لأجل العلو على الأقران, فتلك أهداف إن لم تضر صاحبها لم تنفعه.

ليكن في عزمك أن تطبق ما تعلمت إن كان مما أمرت به شرعاً ليثبت علمك, وإلا ظل نظرياً لا تنتفع به, وقد قيل:

هتف العلم بالعمل                    إن أجابه وإلا ارتحل

أيها الطلاب: إذا كانت نفوس الكرام قد جُبلت على حب من أحسن إليها, فكم أحسن المعلم لطلابه, فهو الذي يتعب لأجلهم, وينصب ليرتقي بمداركهم, وحينها أفلا يستحق منكم كلَ تقدير واحترام؟, ونفوس الأوفياء من الطلاب تزجي الشكر لمن علّمها قولاً وفعلاً, يتجلى ذلك في الدعاء لهم بظهر الغيب, والثناءِ عليهم في المجالس لا لمزِهم, والتحلي برونق الأدب تجاهَهم, وتوجيهِ النصح لهم بكل رفق وروية إن استدعى الأمر ذلك.

لقد كان أسلافك يقدُرون المعلم قدره, فهذا الإمام الشافعي يقول: "كنت أتصفح الورقة بين يدي شيخي مالك تصَفحًا رقيقًا لئلا يسمع وَقْعَها"، ويقول الربيع: "والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعيُ ينظرُ إليَّ؛ هيبةً له", فما هو قدر المعلم في قلوبكم.

معاشر الطلاب: الأمة اليوم وهي تمر بأزمان عصيبة, لن يغير من واقعها مالٌ ولا سلاح ولا عدد, بل هي إلى همة شبابها أحوج ما تكون, يُغَيِّرُ من واقعها عقولٌ شابة امتلأت عقيدةً وهمةً عالية وعزيمة ماضية.

يا أمل الأمة: حين تكون أمتُك هي أمة العلم والمعرفة, فالمعرفة والثقافة لن تُنال عبر وسائل التواصل والدردشة, ولا تتسع بقراءة الروايات, ولا تحصل بالتميز في الألعاب الالكترونية, بل بما تودعه عقلك من مقروء ومحفوظ, يقول ابن الجوزي عن همته في القراءة حين كان في سنّ الشباب: إن قلتُ إني قرأت أكثر من عشرين ألف مجلدة وأنا بعدُ في زمن الطلب, هذا شاب فأين همتك أنت أيها الشاب

معشر الكرام: ولن نُخرِّج جيلاً بدون مربي, ولن ترتقي العقول بدون معلم, فَحُقَّ للمعلمين أن يفخروا بأنهم بُناة الجيل, فليهنأ أصحاب الدنيا وأصحاب اللهو بما عندهم, ففخركم أنكم تصوغون عقول الغد .

أرأيت أعظم أو أجل من الذي    يبني وينشئ أنفساً وعقولاً

أيا معلم الناسِ الخير: يكفيك مُرغِباً في التعليم أنك إن احتسبت وكان ما تُعلِّمه خيراً فلك شرف صلوات ربك ومدحُ نبيك "إن الله وملائكته وأهل السماوات وأهل الأرض حتى النملة في جحرها ليصلون على معلم الناس الخير"

أيها المعلمون والمربون: لقد قذفت لكم الأمة بأفلاذ كبدها وجُمَّار قلبها وثمرة فؤادها فماذا أنتم صانعون؟, إن الأمم أيها المعلم لا تتقدم بمجرد جمع المعلومات بل تتقدم وتعلو بتربيةٍ تعمل على غرس القيم وبناء المباديء وإحياء روح الأمة, وإلى جعل ذلك واقعاً عملياً, ولأجل هذا فما أحراك وأنت تخرج لعملك أن يكون همُّك بناءَ عقولٍ ترتقي بالأمة وأن تمُد يد الشفقة والنصح للأبناء, وإن قوبلت بأيدٍ غلاظ, أو صدود ونكران للجميل, وأن تنوي الخير فإنك حينها تُعانُ عليه, وكم خرّجت لنا الأيام من قادة وعلماء ومفكرين, كانت البذرة الأولى بعد توفيق الله غرسها مدرس موفق, فتتابع السقي عليها حتى بلغ الزرع أشده.

وإذا كان المرء ينقطع عمله بانقضاء أجله فإن من الناس من يرحل عن الدنيا وعمله لا زال باقياً, والحسنات تكتب له إلى آجال متطاولة, فهل فكرت أيها المدرس أن تجعل من طُلاّبك منافذ للأجر بعد رحيلك, فغرست فيهم الخير والعلم, وليس بخافٍ عليك قول المصطفىr " إذا مات ان آدم انقطع عمله إلا من ثلاث.. علم ينتفع به", وكم ترى من أناسٍ ما زالوا وإن تباعدت السنين يدعون لمعلمٍ أمرهم بخير أو أسدى لهم نصحاً فهنيئاً لمعلم أخلص عمله لله واجتهد ونصح لخلق الله.

