وصايا للحجاج وغيرهم
أ.د عبدالله الطيار
الخطبة الأولى:
إنّ الحمدَ للهِ، نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شُرورِ أنفسِنَا ومِنْ سَيّئَاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلَا مُضِلّ لَهُ، ومنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقُوا اللهَ أَيُّهَا المؤمنونَ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران:102].
عبادَ اللهِ: بعد أيام قليلة يبدأُ حجَّاجَ بيتِ اللهِ الحرامِ في التوجُّهِ لأداءِ مناسكِ الحجِّ، مستجيبينَ لنداءِ ربِّهم جلَّ وعلا، {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[الحج: 27]، وقد أنفقوا المالَ، وجادوا بالغالي والنَّفيسِ، تاركينَ الأهلَ والبُلدانَ، متوجهينَ لأفضلِ البقاعِ، وأشرفِ الأماكنِ، خاضعينَ خاشعينَ مخبتينَ مشتاقينَ، مُلبينَ نداءَ الرحمنِ، شعارُهم (لبيكَ الَّلهمَ لبيكَ، لبيكَ لا شريكَ لكَ لبيك، إنَّ الحمدَ والنِّعمةَ لكَ والملك، لا شريكَ لكَ لبيك).
فهنيئًا لحجَّاجِ بيتِ اللهِ الحرامِ كرمُ اللهِ وفضلُه، فقد قال رسولُ اللهِ ﷺ :(مَن حَجَّ هذا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ) رواه البخاري(1820) ومسلم(1350)، وقال أيضا: (الحَجُّ المَبرورُ ليس له جَزاءٌ إلّا الجَنَّةَ) رواه البخاري (1773).
أيُّها المؤمنونَ: أوصي مَنْ كَتَبَ اللهُ لهم الحجَّ هذا العامَ أن يشكروا هذهِ النعمةَ التي منَّ اللهُ عليهم بها، وأن يأخذوا بأسبابِ رضَاه ونيلِ رحمتِه وجنَّتِه، ويُخلصوا النِّيةَ له سبحانه ويحرصوا على صحةِ العبادةِ وقبولِها، وتجريدِ أعمالِهم من الرِّياءِ والسُّمعةِ، والمخالفاتِ الشرعيةِ، فإنَّ اللهَ تعالى لا يقبلُ من العملِ إلا ما كانَ خالصاً، موافقًا لهدي نبيِّهِ ﷺ وأن يكونَ حجُّهم خاليًا من الجَدَلِ والرَّفثِ والفُسوقِ: امتثالاً لقولِ اللهِ تعالى:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}[البقرة: 197].
وعليهم بحسنِ التعاملِ مع الحجاجِ وعدمِ إيذائِهم والالتزامِ بمكارمِ الأخلاقِ والتعاونِ على البرِّ والتَّقوى، والتناصحِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ والتيسيرِ عليهِم أثناءَ أداءِ العباداتِ وخاصةً الضعفاءَ من كبارِ السنِّ والنساءِ والأطفالِ.
وعليهم بالإكثارِ من التلبيةِ ورفعِ الصوتِ بها، والتكبيرِ والتسبيحِ والتهليلِ، استجابةً لقولهِ جلَّ وعلا:{وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أيام مَّعْدُودَاتٍَ}[البقرة: 203]، وقولِه تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أو أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة:200]
وعليهم بالإكثارِ من الدعاءِ في يومِ عرفةَ لقولِه ق:(خيرُ الدُّعاءِ دعاءُ يومِ عرفةَ)(رواه الترمذي (3585)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (3585).
وعليهم عندَ ذبحِ الهدايَا والنُسكِ أن يختاروا الأفضلَ والأطيبَ، استجابةً لقولِه تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}[الحج: 36].
