وصايا لقمان لابنه
أنشر تؤجر
الخطبة الأولى :
الحمدُ لله أَتَمَّ عَلَينَا النِّعْمَةَ وَأَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ , وأَشْهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ لَهُ , أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ , وَأَشْهَد أَنَّ مُحمَّدَاً عبدُالله وَرَسُولُهُ الْمَبعُوثُ رَحمَةً لِلعالَمِينَ ، صَلَّى اللهُ وسَلَّمَ وَبَارَكَ عليهِ وَعلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ وَمَن تَبعهمْ بِإحْسَانٍ إلى يومِ الدِّينِ .
أَمَّا بَعْدُ : فأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ .
عباد الله: إن مِنْ أَهَمِّ مَا يَطْمَحُ إِلَيْهِ الإِنْسَانُ فِي دُنْيَاهُ ، وَمِنْ أَعَزِّ الأُمْنِيَّاتِ عَلَى قَلْبِهِ : أَنْ يَرْزُقَهُ اللهُ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً صَالِحَةً ؛ وَقَدْ وَصَفَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عِبَادَهُ بِأَنَّهُمْ يَدْعُونَهُ أَنْ يَهَبَ لَهُمْ ذُرِّيَّةً صَالِحَةً تُسْعِدُهُمْ ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى :{ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا }.
فَالْمُسْلِمُ النَّاصِحُ ، وَالأَبُ الْمُشْفِقُ : هُوَ مَنْ يَحْرِصُ عَلَى أَمَانَةِ التَّرْبِيَةِ لأَوْلاَدِهِ ! فَهُوَ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ .
ولذلك نجد أنبياء الله والصالحين من عباده ، قد قاموا بتربية أبنائهم خير قيام ، ونصحوهم ووصوهم بأعظم الوصايا ، ومن ذلكم ما ذكره الله في كتابه الكريم ، من وصايا الرجل الصالح لقمان لابنه ، فحري بنا أن نقف معها ، ونوصي بها أنفسنا وأبنائنا ، فإنها عظيمة المعاني ، برغم أنها قليلة المباني .
قام لقمان يوصي ابنه بأول الوصايا وآكدِها ، ويقول ):يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[ لقمان: 13]؛ وهل أعظمَ من ظلم المرء نفسَه بالشرك ، حين يتوجه لغير ربه بالعبادة ، فالله سبحانه يَخلُقُ الخلقَ ويدبرُ الأمور ويقدِّر المقادير ، وهذا يَصرفُ العبادةَ لغيره ، ولذلك فإن الشرك أعظم الذنوب والله لا يغفره ، وصاحبه داخلٌ النار لا محالة ، إلا إن تاب منه ، قال سبحانه :( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ).
وبعد ذلك جاءت الوصية الثانية من لقمان لبنه ، وهي وصية تتابع الأمر بها في القرآن :( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ)[لقمان: 14- 15]؛ فالوالدان لهما الحق الأكبر ، والقدر الرفيع ، ومع هذا فلو أمرا ابنهما بالشرك بالله ، فليس لهما الطوع والإتباع ، بل حق الله آكد وطاعته أحق ، ومع ذلك فليس أمرهما له بالعصيان مجيز له أن يقابلهما بالنكران ، ونسيان الفضل لهما والإحسان ، بل صاحِبْهما في الدنيا معروفًا ، وكُنْ ببرهما في غير المعصية شغوفًا .
ثم عاد لقمان لابنه موصيًا بوصية تهزُ الجبال ، وتحركُ القلوب ، إنها وصيةٌ لا غنى لكل أب أن يسطرها في سويداء قلوب أبناءه ، بل وفي قلبه قبلهم ، ألا وهي مراقبة الله جل وعلا في السر والعلن ، وأن الله أحصى وأحاط بكل شيء علما ): يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ )[لقمان: 16]؛ فأين يغيب عن الله من يعصي ربه ، ولئن غاب العبد عن العبيد فإنه لا يغيب عن الرب المطلع المجيد .
إذا ما خلوْتَ ، الدّهرَ ، يوْماً ، فلا تَقُلْ خَلَوْتَ ولكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
ولاَ تحْسَبَنَّ اللهَ يغفِلُ ساعة وَلا أنَ مَا يخفَى عَلَيْهِ يغيب
ومن جميل وصية لقمان لابنه ، ووعظه لفلذة كبده ، أن أمره بالصلاة والمحافظة على أركانها وواجباتها ، فقال:( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ )،
نعم أيها الأب المبارك : إذا أردت صلاح ابنك وفلاحه في الدنيا والآخرة ، فأمره بالصلاة واجعله يحافظ عليها ، كما أمرنا الله بذلك فقال :( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ) وخيرُ ما عمرت به الأوقات ، الارتباطُ بالمساجد وإقامة الصلوات ، فبها نحلُ مشاكلنا ونرضي ربنا ونرفع في الدنيا والآخرة درجاتنا ، ونعالج همومنا ونمحو سيئاتنا .