أيها المعلمون: أنتم قدوات الطلاب, ينظرون إليكم, وتتعلق أعينهم بكم, وربما سعى البعض إلى محاكاتكم, فكونوا قدوات خير, ونماذج برّ بالفعال قبل الأقوال, ولا يغب عن البال قول عمر بن عتبة لمؤدب ولده: ليكن أولَ إصلاحك لولدي إصلاحَك لنفسك، فإن عيونهم معقودةٌ بك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت, والأمل فيكم كبير أيها الفضلاء.

جميلٌ أن يكون المعلم قدوةً في خُلقه فلا يُرى منه إلا طيبُ التعامل وسلامة اللسان, وقدوةً في عبادته فلا يرى طلابه منه إلا المبادرة للطاعات والتنائي عن المعاصي والمحرمات.

الطالب الذي يرى مدرّسه في حالٍ من الميوعة أو التسيُّب والتلاعب كيف يتعلم الفضيلة والرجولة؟!

الطالب الذي يسمع من مدرّسه السبَ والشتمَ والبَذَاء كيف يتعلم حلاوةَ المنطق؟!

الطالبة التي ترى معلمتها مقصرةً في حجابها, غيرَ محتشمةٍ في لباسها وهيئتها كيف تتعلم الفضيلة والعفاف؟!

كيف نريد من الأبناء أن يتربوا وهم ربما يرون من المدرسين من يُضيِّعُ الدرس بتحليل المباريات, أو بالتندر ببعض الطلاب, وإن تعامل ظلم وفاضل بين الطلاب بلا موجب, أيا معلم الجيل أنت الأمل بعد الله في زمن تكاثرت المفسدات, ولئن صعبت المهمة في هذه الأزمان, لئن كنتم البُناتُ أمام قنواتٍ متعددة للهدم من صحبة سوء ومواقع وقنوات, فإن الباني حين يبذر وينوي الخير فإنه قريب من التوفيق, فامض على بركة الله, فإن رأيت ثماراً فذاك عاجل البشرى وإلا سترى الأجر بإذن الله موفور يوم البعث والنشور

وبعد: فالاستثمار الحقيقي هو أن توجد من طلابك من إذا تعبّد أو تخلّق أو تربى فلك مثل أجره لأنك من غرس فيه, ترحل عن الدنيا ويبقى أجيال ربيتها, فربّوا من وراءهم, فلك مثل أجور الجميع, وفضل ربك واسع

رؤي أبو منصور الخباز بعدما مات في المنام فقيل ما صنع الله بك؟ فقال: غفر الله لي بتعليمي الصبيان فاتحة الكتاب.

 

 

الحمد لله وحد والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

أيها الآباء: إذا كان الأبناء فتنة فإنهم يكونون نعمة حين يقوم الأباء بواجبهم من نصح وتربية, جميل أن ترى قيام الآباء بتوفير حاجات الأبناء المدرسية والغذائية, وأجمل من ذلك أن نهتم بعقولهم وأخلاقهم قبل أبدانهم, ما ظنك أيها الأب بمن يوقظ أبناءه للدراسة ولا يتنازل عن يومٍ, ثم هو يتركهم فلا يوقظهم للصلاة بحجة أنهم ما أخذوا كفايتهم أو أنه يخشى عليهم, ما ظنك بمن يزمجر غضباً إن رسب ابنه في امتحان, ولا يحرك ساكناً إن رأى ابنه على عصيان؟!

أيها الآباء: كم تشكو المدارس من آباءٍ لا يعرفون عن أبنائهم إلا أنهم يدرسون, لا هو يكلف نفسه عناء السؤالِ عنهم أو متابعتِهم, فإذا حصل أدنى إشكال هرع فزعاً مستعداً للنزال, هلا سألت عن أقران أبنائك في المدرسة؟, هل رأيت قدوتهم وهو المدرس ووضعت يدك معه لاستصلاح الأبناء ؟ إن المُدرِّس لن يؤتي ثماره إذا كان الأب من وراءه يهدم ما بناه بمخالفة أوامر الله أمام الأبناء, إن المدرس لن يقدِّم رسالة إذا كان الأب من وراءه يذُمُّ المدرسين أمام أبنائه فذاك مما يهز ثقتهم في المعلم .

جميل أن تغرس في نفوس الأبناء مراقبة الله لا مراقبة معلم أو أب, جميل أن تغرس في نفوسهم حب العلم وسِير العلماء ليقبلوا عليه حباً له, بدلاً من التأفف عند كل عودةٍ للمدارس, جميل أن تغرس في نفوسهم أنهم يدرسون ليخدموا أمةً لا لمجرد نيل وظيفة أو تحصُلٍّ على شهادة

وبعد معاشر الكرام: فإذا كان وجود داعية في البلد يكون له الأثر, فما الظن لو كان كل مُدرس حمل همّ الدعوة؟ وكم سيكون عندنا من الدعاة؛ المدارس منطلقُهم, والطلاب جمهورهم, بارك الله في الجهود وأقر الله أعين الجميع بصلاح البنين وبنصرة الدين.

 

المشاهدات 2810 | التعليقات 1

السلبم عليكم

خطبة جميلة يا شيخ منصور حفظك ربي ويزداد جمالها لو كثرت النصوص القرآنية والنبوية ...