وعليهم بالالتزامِ بما وَضعتُه الدولةُ من الترتيباتِ والتوجيهاتِ من أجلِ راحتِهم وسلامتِهم، وعليهم الحذرُ من التعرُّضِ لحرارةِ الشمسِ في أوقاتِ الذُّروةِ، وخاصةً مع ارتفاعِ درجاتِ الحرارةِ، وزيادةِ مخاطرِ التعرُّضِ لضرباتِ الشَّمسِ والإجهادِ الحراريَّ ووقايةِ النَّفسِ بعدمِ الخروجِ في هذهِ الأوقاتِ، أو اتخاذِ وقايةٍ من حرِّ الشَّمسِ كالمظلةِ أو غيرهَا انطلاقًا من مقاصدِ الشريعةِ الإسلاميةِ في حِفْظِ الضروراتِ الخمسِ، ومنها حفظُ النَّفسِ.
وأمَّا من نوى حجَّ هذا العامِ ولم يُقدِّرهُ اللهُ له فليبْشِرْ بفضْلِ اللهِ تعالى ورحمتِه، فإنَّه تعالى لا يُضيْعُ أَجْرَ من نوى خيرًا، فقد قال ﷺ :(مَن هَمَّ بحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، كُتِبَتْ له حَسَنَةً..) رواه مسلم (130)، وعليه أن يستغلَّ هذهِ العشرَ بأن يُشمِّرَ عن ساعدِ الجدِّ، ويبذلَ جُهدَه من أجلِ تحصيلِ الأجورِ العظيمةِ في هذهِ الأيامِ المباركةِ، فإنَّ فضلَ اللهِ واسعٌ وعطاءَه جزيلٌ وافرٌ.
عبادَ اللهِ: ومن العباداتِ العظيمةِ في هذِه الأيامِ المباركةِ لغيرِ حُجَّاجِ بيتِ اللهِ الحرامِ ما شَرَعَه جلَّ وعلا لنا من الصَّلاةِ، وذبحِ الأضاحي ونحرِها، قال سبحانه{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانحَرْ}[الكوثر: 2]، وعن البراءِ بن عازبٍ س قالَ: خَطَبَنَا النَّبيُّ ﷺ يَومَ النَّحرِ فَقَالَ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبدَأُ بِهِ في يَومِنَا هَذَا أَن نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرجِعَ فَنَنحَرَ، فَمَن فَعَلَ ذَلِكَ فَقَد أَصَابَ سُنَّتَنَا..) رواه البخاري (965)، ومسلم (1961).
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَاب}[البقرة:197].
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على فضْلهِ وإحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إلَه إلا اللهُ وحْدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحْبِه ومَنْ سارَ على نَهْجِه إلى يومِ الدِّينِ، أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ تعالى أيَّها المؤمنونَ واعلموا أنَّ في أيامِكم هذه يومًا من أعظمِ أيامِ العامِ، وهو يومُ عرفةَ، ويترتَّبُ على صيامِه أجرٌ كبيرٌ وثوابٌ جزيلٌ، فعنْ أبي قتادةَ رضيَّ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ ق:(سُئِلَ عن صَوْمِ يَومِ عَرَفَةَ؟ فَقالَ: يُكَفِّرُ السَّنَةَ الماضِيَةَ والْباقِيَةَ)(رواه مسلم(1162)، وصيامُ هذا اليومِ يُسنُّ لغيرِ الحاجِ، أما الحاجُّ فلا يُشرعُ له صيامُ يومِ عرفةَ، بلْ يُفطرُ ليكونَ أقوى له على الدعاءِ.
ويُسنُّ التكبيرُ المطلق من بَعْدِ غروبِ شمسِ آخرِ يومٍ من ذي القَعْدةِ، ويَستمرُّ إلى غروبِ شمسِ اليومِ الثالثِ عشرَ من ذي الحجَّةِ. والتكبير المقيد أدبار الصلواتِ لغيرِ الحاجِّ من فجرِ عرفة، وللحاجِّ من ظُهرِ يومِ النَّحرِ إلى عصرِ الثالث عشر من ذي الحِجَّةِ. يَقولُ: (اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ. لا إله إلا الله، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ وللهِ الحمدُ).
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى فقد أَمَرَكم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ من قائلٍ عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:56].
الجمعة: 3 /12/1443هـ