ثم أوصى لقمان ابنه قائلاً :( وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ)[لقمان: 17]، والأمر بالمعروف ليس حكرًا على جهاز ، ولا وقفًا على أهل الاستقامة ، بل على كل مسلم في المجتمع ، وهي كلمة الإصلاح والنصيحة تقولها في بيتك أو عملك أو مجتمعك ، ضد كل منكر تراه صغر أو كبر ، ولكل من تراه محتاجًا إليها ، فلتقم بنصيبك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
واعلموا رحمكم الله : أن كلُ سالكٍ طُرقَ الأمر بالمعروف قد يتعرَّضٌ للأذى باللسان وباليد ، ولا عجب ، فقد أوذي أفاضل المصلحين من الأنبياء والمرسلين ، وهنا يوصي الحكيم ابنه فيقول ): وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ )[لقمان: 17].
هل يظن الداعية إلى الله أنه سيدعو وسيستقبل بالحفاوة في كل مكان حلّ به ، كلا ، بل قد يؤذى الداعية والمحتسب قد يعترضُ طريقه وقد يحال بينه وبين حريته ، ولكن الأمر يهون ما دام في سبيل نشر الدين ، وليس هذا في الدعوة والاحتساب فحسب ، بل لن تستقيم الحياة بلا صبر ، فلن يتحمل المرء فعل الطاعات ، ولا ترك المنهيات والنفس تؤزه لذلك إلا على جسر من الصبر ، وكل الدنيا تحتاج لصبر ، فالأقدار المؤلمة ، والأوامر والنواهي تحتاج لصبر ومصابرة ، وبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين .
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة ، أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده :
أما بعد فيا عباد الله : لا زالت وصايا الأب الصالح لقمان لابنه مستمرة بأسلوب لطيف ، وكلمات تدل على الشفقة والرحمة صدرها بقوله ( يا بني ).
ثم ختم لقمان وصيته لابنه برعاية مكارم الأخلاق وجميل الآداب ، والبعد عن سفاسف الأخلاق ورديئها ، فقال :( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ( أي : لا تُعَبِّس في وجوههم ولا تتكبر عليهم ، فالكبر من أشنع الأدواء ، وكفاه أنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، وعلى أي شيء يتكبر الإنسان وما عنده من شيء إلا وهو من الله ، أعلى عِلمه الذي من العليم ، أم على ماله الذي هو عاريّة بيده ، أم على نسبه وما نفع النسبُ أبا لهب ، أم على منصبٍ هو اليوم له وغدًا لغيره ، ولو عقل الإنسان لما صعّر خده لأحد ولا ترفع على أحدٍ ، وكم من امرئ هو عند الناس محتقَر وهو عند رب العالمين من أقرب البشر .
ثم قال لقمان لابنه : )وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) [لقمان: 18] أي : لا تفرح بالنعم وتنسى المنعم ، فالله لا يحب المتكبر في نفسه الفخور بما عنده .
ثم قال :( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ) فمن كمال الدين ، وروعة وصايا الحكيم ، أن جاءت الوصية في المشي أن يكون قصدًا ، لا بسرعة ولا ببطء ، وذاك أسلم لأبدانهم وأبقى لمروءتهم وقُواهم .
ثم قال لقمان لابنه :( وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان: 19]، والعرب كانت تفاخر بجهارة الصوت ، فأكد الله أن العزة ليست بالصوت ، ولو كان كذلك لكان الحمار أعز شيء ، فاغضض من صوتك ، واجعله بين الجهر المؤذي ، والإسرار الذي لا يسمع ، ويُذم الصوت الرفيع في أماكن العبادة ، ويتأكد ذلك في المساجد.
وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صوت رجل مرتفع في المسجد ، فقال :" أتدري أين أنت ؟!" .
هذه أيها الإخوة وصايا لقمان تجمع أمهات الحكم ، جدير أن يوصي بها الآباء أبناهم ، والحكماء أتباعهم ، ولشرفها حكيت في القرآن ، وسميت سورة باسمه .
نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا البصيرة في الدين ، وإتباع نهج الصالحين ، وأن يصلح أبناءنا وبناتنا ويوفقهم لكل خير .
هذا وصلوا وسلموا على نبينا محمد ، فقد أمركم الله بذلك ، فقال سبحانه :( إنّ الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا ) اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وارض اللهم عن الصحابة و التابعين ، ومن تبعهم ، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واخذل من خذل الدين.
اللهم احفظ ولاة أمرنا، ووفقهم بتوفيقك وأيدهم بتأييدك .
اللهم أصلح قلوبنا ، واشرح صدورنا ، ويسر أمورنا ، واغفر ذنوبنا ، واشف مرضانا ، وارحم موتانا .
اللهم أعنا على ذكرك وعلى شكرك وعلى حسن عبادتك .
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا؛ إنك أنت التواب الرحيم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
المرفقات
1724939418_وصايا لقمان لابنه.docx